إعلام أميركا التقليدي في أزمة بعد 4 سنوات من إدارة ترمب

TT

إعلام أميركا التقليدي في أزمة بعد 4 سنوات من إدارة ترمب

لا يزال الإعلام الأميركي في خضم أزمة طويلة المدى أطلقتها مواجهة مستمرة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب منذ دخوله البيت الأبيض. وعلى دفتي الصراع الذي عادة ما يكتسب زخماً أكبر في موسم الانتخابات، تطرح تساؤلات عما إذا كان الإعلام التقليدي لا يزال يحتفظ ببريقه واستقلاليته وثقة الجمهور، أم أن «المعارك» التي خاضها مع البيت الأبيض قد أزالت عنه غطاء «الحيادية» الذي قد لا ينجو من دونه مستقبلاً في وجه التأثير المتنامي لوسائل التواصل الاجتماعي.
في عام 2016، نُقل عن عدد من مديري الأخبار في كبرى محطات التلفزيون الأميركي أن مجيء ترمب منحهم 4 سنوات إضافية من الحياة، في ظل التراجع الذي يسجله الإعلام المرئي التقليدي بسبب ثورة الاتصالات الحديثة، بل تحدث بعضهم عن احتمال اختفاء عدد من هذه المحطات، وهو ما يمكن تتبعه على الأقل مع تسريب معلومات عن احتمال قيام رئيس شركة «أمازون»، جيف بيزوس، بتقديم عرض لشراء محطة «سي إن إن»، وهو الذي اشترى قبل سنوات صحيفة «واشنطن بوست» التي كانت تعاني كغيرها من وسائل الإعلام المكتوبة من انعكاسات ثورة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي.
يتساءل أحد الكتاب، في مقالة رأي في صحيفة «وول ستريت جورنال»، عن سبب «كراهية» وسائل الإعلام دونالد ترمب كثيراً! سؤال حاول كثيرون الإجابة عنه، لكن الكاتب يقول إن إجابة منطقية واحدة يمكن أن تلخص السبب: «نحن دولة على خلاف حول المبادئ الأساسية للآيديولوجيا والاقتصاد والدين والعرق والثقافة والأخلاق، وحتى تاريخنا. لقد وقفت وسائل الإعلام إلى جانب واحد، وترمب وقف ضدها».
لكن على الرغم من هذه الحرب المحمومة، وبحر التكهنات التي سبقت الانتخابات وتوقّعت خسارة ترمب، يتحدث كثيرون عن تحفظات جدية وحبس أنفاس حقيقي لدى كثير من مسؤولي وسائل الإعلام، في الوقت الذي يتوقع فيه بعضهم احتمال إعلان كثير منهم التقاعد، سواء فاز ترمب أو بايدن.
إلى ذلك، يرى بعضهم أن الانحياز الليبرالي لوسائل الإعلام التي حاولت الظهور بمظهر الحياد على الدوام كان واضحاً، وأن الحرب التي خاضها ترمب ضدها سببت لها أضراراً لا يمكن إصلاحها. وفي المقابل، يرى آخرون أن ترمب أعاد للإعلام القديم عظمته من جديد، على الأقل بسبب «هوسه» به، وأن بعضهم يخطط إما لتغييرات وتحولات كبيرة أو للتقاعد في الأشهر المقبلة التي ستلي الانتخابات بمعزل عمن يفوز فيها.
وقبل انتخابات عام 2016، حذر أندرو لاك، رئيس «إن بي سي نيوز»، زملاءه من أن عائدات محطة «إم إس إن بي سي» ستتضرر بنسبة 30 في المائة إذا انتخبت هيلاري كلينتون، وفق تقرير لـ«نيويورك تايمز». وأجّل فوز ترمب إطلاق رصاصة الرحمة على بعض تلك المؤسسات، وربما يمدد استمرارها 4 سنوات إضافية، إذا ما أعيد انتخابه. وحتى الكتب السياسية شهدت موسماً جيداً في السنوات الأربع الماضية، مع قيام كثير من السياسيين والمسؤولين السابقين بنشر «مذكرات» تعاملهم مع ترمب؛ لقد كان الرئيس مادة مربحة. وبعض التوقعات تشير إلى أن خسارة ترمب قد تؤدي إلى موجة إقفال لكثير من المؤسسات الإعلامية، وإلى «هدوء» لدى وسائل أخرى يصل إلى حد الرتابة، فيما عدد الأشخاص الذين يواصلون الاهتمام بمتابعة الأخبار يتجهون أكثر فأكثر نحو منصات التواصل الاجتماعي. ومع استخدام ترمب المكثف لـ«تويتر»، شكت كثير من وسائل الإعلام من عدم قدرتها على مجاراة هذا التطور. ونقلت «نيويورك تايمز» عن ستايسي ماري إشمايل، مديرة التحرير في «تكساس تريبيون» غير الربحية: «لقد أمضت كثير من المؤسسات الإعلامية السنوات الأربع الماضية بشكل عام وهي تخفق في التكيف مع رئيس وبيت أبيض وإدارة وحملة انتخابية على الإنترنت، وفشلت في تحديد كيفية التعامل مع الأساليب الخطابية والرسائل والاتصالات الغارقة في المعلومات المضللة والدعاية».
وتوقع آخرون حصول تحولات ثقافية أعمق، من السياسة إلى الترفيه، بعد عودة الاستوديوهات للعمل، في حال خسر ترمب. لكن إريك نيلسون، مدير التحرير في «برودسايد بوكس» المحافظ، يقول: «على العكس، إذا انتخب بايدن فسينشط المحافظون، ولن يتراجعوا إعلامياً». وقد يستمر ترمب في التغريد، رغم موجة التشهير والفضائح التي ستنشر من فترة رئاسته.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