وجد الباحث الأميركي دانيال يوشور طريقة جديدة لتحفيز الخلايا العصبية البصرية في الدماغ مستوحيًا فكرته من نظرية التطور البشري.
كان البشر الأوائل يعملون في الصيد لذا تطور نظامهم البصري لخدمة مهارة المطاردة. وفي ذلك الوقت، عندما كان الإنسان يحدق في مشهد غير متغير، لم يكن دماغه ينشط بفعل المعلومات التي يحصل عليها، ولكنه عندما كان يرى غزالًا يقفز بين العشب، كانت «القشور المخية البصرية» تشتعل نشاطًا.
تحفيز القشرة البصرية
قد يلعب هذا التركيز العصبي على الحركة دورًا أساسيًا في استعادة الشخص الكفيف لقدرته على الرؤية. واعتمد يوشور، رئيس قسم جراحة الأعصاب في كلية «بيريلمان» للطب التابعة لجامعة بنسلفانيا الأميركية، على جوانب من التطور البشري وتوصل لطريقة جديدة تتيح استخدام الغرسات العصبية لتحفيز القشرة البصرية في الدماغ. في مقابلة له مع موقع «سبكتروم» لجمعية المهندسين الكهربائيين الأميركيين، قال يوشور: «نحن نعتمد على تلك النزعة الفطرية الموجودة في الإدراك». نشر يوشور دراسته في دورية Cell في مايو أيار الماضي وكشف خلال قمة الطب البيولوجي الإلكتروني الأخيرة أنه اعتمد في تجاربه على «توجيه تيار ديناميكي» وعمل مع فريقه على إنتاج نوعٍ واضح وفعال من البصر الصناعي من خلال استخدام الكهرباء لرسم أشكال محددة على سطح الدماغ. يشارك الباحث حاليًا في دراسة جدوى مبكرة لغرسة «أوريون» Orion التي صممتها شركة «ساكند سايت» في لوس أنجليس والتي تعمل في مجال تطوير حلول تقنية للأشخاص الذين يعانون من مشاكل في البصر.
عام 2013، رخصت إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة الأميركية غرسة «أرغوس 2» لشبكية العين من «ساكند سايت» التي تعتمد على عين زجاجية مجهزة بكاميرا فيديو ترسل المعلومات إلى مجموعة من الأقطاب الكهربائية المثبتة في شبكية العين. وكشف مستخدمو هذه الغرسة أنهم تمكنوا من رؤية الضوء والظلام وأبصروا بدرجة كافية سمحت لهم بالسير في الشارع ورصد توهج الوجوه التي تقف أمامهم. ولكن ما اختبروه كان بعيدًا كل البعد عن البصر الحقيقي، حتى أن الشركة أعلنت في مايو أيار 2019 أنها ستوقف إنتاج «أرغوس 2» للتركيز على منتجها التالي.
غرسة دماغية جديدة
وفي سبتمبر أيلول الماضي، أعلنت استئناف تجاربها السريرية لاختبار غرسة «أوريون».
يستخدم نظام «أوريون» العين الزجاجية نفسها ولكنه هذه المرة يرسل المعلومات إلى مجموعة من الأقطاب الكهربائية المثبتة فوق القشرة البصرية في الدماغ. نظريًا، قد يفيد هذا النظام أشخاصًا أكثر من الذين استخدموا الغرسة الشبكية، حيث إن الترخيص الذي حصلت عليه «أرغوس 2» كان فقط يشمل المصابين بمرض التهاب الشبكية الصباغي الذي ينتج عن تضرر الخلايا المستقبلة للضوء في شبكية العين في نظام بصري سليم قادر على نقل الإشارات إلى الدماغ. ولكن نظام «أوريون» قد يساعد الناس الذين يعانون من ضرر أكبر في العين أو العصب البصري من خلال إرسال المعلومات مباشرة إلى الدماغ. حتى اليوم، جرب ستة أشخاص غرسة أوريون ووضع كل واحد منهم مجموعة من 60 قطبا كهربائيا مهمتها عرض الصورة التي تنقلها الكاميرا. ولكن دقة عرض الكاميرا الرقمية المصنوعة من 60 بيكسل لن تكون على القدر المطلوب. يقول يوشور إن عمله على «توجيه تيار ديناميكي» نبع من «حقيقة أن توصيل المعلومات إلى الدماغ عبر التحفيز الساكن لم يوفر الفعالية المرجوة»، ويرى أن الحل الوحيد قد يكمن في زيادة عدد الأقطاب الكهربائية. كما أنه لم يخف حماسته لاستخدام مئات آلاف وحتى مليون من الأقطاب الكهربائية في الدماغ. وأخيرًا، يضيف أن «الباحثين يتوقون إلى تجربة هذا الطرح عندما تنجح مهاراتهم الهندسية في ملاقاة خيالاتهم التجريبية».
