البحرين.. زعيم الوفاق في {قبضة القانون}

أمين عام كبرى جمعيات المعارضة في النقطة الحرجة أمام كشف ممولي العنف في البحرين

علي سلمان
علي سلمان
TT

البحرين.. زعيم الوفاق في {قبضة القانون}

علي سلمان
علي سلمان

ماذا يحدث في البحرين؟ هل غضبت حكومة المنامة على جمعية الوفاق كبرى جمعيات المعارضة السياسية التي كان يعتقد أنها تلقى معاملة خاصة، من الحكومة.. هل انتهى شهر العسل.. وما الذي أجبر المنامة على المجازفة بتوقيف أمين عام الجمعية الشيخ علي سلمان؟.. وفي الطرف الآخر تدور أسئلة أخرى من نوع.. لماذا لم تجد الخطوة رد الفعل الكبير الذي كان يحدث داخليا وإقليميا ودوليا، لماذا لم تقم الدنيا ولم تقعد. ما الذي تغير.
فالإجابة تبدو طبيعية كما يقول مسؤولو حكومة البحرين.. لأن ما يحدث هو في الإطار القانوني.. في دولة القانون تتم المحاكمات والاستجوابات.. وتتم مساءلة الكبير والصغير، وفق النظم القانونية.. لذا فان ردة الفعل لم تكن كما كان يتوقعها البعض.. حتى إن أنصار الوفاق أنفسهم ظلوا في حالة من الدهشة من الموقف برمته.. ومن ردة الفعل الباهتة.
جهات خارجية غربية تجاهلت خطوة توقيف الشيخ سلمان باعتبارها تمت وفق القانون فيما اكتفت جهات أخرى بمطالبة المنامة بإعمال القانون.. ولا شيء غيره.
لكن رغم ذلك يرى البعض أن نشاط الوفاق السياسي لم يتغير منذ أحداث 14 فبراير (شباط) من عام 2011 وحتى الآن، فهي تنظم المسيرات والفعاليات وتصدر البيانات ويتحدث قادتها للإعلام وفي المناسبات، ولم يحدث أن خضعوا للإيقاف أو للتحقيق أو تم عرضهم على المحاكم، مما دفع بعض المراقبين إلى الاعتقاد بأن «الوفاق» تحظى بمعاملة خاصة، فقياداتها لم تتهم في قضايا تمس أمن الدولة كما حدث مع جمعيات سياسية أخرى معارضة. فلماذا الآن.
الواضح جليا في الوقت الحالي هو انحسار الحراك السياسي المعارض في البحرين، ولم يبق منه إلا مظاهرات خجولة تتم في القرى التابعة للمعارضة، وباعتراف المعارضين أنفسهم. وهي تحركات لا تستدعي حتى تحرك الجهات المعنية لمواجهتها لأنها تتم في إطار المسموح.
ومعروف ومنذ أمد بأن الدولة والجمعيات المعارضة لم يكونا يوما على وفاق، فتحدث تجاذبات لكنها سرعان ما تنتهي، وإن كان أبرزها ما حدث في سبتمبر (أيلول) عام 2013، وهي الأزمة التي كانت مؤشرا حينها للإطاحة بحوار التوافق الوطني في نسخته الثانية.

