أرشيف مجلة «الشرق الأدنى» يروي قصة الملك عبد العزيز ودولته الناهضة

شكلت وحدة إقليمي الحجاز ونجد حدثاً تاريخياً لافتاً على المستوى الإقليمي والدولي، إذ عُدّ هذا الحدث أهم فترات بناء الدولة السعودية الحديثة. فقد ساهم مشروع وحدة الحجاز بنجد من خلال «مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها»، في بناء أرضية الدولة بوحدتها الكاملة، والانفتاح على العالم الخارجي، والإسراع في اعتراف الدول، خصوصاً الغربية، بدولة الملك عبد العزيز، والبدء في بناء العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء والقناصل مع الدول التي اعترفت بها، إضافة إلى إقرار الأنظمة الداخلية والخارجية وبناء الدولة الحديثة... وفوق ذلك كله نشر الأمن والأمان في ربوع المملكة، وخدمة الحجاج وتأمين الخدمات التي يحتاجون إليها في ظل إمكانيات متواضعة، وحمايتهم من النوازل التي كانت تلازمهم في الفترات السابقة لقيام هذه المملكة. كل هذا حدث في ظروف إقليمية ودولية بالغة الصعوبة، حيث كانت مشاريع كل من فرنسا وبريطانيا الاستعمارية مستمرة لصناعة حدود الدول العربية وطمس معالم وحدتها وفرض الهيمنة عليها وفق مصالحها، ورسم خريطة جديدة للمنطقة.
في هذه الأجواء، كان الصوت العربي غائباً لرصد ما يجري، وكانت الأحداث متسارعة ويصعب تسجيلها، ما أفقد الذاكرة العربية حتى اليوم تاريخاً وأحداثاً مهمة وقعت في تلك الفترة قبل 95 سنة وشكلت هذه الأحداث الواقع الجديد. غير أن صوتاً وحيداً لم يكن غائباً هو صوت المؤرخ والإعلامي الكبير أمين سعيد، الذي رصد كل هذه الأحداث في مجلته «الشرق الأدنى»، التي أصدرها في القاهرة عام 1927م، الموافق 1346هـ، جاعلاً منها صوتاً لنصرة قضايا الأمة العربية. ولقد احتلت أخبار الحجاز ونجد وملحقاتها مكانة الصدارة فيها، ونجحت المجلة في تحقيق الغرض المطلوب في رسالتها الإعلامية تجاه مملكة الحجاز ونجد خاصة، والدول العربية عامة، علماً بأن أمين سعيد كان فتح صفحات مجلة «المقطّم» المصرية ليستقل بوسيلة أخرى، وهي مجلة «الشرق الأدنى».
وبخلاف عادة نظر الباحثين والمؤرخين إلى المجلات والصحف من زاوية العين، لا من العين كلها - لاعتقادهم بأن المجلات والصحف آخر ما يفكرون فيها لجعلها وسيلة لتوثيق أحداث تاريخية - أتت مجلة «الشرق الأدنى» لتقدم صورة مصدرية وذات مصداقية عن تاريخ المملكة العربية السعودية في مرحلة مهمة من نشأتها.
المؤرخ السوري عبد الكريم إبراهيم السمك، المقيم في السعودية منذ نصف قرن والحاصل على الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر، قدّم رصداً لكل ما احتوته «الشرق الأدنى» وعرضه صاحبها أمين سعيد من نفائس الأخبار والأحداث والاتفاقيات التي عاشتها «مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها» في فترة تُعد من أهم فترات بناء الدولة السعودية في محيطها الإقليمي والدولي. وجمع الحصيلة في كتاب من جزأين، مضيفاً بذلك إلى مكتبة التاريخ السعودي عملاً نفيساً ونادراً في الدولة الحديثة.
في لقاء مع «الشرق الأوسط» قال السمك: «تأتي أهمية هذا العمل النفيس والنادر بسبب معاصرته للحدث، ومشاهدة صاحبة لعطاء سياسة الملك عبد العزيز في هذه العملية العظيمة، فكان هذا العمل بحكم المفقود في بطن مجلة (الشرق الأدنى) لأمين سعيد. وبنشره اليوم كان بمثابة الحلقة المفقودة في هذا التاريخ الكريم، وها هو يرى النور بعد 95 سنة مضت عليه. وأمين سعيد سبق له أن كتب كتابات متفرقة في جريدة (المقطّم) ومجلة (المقتطف) عن الملك عبد العزيز، ضمن ضوابط أصحاب هاتين الوسيلتين الإعلاميتين، بسبب ولاء أصحابها للسياسة البريطانية». وأردف: «كذلك تأتي أهمية هذه المواد التي جاءت في المجلة من عدة جوانب، منها أنها كتابة معاصرة لهذه المرحلة في بناء الدولة على يد الملك المؤسس. ولقد سمت المجلة في الساحة الإعلامية المصرية، لكونها أول مجلة عربية تناصر قضايا العرب جميعها، وخاصة منها ما يخدم التاريخ السعودي».
