خواطر حول مسألة التفاوت التاريخي بين العرب والغرب

الثورة العلمية في أوروبا فسرت العالم عقلانياً لا غيبياً

خواطر حول مسألة التفاوت التاريخي بين العرب والغرب
TT

خواطر حول مسألة التفاوت التاريخي بين العرب والغرب

خواطر حول مسألة التفاوت التاريخي بين العرب والغرب

لإيضاح هذه المسألة الشائكة جداً سوف أقول ما يلي: في العصور الوسطى وحتى القرن السابع عشر كان المسيحيون الأوروبيون متعصبين وظلاميين، وكانوا لا يسمحون بوجود أديان أخرى في بلدانهم غير الدين المسيحي والمذهب الكاثوليكي البابوي الروماني فيما يخص فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبقية البلدان ذات الأغلبية الكاثوليكية. وويلٌ للإنسان البروتستانتي هناك بأقليته الطائفية. وكانت عقوبة التجديف أو الاستهزاء بالمقدسات والأديان هي قطع الرؤوس تحت المقصلة بكل بساطة. وبالتالي فلا ينبغي أن تخدعنا صورة أوروبا الحالية الحداثية جداً والعلمانية جداً والخالية من كل أثر للقمع الديني أو الطائفي فيها. ينبغي أن نعود إلى الوراء عدة قرون لكي نعرف كيف كانت وكيف أصبحت. وهذا يساعدنا على حل مشكلة النظر إلى الإسلام من هذه الزاوية «الظلامية» التي تعززها أعمال التطرف والعنف الديني، وذلك عن طريق المقارنة والنظر. ينبغي العلم بأن الفيلسوف الكبير جيوردانو برينو دفع الثمن باهظاً عام 1600 لأنه ندد بالظلامية المسيحية، وأنكر صحة بعض العقائد اللاهوتية كعذرية مريم مثلاً. فقد قطعوا لسانه وألقوه حياً طعمة للنيران في كهوف الفاتيكان المظلمة. وكانت ميتة شنيعة ونهاية مرعبة لواحد من أكبر علماء أوروبا في ذلك الزمان. كانت الظلامية المسيحية عندئذ ترعب كل المفكرين تماماً كما الظلامية الإسلامية حالياً. ولكن لحسن حظ أوروبا فإنها شهدت بعدئذ ثلاث ثورات علمية وفلسفية وتنويرية دينية أنقذتها وأخرجتها من جحيم التعصب الديني الأعمى. الثورة الأولى تمت على يد كوبرنيكوس وجيوردانو برينو ذاته وغاليلو وديكارت وكيبلر ونيوتن وآخرين. وأما الثورة الفلسفية فقد تمت على يد ديكارت ولايبنتز وسبينوزا ومالبرانش كمرحلة أولى. ثم تواصلت على يد كانط وهيغل وماركس... إلخ. وأما الثورة التنويرية للدين فقد تمت على يد فولتير وديدرو والموسوعيين وسبينوزا وكانط... إلخ. هذه الثورات الثلاث مترابطة بشكل وثيق فيما بينها إلى درجة أن أحدهم قال: لولا نيوتن ما كان كانط! المقصود لولا الثورة العلمية ما كانت الثورة الفلسفية. فالعلم الفيزيائي الرياضي الفلكي الاستكشافي له الأولوية. بعدئذ تجيء الفلسفة لكي تنظَر على هامشه أو لكي تستخلص الدروس والعبر من مكتشفاته. وهذه الثورات الثلاث هي التي جعلت أوروبا تقلع حضارياً بشكل صاروخي وتتفوق على كل النطاقات الثقافية الأخرى وفي طليعتها النطاق الثقافي العربي الإسلامي الذي كانت تطبق عليه ظلاميات السلطنة العثمانية البائدة.
ولكن فلسفة الأنوار لم تستطع تغيير الوضع الظلامي التعصبي جذرياً إلا بعد أربعة قرون من النضال والعراك ضد الكنيسة ورجال الدين: أي من القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن العشرين. وهذا أكبر دليل على مدى خطورة مواجهة الدين أو الظلامية الدينية. المسألة ليست سهلة على الإطلاق وليست مزحة بسيطة. كما أنه أكبر دليل على مدى صعوبة تغيير التفسير الظلامي للدين وإحلال التفسير الأنواري أو التنويري محله. ولذلك يخطئ من يظن أن العملية ستتم بسهولة في العالم العربي أو الإسلامي كله. ويخطئ من يظن أنها ستتم بين عشية وضحاها. هذه قصة طويلة؛ هذه قصة القصص