* تساؤلات مقلقة

* يواجه الشيخ علي سلمان أمين عام جمعية الوفاق عقوبة قد تصل إلى السجن 10 سنوات إذا ثبتت عليه تهمة التحريض على تغيير نظام الحكم بالقوة، ففي تجمع عام لجمعية الوفاق تحدث أمين عام الجمعية عن عرض تلقته المعارضة البحرينية بانتهاج أسلوب المعارضة السورية لتحويل البحرين إلى معركة عسكرية، كما تحدث عن هذا العرض في حوار أجرته مع إحدى القنوات الفضائية.
السؤال الذي يقلق البحرينيين خلال هذه الفترة هو الجهة التي قدمت هذا العرض لتحويل مملكتهم الصغيرة إلى بركة من الدماء. يقول نائب في البرلمان البحريني: «نريد أن نعرف هذه الجهة، فقد يقبل شخصية غير الشيخ علي سلمان أو تيار غير الوفاق هذا العرض».
بعد عام تقريبا وخلال الربع الأخير من 2014 تكرر التجاذب بين الحكومة والجمعية السياسية المعارضة التي تصنف على أنها أكبر فصائل المعارضة. كانت البداية إنذارا لتعديل وضعها القانوني لوجود مخالفات صريحة لقانون عمل الجمعيات السياسية. لم تكترث الجمعية حينها وبعد أن وصل الأمر إلى القضاء وصدر حكم بتعليق نشاطها قدمت تعهدات بتعديل وضعها وإعادة تنظيم مؤتمرها العام بما يتوافق مع قانون الجمعيات السياسية.
عقدت الجمعية مؤتمرها العام في 26 ديسمبر (كانون الأول) 2014، وألقى الشيخ علي سلمان أمين عام الجمعية الفائز بالتزكية البرنامج السياسي للجمعية للفترة المقبل وتضمنت كلمة سلمان عدة محاور بينها قوله إنه تلقى عرضا على المعارضة البحرينية أن تنتهج نهج المعارضة السورية وأن تحول البلد إلى معركة عسكرية ولكن ثبات هذه المعارضة على السلمية ووضوح رؤيتها هو العنصر الأساس الذي حافظ على البحرين بعيدا عن الانجرار إلى العنف.
أيضا تغير الوضع كثيرا وجرى في النهر مياه كثيرة، فهناك فرق كبير بين الأحداث التي شهدتها نهاية عام 2013 وتلك التي ترافقت مع نهاية عام 2014، ففي المرة الأولى منع أمين عام الوفاق من السفر وجرى التحقيق معه على فترات متباعدة نسبيا ولم تحال القضية إلى المحكمة.
في نهاية 2014 وبداية 2015 تم إيقاف سلمان لمدة 7 أيام على ذمة التحقيق فيما جدد إيقافه أول من أمس لـ15 يوما أخرى ويجري التحقيق معه على 4 تهم هي «الترويج لقلب نظام الحكم بالقوة، والتحريض على بغض طائفة من الناس مما يؤثر على السلم الاجتماعي، والتحريض على عدم الانقياد للقانون، وإهانة وزارة الداخلية»، إحداها تصنف كجريمة وتصل عقوبتها إلى السجن 10 سنوات.
يقول عيسى عبد الرحمن وزير شؤون الإعلام البحريني إن الحكومة البحرينية تضمن حقوق أمين عام جمعية الوفاق أثناء توقيفه والتحقيق معه ومحاكمته، وأن يتمتع بكافة حقوقه القانونية كأي مواطن يتعرض للإيقاف والتحقيق والمحاكمة، وأضاف ضمان الحقوق في مملكة البحرين عملية مؤسسية مستمرة فلدى البحرين مفوضية حقوق السجناء والموقوفين وتمارس عملها كجهة مستقلة وتحقق في أية قضية تصل إليها سواء من السجناء أو من ذويهم بكل شفافية وحيادية.
ويتابع: العمل الحقوقي أصبح عملا مؤسسيا والأجهزة التي تمارس دور الرقابة تتمتع باستقلالية كاملة.