وأشار السمك إلى أن «أهمية هذا العمل تظهر أيضاً في جوانب أخرى منها: ندرة المجلة غير الموجودة إلا في موروث أمين سعيد، والكتابة فيها من قبل أمين سعيد كانت كتابة موالاة ووفاء ومصداقية. أيضاً استطاعة أمين سعيد استقطاب الرأي العام في مصر لتأييد سياسة الملك عبد العزيز في توحيده للحجاز بنجد، وتغيير موقف هذا الرأي العام من المعارضة إلى الموالاة للملك. ثم إن الميزة الأهم أن المجلة كانت الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي تحملت عبء نصرة سياسة الملك عبد العزيز خارجياً، وخاصة في القاهرة عاصمة الإعلام في العالم العربي ذلك التاريخ»، وهنا يلفت السمك إلى أن أمين سعيد لم يكن يعلم بأن حرص المجلة على تأييد سياسية الملك عبد العزيز سيدفع بريطانيا لتعطيلها، مبرزاً أن المجلة لم تقتصر في توزيعها في مصر فقط، بل كانت تصل إلى معظم الأقطار العربية.
من ناحية أخرى، أبرز المؤرخ عبد الكريم السمك القضايا التي تناولتها المجلة في سياسة البناء التي انتهجها الملك عبد العزيز من خلال الانفتاح على العالم الغربي ودوله، بعد ما قررت عشر دول غربية الاعتراف بمملكة الحجاز ونجد، وخاصة بعد الذي لمسه قناصل هذه الدول المقيمون في جدة من استقرار الحجاز. وبالفعل، قدموا تقاريرهم لدولهم بذلك، الأمر الذي دفع الملك عبد العزيز إلى تكليف ابنه الفيصل زيارة هذه الدول وتقديم الشكر لها على الاعتراف الرسمي بالدولة. وترتب على ذلك تبادل السفراء والقناصل مع هذه الدول. وأيضاً، مضى الملك عبد العزيز في بناء الدولة بأنظمة حديثة متطورة، واكب فيها أنظمة الدول الغربية الحرة على المستويين الداخلي والخارجي، منضماً إلى «عصبة الأمم» عام 1928م. ويضاف إلى ذلك تأسيس «مجلس شورى» أشرك فيه أبناء الحجاز للنهوض بالدولة وبنائها والارتقاء بنهضته في الإعمار وتوفير المياه والخدمات الصحية والتعليم وإصلاح الطرق وبنائها، مع تقديم أسمى الخدمات للحرمين الشريفين. وبجانب هذا كله، أحسن الملك صنعاً بتعيين ابنه الأمير فيصل نائباً له على الحجاز، فقام الأمير بإدارته وتنظيم أموره على أحسن وجه.
ويتابع السمك قائلاً: «وتوج الملك عبد العزيز هذه الأعمال بسياسة الأمن والأمان، وكان من نتائج هذه السياسة توفير الأمن للحاج من ساعة وصوله حتى سفره إلى بلده، وهكذا لمس المسلمون الفارق بين الحاضر والماضي. ولما لمسه المسلمون من الحال الذي ارتقى فيه الحجاز، وجّه الملك عبد العزيز الدعوة لعلماء المسلمين في العالم لحضور أول حج بعد وحدة الحجاز بنجد. ولما وقعت عليه عيون هؤلاء العلماء من نهضة الملك بالحرمين الشريفين، وراحة حجاج بيت الله وزوار الحرمين وطيب الرعاية، ما كان منهم إلا مباركة الملك في حكمه للحجاز وسدانته للحرمين الشريفين. ومع هذه المباركة من العلماء المسلمين للملك، ازداد عدد الحجيج في الأعوام التالية، بعدما تخطت سمعة نجاحات الملك عبد العزيز في إدارة شؤون الحرمين وتنظيم أموره، الحدود لتصل إلى عموم المسلمين في العالم.

محتويات المجلة
الكتاب أبرز محتويات المجلة في أعدادها الـ67، على صعيد المواد التي تخص التاريخ السعودي لعل أبرزها الإصلاح والتجديد في الحجاز، و«معاهدة جدة» التي وصفتها المجلة بأنها «أعظم فوز سياسي أدركه ابن سعود حتى الآن»، وسياسة إيطاليا في البحر الأحمر وعلاقتها مع جميع الدول المطلة عليه بمن فيهم ابن سعود. كذلك احتوى أحد الأعداد على حوادث وأخبار، بجانب نص «معاهدة جدة» ونشر الاتفاقية في الصحافة البريطانية ومباركة ملك بريطانيا للاتفاق. وفيها أخبار عن الأوامر الملكية للملك عبد العزيز بإصلاح الطرق بين مكة وعرفات، ومنى والطائف، مع أخبار أخرى، منها تكليف الشيخ كامل القصاب النهوض بالتعليم.