رسوم دماغية
ولكن حتى توفير هذا النوع من الأجهزة، يركز يوشور في عمله على برنامج إلكتروني يوجه الأقطاب لإرسال نبضات كهربائية إلى الخلايا العصبية. نفذ فريقه تجارب شملت متطوعين كفيفين من شركة «ساكند سايت» بالإضافة إلى شخصين بنظر طبيعي مريضين مصابين بالصرع ولديهما أقطاب كهربائية مثبتة في الرأس لقياس وتحديد حجم النوبات التي تصيبهما. تستخدم تقنية رسم الحروف على راحة يد الإنسان كاختبار طبي شائع للإدراك. ويتبع الباحث دانيال يوشور في بحثه مقاربة مشابهة مع نمط ديناميكي للتحفيز الدماغي لدى الأشخاص الذين فقدوا بصرهم.
يقول الباحث إن الطريقة الوحيدة لفهم مبدأ «توجيه التيار الديناميكي» كانت التفكير بحيلة يستخدمها الأطباء لاختبار الإدراك، ولهذا السبب يرسمون أشكال الحروف على راحة يد المريض. ويشرح يوشور أنه «إذا ضغطتم حرف «z» على اليد، سيكون من الصعب تحديد شكل هذا الرسم. أما إذا رسمتم شكل هذا الحرف، سيتمكن الدماغ من رصده فورًا».
تعتمد تقنية يوشور على طريقة مشابهة تستخدم كما كبيرا من المعلومات الموثوقة حول خريطة المجال البصري في مناطق محددة من الدماغ. صمم الباحثون هذه الخريطة لشبكية العين من خلال تحفيز بقع محددة في القشرة البصرية لرسم ذلك الحرف وسؤال المتطوعين عن المكان الذي يرون فيه بقعة مضيئة تسمى الوبصة أو «فوسفين» phosphene.
والوبصة أو الفوسفين، هي ظاهرة تحدث داخل العين يحدث بها إحساس إبصاري موضوعي بإثارة الشبكية والعين مغلقة. وتتمثل بظهور نقاط أضواء وهمية ونقاط على شكل نجوم صغيرة عند فرك العين أو الضغط عليها.
مع توجيه تيار ديناميكي، تحفز الأقطاب الكهربائية الدماغ بطريقة تسلسلية لرسم صورة في المجال البصري. استخدمت تجارب يوشور الأولى أحرفًا لإثبات فعالية الفكرة ونجح الأشخاص المصابون بالعمى والآخران اللذان يبصران من التعرف على أحرف كـ «M، N، U، W». ويضيف يوشور أن هذا النظام يتمتع بفائدة إضافية تتمثل بالقدرة على تحفيز البقع الفارغة الفاصلة بين الأقطاب الكهربائية المنتشرة. فمن خلال تغيير قوة التيار المتدفق في كل قطب تدريجيًا سيعمل النظام على تنشيط الأعصاب الموجودة في الفراغ القائم بين كل قطبين.
نظم جديدة
«ساكند سايت» ليست الشركة الوحيدة العاملة في مجال الأبحاث القشرية البصرية الصناعية، حيث إن فريقا علميا من جامعة موناش الأسترالية يتحضر لإطلاق تجارب سريرية لاختبار نظامه البصري الصناعي «جيناريس» Gennaris.
يقول آرثر لوري، مدير مجموعة «موناش فيجن» وأستاذ هندسة أنظمة الكومبيوتر والكهرباء فيها، إن بحث يوشور يبدو واعدًا. ويضيف أن «الهدف الأساسي للدماغ هو إدراك أكبر كم ممكن من المعلومات، ما يجعل استخدام التحفيز التسلسلي لتوصيل معلومات مختلفة بواسطة الأقطاب الكهربائية أمرا مثيرا جدًا للاهتمام. ولا شك في أن هذا الأمر يطرح الكثير من الأسئلة حول عدد الأقطاب الكهربائية التي يجب تشغيلها في وقت واحد عند تقديم صور متحركة مثلًا».
يعتقد يوشور أن النظام سيصل إلى مرحلة يصبح فيها قادرًا على التعامل مع أشكال معقدة متحركة بمساعدة التقدم الحاصل اليوم في مجال الرؤية الكومبيوترية والذكاء الصناعي ولا سيما إذا تواجدت الأقطاب الكهربائية في الدماغ لتقديم الصور.
ويتوقع أيضًا أن النظام المستقبلي قد يضم إعدادات مختلفة لمواقف متنوعة، حيث إنه «قد يضم وضع ملاحة تساعد الناس على تفادي العوائق أثناء المشي.