بدورها قالت سوسن تقوي رئيسة لجنة الشؤون الخارجية والدفاع والأمن الوطني بمجلس الشورى البحريني لـ«الشرق الأوسط»: «يجب الوقوف جديا أمام تلويح أمين عام جمعية الوفاق بعسكرة المعارضة في البحرين، وذلك عبر التواصل مع أنظمة وتشكيلات سياسية مسلحة في الخارج، وما ينطوي على ذلك من استقواء بالخارج في سبيل إحداث تغيير معين في النظام السياسي بالبحرين، وإن ذلك موثق من خلال كلمة أمين عام الجمعية في المؤتمر العام لجمعيته، وما يعنيه ذلك من دلالات سياسية تحمل أوراق استخدام العنف والسلاح ورقة للضغط والابتزاز والتأثير لتحقيق المطالب غير التوافقية بالطرق غير المشروعة وبعيدا عن المؤسسات الدستورية».
يقول النائب على العرادي نائب رئيس مجلس النواب لـ«الشرق الأوسط»: «الشيخ علي سلمان أمين عام جمعية سياسية مرخصة ولكنه مواطن بحريني يخضع للقانون كأي مواطن، ويواجه في الفترة الراهنة اتهامات ولم يدان حتى الآن وأشار في إحدى خطبه إلى تلقيه عرضا بتزويده بالسلاح وتحويل المعارضة البحرينية إلى معارضة عنيفة على غرار المعارضة السورية ويشكر على رفضه لهذا العرض، لكن من حق البحرين والبحرينيين أن يعرفوا من هي هذه الجهة؟».
ويتابع نائب رئيس مجلس النواب القانون البحريني نص على أن الجميع سواسية والشيخ علي سلمان لا يختلف عن غيره من المواطنين، وما حدث هو اتهام طبيعي ونشد على يد النيابة بأن تمضي في تحقيقاتها حتى النهاية، فمن حق الدولة والنيابة أن تعرف التي تنوي شرا للبحرين وأهلها، ويضيف العرادي: «هو رفض لكن قد يتلقى العرض شخص آخر أو تيار آخر وقد يقبله، وحدث خلال الفترة الماضية حالات تهريب سلاح إلى البحرين».
في المقابل اعتبر جميل كاظم أحد قياديي جمعية الوفاق أن الشيخ علي سلمان في خطابه الأخير وفي جميع خطاباته يؤكد على السلمية وقال إن هناك أطرافا في المعارضة البحرينية لا تتبنى خطاب سلمان وتعتبره ضعفًا، واعتبر كاظم أن محاكمة أمين عام الجمعية هي محاكمة لمنهج جمعية الوفاق في التعاطي السياسي.
ردود الفعل الدولية حول إيقاف أمين عام جمعية الوفاق كانت محدودة وإن كانت أبرز ردود الفعل جاءت من إيران التي وسمتها الحكومة البحرينية بأنها تحريض سياسي وديني في بيان صدر عن وزارة الخارجية البحرينية هنا يقول وزير شؤون الإعلام إن ما يهم مملكة البحرين هو الشأن الداخلي وإن الأمر يتعلق بمخالفات صريحة للقانون وكان هناك تدرج في التعاطي مع القضية فتمت مساءلة المتهم قبل التحول إلى السلطة القضائية، وأي تعليق خارجي «لا يعنينا» وتتعامل مع القضية كشأن داخلي بحت.
تقول سوسن تقوي: «البحرين دولة قانون ومؤسسات، والجميع خاضع للمسطرة القانونية، وما جرى بالنسبة لأمين عام جمعية الوفاق هو مساءلته عما نسب إليه من اتهامات، وما زالت النيابة العامة تواصل استجوابها له، شأنه في ذلك شأن أي متهم آخر يمثل أمام النيابة العامة أولا ثم القضاء لتتخذ العدالة مجراها الطبيعي».
وتضيف تقوي إن جمعية الوفاق تعتبر مساءلة أمينها العام معاقبة لها، ولكنها تحرف بذلك الموضوع وتبتعد عن كبد الحقيقة، فما جرى هو تشكيل مجموعة من الاتهامات بحق أمين عام الجمعية في ظل سقوطه في مجموعة من المخالفات الصريحة لعدد من القوانين، ولا يمكن غض النظر عن المجاهرة بمخالفة الدستور أو التمرد على التشريعات، وإلا فإن ذلك سيفتح الباب واسعا أمام تسيب الممارسة القانونية وبالتالي إحداث الفوضى تحت ذرائع متعددة.