على صعيد متصل، احتوت المجلة على مواد عن العلاقات الإيرانية الحجازية النجدية، والعلاقات الحجازية النجدية مع اليمن، وملحقات «معاهدة جدة»، ونص قرار الإبرام وتبادل قرارات الإبرام. وأيضاً، حملت أعداد المجلة مسألة توتر العلاقات النجدية مع العراق، بسبب هجوم «الإخوان» على حدود العراق، الأمر الذي دفع الملك عبد العزيز إلى العمل على الحد من هجماتهم، إضافة لتسويات الحدود مع اليمن، كما تناولت المجلة نظام النقد في الحجاز ووضعه موضع التطبيق. كذلك صاغ أمين سعيد موضوعا عنوانه «نظام الحكم في بلاد العرب، كيف يحكم الحجاز»، وهو دراسة مقارنة بين حال الحكم الجديد (السعودي) والحكم الذي سلف (الهاشمي). وتضمن بحثاً مستفيضاً، سواء في القضاء أم الزكاة أم الإدارة أم التعليم أم الأمن والصحة والبناء.
في الحقيقة، من الصعوبة الإحاطة بكل ما نشرته مجلة «الشرق الأدنى» عن حالة «مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها»، وأبرزه المؤرخ السمك. ولكن مما يلفت الصور المهمة التي نقلها أمين سعيد من خلال رحلته إلى الحج ولقائه الملك عبد العزيز. ولقد تحدث فيها سعيد عن النهضة بكل أطيافها التي شهدها الحجاز على يد الملك المؤسس، معتبراً أن «الحجاز (كان) لا يزال على الفطرة»... وأن يد الإصلاح والتعمير لم تمتد إليه شأن معظم الأقطار العربية التي كانت خاضعة للحكم التركي. وشدد على أن الحكومة العثمانية لم تترك في هذه البلاد الشاسعة الواسعة ما يدل على أنها قد حكمتها إلا في بعض أبنية أنشأها أحد القادة في القرن الماضي «ولولاها ما كان هناك ما يذكّر الناس بها وبعهدها»، مضيفاً أن «أول ما فعله ابن سعود هو أنه قد دك النظام البالي القديم دكّاً، وأقام على أنقاضه نظاماً جديداً يختلف من جهات كثيرة عن النظام الذي كان متبعاً في العهد التركي». وزاد أمين سعيد بالقول إن النظام الذي أنشأه ابن سعود للحجاز، هو مزيج من أنظمة شتى فقد أخذ من كل نظام ما اعتقد أنه الأصلح للبلاد.
المجلة كُتِبت أيضاً عن وفاة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، والد ملك الحجاز ونجد، ووصفته بأنه «من أعاظم رجال العرب في السياسة والعلم، وقد اشتهر بالعدل بين رعيته، والأخذ بناصر الضعيف إلى القوي»، مضيفة أنه «لما استتب الأمر في نجد لآل سعود وعادت الإمارة إليهم، كانت الإمامة فيها للمرحوم الإمام عبد الرحمن، ولكنه لكبر سنه وعدم قدرته على الاضطلاع بأعباء الحكم، قلدها لنجله عبد العزيز جلالة الملك الحالي، الذي افتتح الحجاز بعد ذلك».

أخبار متفرقة
كذلك، حملت أعداد المجلة على صعيد ما يتعلق بالحج وراحة الحجيج، أن الملك عبد العزيز شهد بناء أول دار لكسوة الكعبة. ومن الأخبار العامة الأخرى نشرت أخباراً عامة في قضايا العلاقات الدولية، عربية كانت أم غربية، إذ حمل أحد أعداد المجلة خبراً بعنوان «بين الحجاز والسوفيات»، جاء فيه «وصلت في الأسبوع الماضي إلى جدة من أوديسا الباخرة (يانتوميس) من بواخر الحكومة السوفياتية تحمل 9054 طرداً من البضائع المختلفة لبيعها في أسواق الحجاز، لأن حكومة موسكو تنوي كما يظهر إنشاء صلات تجارية مع بلاد العرب». وتابع الخبر أنه وصل على هذه الباخرة ستة ركاب من روسيا، فنزلوا إلى جدة بلا معارضة ومن دون أن يبرزوا جوازات سفرهم. ولكن عندما وصل الأمر إلى الحكومة المحلية، فحصت جوازاتهم، فرأت أنها غير مستكملة الشروط التي تتيح لهم الإقامة في الحجاز، وعندها دعتهم إلى الرجوع من حيث أتوا.
وتابع الخبر أنه على أثر ذلك تدخلت دار الاعتماد السوفياتية، وأبلغت أن من بين هؤلاء الركاب اثنين جاءا للعمل في دارها؛ أحدهما طبيب والثاني كاتب، فسمحت لهما الحكومة بالبقاء وأصرت على إعادة الآخرين وهكذا كان. ومن ثم، ذكرت المجلة أن نائب الملك أصدر أمراً بفصل مأمور جوازات جدة من وظيفته، لأنه قصّر في فحص جوازات هؤلاء القادمين، وتسامح معهم، وأثبتت الحكومة الحجازية بعملها هذا أنها لا تسمح بتسرب الشيوعية إلى بلادها.