الجمهوريون... بين التهنئة والتنديد والصمت

TT

الجمهوريون... بين التهنئة والتنديد والصمت

قابل تدفُق التهاني الديمقراطية بفوز مرشح الحزب جو بايدن بالسباق الرئاسي الأميركي، صمت جمهوري متحفظ وتصريحات خجولة من بعض وجوه الحزب. فموقف الرئيس الأميركي دونالد ترمب الرافض حتى الساعة بالاعتراف بنتيجة الانتخابات، وضع أعضاء حزبه في موقف حرج. فإذا ما هنأوا بايدن، خشوا من غضب سيد البيت الأبيض الذي عزز قاعدته الشعبية، وإذا ما دعموه في موقفه خشوا من انقلاب الموقف عليهم؛ فالتشكيك بنتيجة الانتخابات يعني بالنسبة للبعض منهم، الذين فازوا في الانتخابات التشريعية، تشكيكاً ضمنياً بفوزهم، لهذا لجأ هؤلاء لسياسة الصمت حتى صدور نتيجة التصويت الرسمية.
أبرز هؤلاء زعيم الأغلبية الجمهوري ميتش مكونيل، الذي لم يحرك ساكناً بعد إعلان فوز بايدن. فضّل مكونيل الذي تجمعه علاقة زمالة سابقة بالمرشح الديمقراطي بحكم عملهما معاً في مجلس الشيوخ، عدم اتخاذ موقف مناقض لترمب خشية من انقلاب موقفه ضده في سباق مجلس الشيوخ في ولاية جورجيا. مكونيل المعروف بحذره البالغ والتخطيط التكتيكي لتحقيق مكاسب انتخابية للحزب في المجلس، يسعى للحفاظ على الأغلبية الجمهورية في هذا المجلس، وسيكون سباق جورجيا هو السباق الحاسم الذي سيقرر مصير هذه الأغلبية الجمهورية.
وبحسب مصادر تحدثت معها «الشرق الأوسط»، هناك نقاش داخلي في الحزب الجمهوري لدراسة نتائج الانتخابات التشريعية، خاصة في ولاية جورجيا، لمعرفة توجهات الناخب الجمهوري وطبيعة دعمه لترمب. فالتباين في نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية كان مقلقاً لبعض الجمهوريين، لأنه عنى أن الناخب الجمهوري قسم خياره بين جمهوريي «الكونغرس» وديمقراطيي الرئاسة. فورقة التصويت واحدة، والنتيجة النهائية، تعنيان أن الناخب اختار تمثيلاً جمهورياً في الكونغرس، ورئيساً ديمقراطياً.
ولهذا، فإن الجمهوريين التقليديين المعروفين بحذرهم البالغ لم يدلوا بأي تصريحات مثيرة للجدل، مرحّبة بنتيجة فوز بايدن أو داعمة لترمب. لكن هذا لا يعني أن زملاءهم حذوا حذوهم، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال دعم البعض منهم للرئيس الأميركي والإعراب عن ولائهم له. أبرز هؤلاء كان السيناتور الجمهوري رون جونسون الذي شن هجوماً لاذعاً على وسائل الإعلام، وقال: «بوجه الجهود المنسقة لإيذاء إدارته منذ اليوم الأول، ووسائل إعلام لا تمت إلى التوازن بصلة، الرئيس دونالد ترمب كافح ليجعل أميركا أفضل، وأصدر نتائج رائعة. بغض النظر عن النتيجة، سوف يكون في نظري الفائز والرجل الوطني الذي يحب أميركا».
وتعكس هذه التصريحات التحدي الذي سيواجه بايدن في مجلس الشيوخ، فمما لا شك فيه أن جونسون سيكون شوكة في خاصرة الرئيس المنتخب؛ فهو مَن قاد جهود التحقيق بنجله هنتر بايدن، وتعهَّد بالاستمرار في متابعة هذا الملف في لجنة الأمن القومي في مجلس الشيوخ. وجونسون لن يكون السيناتور الوحيد بمواجهة بايدن، فعلى الأرجح سيواجه شخصيات بارزة مثل تيد كروز وماركو روبيو ومايك لي، وهم من وجوه الحزب الجديدة نسبياً الذين يحظون بدعم قاعدة شعبية مشابهة لقاعدة الرئيس الأميركي، إن لم تكن نفسها. هذه الوجوه ستسعى من دون شك إلى عرقلة المصادقة على تعيينات بايدن في إدارته الجديدة، خاصة إذا ما طرحت أسماء كمستشارة الأمن القومي السابقة سوزان رايس، والسيناتور التقدمية إليزابيث وارن.
وقد أظهر تعدد مواقف الجمهوريين بعد فوز بايدن انقسامات داخلية في صفوف الحزب الجمهوري، إذ بدا الشرخ واضحاً بين وجوه الحزب التقليدية المحافظة.
مثل السيناتور عن ولاية يوتا ميت رومني، والوجوه الأخرى الممثلة بروبيو وكروز. رومني مثلاً كان من أول الجمهوريين المهنئين لبايدن، ورغم أن الأمر لم يكن مستغرباً نظراً لعلاقته المتشنجة مع ترمب بعد أن صوت لصالح عزله في مجلس الشيوخ، فإن لهجة رومني عكست العلاقة التي يتمتع بها بايدن مع زملائه في مجلس الشيوخ، حيث خدم لعقود. وقال رومني: «إن (زوجته) وأنا نهنئ الرئيس المنتخب جو بايدن ونائبته كامالا هاريس. نعرفهما كأشخاص طيبين ومحترمين».
وانضمت إلى رومني زميلته الجمهورية ليزا مركوفسكي التي وجهت انتقادات مبطنة لترمب، فقالت: «يبدو أننا سنشهد انتقالاً سلمياً للسلطة وهو مهم للغاية في نظامنا الديمقراطي ويكرم الشعب الأميركي وخيارهم». ولعلّ ما قالته مركوفسكي يعكس التململ الحاصلين بين الجمهوريين بعد تهديدات الرئيس بعدم تسليم السلطة بشكل سلمي، ويقول البعض إن مواقفه هذه هي التي أدت إلى سحب قنوات محافظة كـ«فوكس نيوز» دعمها التام له.
وكما جرت العادة في «الكونغرس»، فإن أكثر التصريحات جرأة وصراحة غالباً ما تأتي على لسان المتقاعدين من المشرعين، الذين لا يسعون للترشح لولاية ثانية، فيقولون ما يريدون من دون خشية سحب الناخبين لدعمهم لهم. وخير مثال على ذلك النائب الجمهوري عن ولاية تكساس الحمراء ويل هيرد الذي قال: «أميركا تحدثت ويجب أن نحترم قرارها. ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