ومعضلة المعضلات. نحن دخلنا الآن في صيرورة نرى بداياتها ولا نرى نهاياتها. لقد كان هذا الإنجاز البطولي طويلاً في أوروبا. كان صعباً عسيراً، بل دموياً أيضاً. لكنه نجح في نهاية المطاف وهذا هو المهم. أصبحت الشعوب الأوروبية لأول مرة في تاريخها متحررة من نير الاستبداد اللاهوتي والأصولية الدينية. وأصبح يحق لها الاستخفاف برجال الدين علناً ونقد العقائد الدينية الدوغمائية المتحجرة. ولكن بالمقابل يحق لمن يريد أن يظل مؤمناً متديناً أن يظل متديناً إذا ما أراد. فهذه هي الديمقراطية: الرأي والرأي المضاد يتجاوران جنباً إلى جنب، المؤمن والملحد، كلاهما موجود. ثم أصبحت أغلبية الشعوب الأوروبية لا دينية ولا ترهق نفسها بالطقوس والشعائر على عكس القرون الوسطى وعلى عكس الشعوب العربية والإسلامية حالياً. وإنما تكرس طاقاتها للعمل والإنتاج والإبداع. وحتى الأقلية التي بقيت متدينة أصبحت هي الأخرى متنورة قياساً إلى الماضي.
راحت الثورة العلمية التي دشنت في أوروبا إبان القرن السابع عشر تفسر العالم عقلانياً لا غيبياً كما كان يفعل التفسير الديني الموروث. لقد أخذت تفسره بواسطة الملاحظة العيانية والتجريب العملي والمنطق الرياضي أو الحسابي الدقيق. لقد تجرأت على تفسيره أو تفسير ظواهره خارج نطاق أي تأثير للعقائد الدينية الدوغمائية التي كانت تفرض نفسها كإلهية وبالتالي ملزمة قطعاً. إن التحرر من هذه الهيبة الطغيانية للدين ورجال الدين يمثل أكبر حدث في تاريخ البشرية. ولم تتجرأ عليه حتى الآن إلا مجتمعات أوروبا الغربية كفرنسا وألمانيا وإنجلترا... إلخ. أما مجتمعات أوروبا الشرقية فلا تزال متدينة أكثر بكثير. هذا وقد اضطر العلماء في البداية إلى إقناع السلطات الكهنوتية المسيحية المهيمنة بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس. وكان ذلك يعتبر كفراً في ذلك الوقت لأنه يتعارض مع ما جاء في الكتب المقدسة. ومعلوم أن الكنيسة أدانت نظرية كوبرنيكوس هذه ولم تعترف بها إلا بعد قرون طويلة. ثم أرعبت غاليليو كما هو معروف. ولكن الشيء غير المعروف كثيراً هو أنها أرعبت ديكارت أيضاً فتراجع عن نشر كتابه الذي يؤيد نظرية كوبرنيكوس ويبطل نظرية بطليموس. لقد تراجع بعد أن سمع بما لحق بغاليليو وأراد أن ينجو بجلده على الأقل مؤقتاً. ومعلوم أنه كان حذراً جداً ويحسب لرجال الدين ورهبتهم وطغيانهم ألف حساب.
ثم بعدئذ في القرن التاسع عشر رفض الفاتيكان نظرية داروين واعتبرها مضادة لما ورد في الكتاب المقدس، وبخاصة سفر التكوين عن نشوء الكون والعالم والإنسان. وهي فعلاً كذلك. ولكن برغم معارضة السلطات الدينية الكهنوتية الشديدة فإن الروح العلمية الجديدة استطاعت في نهاية المطاف أن تفرض نفسها. وبعدها أو بفضلها أصبحنا نعرف اليوم أشياء كثيرة مذهلة عن كيفية تشكل الكون والطبيعة وكيفية ظهور الإنسان على سطح الأرض.
ثم أدت الثورة العلمية إلى الثورة التكنولوجية وتحقيق إنجازات رائعة. فلولاها ما كنا نتمتع الآن بالهاتف الجوال، والتلفزيون، والبراد، والغسالة، والسيارة، وعشرات المخترعات الأخرى. وإذا كنا اليوم نركب القطار والطائرة ونتمتع باللقاحات ضد الأمراض العديدة، ونعمل راديو لجسمنا لمعرفة أين يكمن الخلل، فإن كل ذلك بفضل الروح العلمية أو الثورة التكنولوجية التي انتصرت في أوروبا على الظلامية الدينية والغيبيات والخرافات والمعجزات الخارقة التي لا هدف لها إلا انتهاك قوانين الطبيعة! وكلما انتهكتها أكثر زاد إيمان المتدينين وإعجابهم بها أكثر. أتذكر أني في طفولتي أو شبابي الأول كنت أستمتع كل الاستمتاع بالقصة التي تقول إن الإمام علي فتح باب خيبر وخلعه بيده ورفعه بإصبعه الصغيرة وكأنه ريشة خفيفة رغم أنه يزن ألف طن مثلاً! أنقل من الذاكرة ولا أعرف فيما إذا كان ذلك صحيحاً أم لا؟ ولكن هذه هي الفكرة. كنت أصدق ذلك كل التصديق وأعيش لحظات لا توصف من الإعجاب والانبهار والتبجيل والتقديس وإلغاء العقل كلياً. وكنت أشهق وأبكي وأضحك وأذوب ذوباناً في لحظات قدسية لا يتصورها العقل. وكلما ألغي العقل أكثر وتضخمت المعجزة وخرجت عن حد السيطرة كنت أستمتع أكثر. ولكن هل توجد ذرة عقل في مثل هذه التربية الدينية القروسطية الظلامية المتخلفة؟ نعم كنت أصولياً خرافياً قبل أن أتحول إلى حداثي تنويري من أعلى طراز. ولله في خلقه شؤون.
نعود إلى قصة الصور الكاريكاتيرية. هل نعلم أن الجرائد الهزلية في فرنسا من أمثال هارا كيري سابقاً وشارلي إيبدو حالياً تسخر من رموز الدين المسيحي أكثر بكثير مما تسخر من الرموز الدينية الأخرى. لقد صوروا السيد المسيح بشكل شنيع وكذلك مريم العذراء في صور قبيحة مشهورة. ورغم ذلك لم يتحرك أي مسيحي كاثوليكي لتوبيخ رسامي الكاريكاتير هؤلاء ناهيك عن ذبحهم! وإنما أخذوا الأمور بفلسفة وأقاموا مسافة للحظة بينهم وبين عقائدهم الحميمة وألقوا على كل ذلك ابتسامة ساخرة متسامحة. فهذه الرسوم والألاعيب لا تؤثر إطلاقاً على تعلقهم بعقيدتهم وإيمانهم. ولكن المشكلة هي أن هذا المسيحي الكاثوليكي كان سيقتلهم قبل مائتي سنة فقط. وهذا يعني أن مستوى وعي المسلم حالياً لا يقارن بمستوى وعي المسيحي الأوروبي حالياً وإنما بمستوى وعي أسلافه قبل مائتين أو ثلاثمائة سنة. وذلك لأن المسلم لم تتح له الفرصة لكي يهضم هذه الثورات العلمية والفلسفية والدينية التنويرية كما حصل لنظيره المسيحي الأوروبي. هل يعلم هؤلاء الجهلة عندنا أن الصور الكاريكاتيرية تظل صوراً كاريكاتيرية ولا يمكن أن تصل إلى الأنبياء؟ إنها أقل من أن تصل إلى كعبهم. ولا يمكن أن تخدشهم أو تخدش سمعتهم مجرد خدش. بالمقابل: هل نعلم أن أكبر كارثة يمكن أن تحل بالأنبياء ورسالتهم هي أن يدافع عنهم المجرمون وقطاع الطرق والأفاقون من أمثال هذا الشيشاني سيئ الذكر. الدواعش أساءوا إلى سمعة الإسلام أكثر من الصور الكاريكاتيرية بمليون مرة. هذه الأفعال الإجرامية هي التي شوهت صورة الإسلام على مدار الكرة الأرضية بأسرها. نضيف بأن المسؤولين الفرنسيين وعلى رأسهم ماكرون ليسوا ضد الإسلام بأي شكل. فقد صرحوا مراراً وتكراراً أن للإسلام المعتدل المتسامح كل مكانته في فرنسا. وهناك أكثر من 1500 مسجد في بلاد فولتير وموليير. ولكنهم ضد جماعات الإسلام السياسي العدوانية والمشاغبة كالإخوان المسلمين مثلاً. فهل هذا ممنوع أيضاً؟ وهي جماعات تكفر الآخرين وتحتقر أديانهم وتنظر إليهم شزراً وتثير القلاقل والمشاكل في المجتمع.
أخيراً في عام 1766 قطعت السلطات الكهنوتية رأس الشاب فرنسوا دولابار (20 سنة) لأنه اتهم بكسر تمثال المسيح في قريته. وبعد أن قطعوا رأسه وضعوا كتاب القاموس الفلسفي لفولتير على جسده وحرقوهما معاً. ومعلوم أنهم وجدوا هذا الكتاب في بيته واعتبروا ذلك أكبر دليل على كفره وزندقته. العالم العربي لا يزال هنا. العالم الإسلامي لا يزال هنا متسمراً ومتحجراً ومتجمداً عند عام 1766: أي قبل قرنين ونصف. وهي مسافة التفاوت التاريخي بين العرب - والغرب. فنحن أيضاً نقطع الرقاب على صور كاريكاتيرية سخيفة لا قيمة لها على الإطلاق، بل فاشلة من الناحية الفنية. ولولا غباؤنا لكانت قد ماتت في أرضها واندثرت.



طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين
TT

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

طبق نحاسي من موقع الدُّور في أم القيوين

يحتلّ موقع الدُّور مكانة كبيرة في خريطة المواقع الأثرية التي كشفت عنها أعمال المسح المتواصلة في إمارة أم القيوين. بدأ استكشاف هذا الموقع في عام 1973، حيث شرعت بعثة عراقية في إجراء حفريّات تمهيديّة فيه، وتبيّن عندها أن الموقع يُخفي تحت رماله مستوطنة تحوي بقايا حصن. جذب هذا الخبر عدداً من العلماء الأوروبيين، منهم المهندس المعماري البريطاني بيتر هادسون، الذي قام بجولة خاصة في هذا الموقع خلال عام 1977، وعثر خلال تجواله على طبق نحاسي علاه الصدأ، فحمله معه، واتّضح له عند فحصه لاحقاً أنه مزيّن بسلسلة من النقوش التصويرية تتميّز بطابع فنّي رفيع.

وجد بيتر هادسون هذا الطبق في ركن من جهة جنوب شرقي الموقع، وحمله بعد سنوات إلى الشارقة حيث كشفت صور الأشعّة عن ملامح حلية تصويرية منقوشة غشيتها طبقة غليظة من الصدأ. نُقلت هذه القطعة المعدنية إلى كلية لندن الجامعية، وخضعت هناك لعملية تنقية وترميم متأنية كشفت عن تفاصيل زينتها التصويرية بشكل شبه كامل. يبلغ قُطر هذه القطعة الفنية نحو 17.5 سنتيمتر، وعمقه 4.5 سنتيمتر، وتتألّف قاعدة حليته التصويرية من دائرة ذات زينة تجريدية في الوسط، تحوطها دائرة ذات زينة تصويرية تزخر بالتفاصيل الدقيقة. تحتل الدائرة الداخلية الصغرى مساحة قاع الطبق المسطّحة، ويزينها نجم تمتدّ من أطرافه الخمسة أشعة تفصل بينها خمس نقاط دائرية منمنمة. تنعقد حول هذا النجم سلسلتان مزينتان بشبكة من النقوش، تشكّلان إطاراً لها. ومن حول هذه الدائرة الشمسية، تحضر الزينة التصويرية، وتملأ بتفاصيلها كل مساحة الطبق الداخلية.

تتمثّل هذه الزينة التصويرية بمشهد صيد يحلّ فيه ثلاثة رجال، مع حصانين وأسدين، إضافةً إلى أسد مجنّح له رأس امرأة. يحضر رجلان في مركبة يجرها حصان، ويظهران متواجهين بشكل معاكس، أي الظهر في مواجهة الظهر، ويفصل بينهما عمود ينبثق في وسط هذه المركبة. يُمثّل أحد هذين الرجلين سائق المركبة، ويلعب الثاني دور الصياد الذي يطلق من قوسه سهماً في اتجاه أسد ينتصب في مواجهته بثبات، رافعاً قائمته الأمامية اليسرى نحو الأعلى. من خلف هذا الأسد، يظهر صياد آخر يمتطي حصاناً، رافعاً بيده اليمنى رمحاً طويلاً في اتجاه أسد ثانٍ يرفع كذلك قائمته الأمامية اليسرى نحوه. في المسافة التي تفصل بين هذا الأسد والحصان الذي يجرّ المركبة، يحضر الأسد المجنّح الذي له رأس امرأة، وهو كائن خرافي يُعرف باسم «سفنكس» في الفنين الإغريقي والروماني.