واعتبرت تقوي أن أغلب ردود الفعل الخارجية انصبت على ضرورة استكمال الإجراءات القانونية بشكل صحيح وضمان تنفيذها بشكل أمين والشفافية في إجراءات التقاضي، كما قالت إن المؤسسة القضائية في البحرين لا تحتاج إلى نصائح من هذا النوع من هذه الدول لأنها تمارس الشفافية والحياد في ممارساتها القانونية والقضائية، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولكن ردود الفعل الكثيرة أبرزت من جديد بسط الدولة للأمن والاستقرار وهيبة القانون وتنفيذه بين جميع المواطنين وذلك دون تمييز أو تفرقة بين أي مواطن وآخر، وبخاصة من يخطئ أو يتمادى في المخالفة وبشكل لا يمكن السكوت عنه لئلا يكون ذلك سابقة للعدوان على الدستور.
بدوره قال علي العرادي نائب رئيس مجلس النواب «إن ما حدث لأمين عام جمعية الوفاق هو شأن داخلي ومن غير المناسب لأي دولة انتهاك سيادة دولة أخرى، وأتمنى كمواطن أن تظهر الحقيقة وأن نعرف ما وراء الادعاءات فإذا كانت صحيحة نتمنى تنفيذ القانون، وإن كانت غير صحيحة نتمنى أن بفرج عنه وأن يعود إلى حياته الطبيعية».
وتابع العرادي: «ردود الفعل كان أبرزها من المنظمات غير الحكومية وإن كانت لا تنظر في حقيقة الادعاء ولديها وجهة نظر مسبقة إلا أنها كانت مع تطبيق القانون، أما ردود فعل الدول كانت محدودة وكانت في الغالب حذرة».
يقول جميل كاظم القيادي في جمعية الوفاق: «لدى الجمعية تصنيف لردود الفعل سواء الصادرة عن الدول أو المنظمات دولية»، ويضيف: «(الوفاق) لديها علاقات جيدة مع مختلف المنظمات والمؤسسات الدولية فضلا عن علاقتها مع السلك الدبلوماسي الدولي».
واعتبر كاظم أن ردود الفعل كانت جيدة على مستوى المنظمات والمؤسسات الدولية وأبرزت الأزمة البحرينية، بينما كانت ردود فعل الدول الغربية دون مستوى الحدث.
ويعتبر أن إيقاف الأمين العام للجمعية وتعليق نشاطها السياسي حتى تصحيح أوضاعها كان نتيجة رفض الجمعية لوثيقة الأعيان التي أعلن عنها في سبتمبر من عام 2014 بعد لقاء جمع ولي العهد الأمير سلمان بن حمد آل خليفة مع شخصيات وطنية وتضمنت الوثيقة حينها 5 نقاط وجدتها الوفاق والمعارضة بشكل عام غامضة.
وتابع كاظم: «أعتقد أن الأمور خطيرة عندما تستهدف جمعية سياسية مصرحة وتمارس نشاطها منذ 12 عاما قضائيا ويحاكم رموزها ولو استمر هذا الوضع التصاعدي ستدخل البحرين في أزمة».
في المقابل أكد وزير شؤون الإعلام أن ما تقوم به الحكومة البحرينية وبكل وضوح هو تطبيق للإجراءات والقانون ولا يوجد ترصد أو استهداف لجمعية الوفاق أو قياداتها فالجمعية أنشئت على أساس قانون عمل الجمعيات السياسية ويجب أن تلتزم بهذا القانون وأمين عام الجمعية كان خلال السنوات الماضية يمارس عمله كأي مواطن بحريني ويتم استدعاؤه ومساءلته إذا خالف القانون.
وشدد عيسى عبد الرحمن على أن حكومة البحرين تضمن لأي جمعية سياسية مرخصة أو شخصية تمارس العمل السياسي أن تمارس عملها بكل أريحية إذا لم تخالف القانون وأضاف: «هناك 17 جمعية سياسية أخرى في البحرين لم تتعرض لها أية جهة حكومية وتمارس نشاطها بكل حرية».



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».