يحضر كل أبطال هذا المشهد في وضعية جانبية ثابتة، وتبدو حركتهم جامدة. يرفع سائق المركبة ذراعيه نحو الأمام، ويرفع الصياد الذي يقف من خلفه ذراعيه في وضعية موازية، ويبدو وجهاهما متماثلين بشكل متطابق. كذلك، يحضر الأسدان في تأليف واحد، ويظهر كل منهما وهو يفتح شدقيه، كاشفاً عن لسانه، وتبدو مفاصل بدنيهما واحدة، مع لبدة مكونة من شبكة ذات خصل دائرية، وذيل يلتفّ على شكل طوق. في المقابل، يفتح «سفنكس» جناحيه المبسوطين على شكل مروحة، وينتصب ثابتاً وهو يحدّق إلى الأمام. من جهة أخرى، نلاحظ حضور كائنات ثانوية تملأ المساحات الفارغة، وتتمثّل هذه الكائنات بدابّة يصعب تحديد هويتها، تظهر خلف الأسد الذي يصطاده حامل الرمح، وطير يحضر عمودياً بين حامل القوس والأسد المواجه له، وطير ثانٍ يحضر أفقياً تحت قائمتَي الحصان الذي يجر المركبة. ترافق هذه النقوش التصويرية كتابة بخط المسند تتكون من أربعة أحرف، وهذا الخط خاص بجنوب الجزيرة العربية، غير أنه حاضر في نواحٍ عديدة أخرى من هذه الجزيرة الواسعة.

يصعب تأريخ هذا الطبق بشكل دقيق، والأكيد أنه يعود إلى مرحلة تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد، ويُشابه في الكثير من عناصره طَبَقاً من محفوظات المتحف البريطاني في لندن، مصدره مدينة نمرود الأثرية الواقعة قرب الموصل في شمال العراق. كما على طبق الدُّوْر، يحضر على طبق نمرود، صيادٌ برفقة سائق وسط مركبة يجرها حصانان، ملقياً بسهمه في اتجاه أسد يظهر في مواجهته. يحضر من خلف هذا الأسد صياد يجثو على الأرض، غارساً رمحه في قائمة الطريدة الخلفية. في المسافة التي تفصل بين هذا الصياد والحصانين اللذين يجران المركبة، يحضر «سفنكس» يتميّز برأسٍ يعتمر تاجاً مصرياً عالياً.

ينتمي الطبقان إلى نسق فني شائع عُرف بالنسق الفينيقي، ثمّ بالنسق المشرقي، وهو نسق يتمثل بمشاهد صيد تجمع بين مؤثرات فنية متعددة، أبرزها تلك التي تعود إلى بلاد الرافدين ووادي النيل. بلغ هذا النسق لاحقاً إلى جنوب شرق الجزيرة العربية حيث شكّل نسقاً محلياً، كما تشهد مجموعة من القطع المعدنية عُثر عليها خلال العقود الأخيرة في مواقع أثرية عدة تعود اليوم إلى الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان. وصل عدد من هذه القطع بشكل كامل، ووصل البعض الآخر على شكل كسور جزئية، وتشهد دراسة هذه المجموعة المتفرّقة لتقليد محلّي تتجلّى ملامحه في تبنّي تأليف واحد، مع تعدّدية كبيرة في العناصر التصويرية، تثير أسئلة كثيرة أمام المختصين بفنون هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر مشهد صيد الأسود في عدد من هذه القطع، حيث يأخذ طابعاً محلياً واضحاً. يتميّز طبق الدُّوْر في هذا الميدان بزينته التي يطغى عليها طابع بلاد الرافدين، ويمثّل كما يبدو مرحلة انتقالية وسيطة تشهد لبداية تكوين النسق الخاص بجنوب شرقي الجزيرة العربية.