عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا

كتاب ونقاد مصريون يستعيدون طه حسين بعد نصف قرن على رحيله

عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا
TT

عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا

عميد الأدب العربي... انحاز للفقراء وأفكاره لا تزال تشتبك مع عصرنا

ماذا تبقى من طه حسين، بعد نحو نصف قرن من رحيله عن عالمنا؟ الرجل الذي شغل عصره وزمانه، وأرسى ركائز الاستنارة والعقلانية في التعامل مع قضايا الأدب والتاريخ والمجتمع، وتعرض للمحاكمة بسبب كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926، في واحدة من أشهر القضايا والمعارك الثقافية التي شهدتها مصر والعالم. بهذه المناسبة تستطلع «الشرق الأوسط» في هذا التحقيق آراء نقاد وكتاب مصريين، حول تراث «عميد الأدب العربي»، وما الذي نأخذ منه لدعم مستقبلنا وثقافتنا الراهنة.

د. جابر عصفور: «معلم الفقراء»
كان طه حسين معلماً للفقراء، وهو أول من تحمس لهم، وحرص على أن ينالوا من التعليم ما لم يصل له في صباه. وعلى هذا عندما تولى مهام وزارة التعليم في 12 يناير (كانون الثاني) 1950، أصدر قراراً في 1951 بمجانية التعليم الثانوي، اتساقاً مع فكرة أن التعليم متاح ومشاع كالماء والهواء. وقد ظل مؤمناً بما كتبه في مؤلفه المهم: «مستقبل الثقافة في مصر» الذي أصدره عام 1938، والذي قام بتأليفه بعد توقيع معاهدة 1936 مع إنجلترا، ووضع فيه تصوره لما يجب أن تكون عليه مصر من الناحية التعليمية والقدرة على التأثير.
ركز «العميد» على نقطتين مهمتين جداً فيما يتصل بتعليم الفقراء، أولاهما نوعية التعليم الذي يجب أن يقدم لهم؛ لكن للأسف الآن أصبحت العملية التعليمية تدار دون أن يكون لها مضمون حقيقي. وقد قرأت طه حسين جيداً، ولدي كتاب يناقش مؤلفاته وأفكاره، وأرى أن أهم ما نادى به طه حسين هو تعليم الفقراء بلا مقابل، بحيث لا تحمِّلهم الدولة أي أعباء؛ خصوصاً المتفوقين منهم، والآن لا تزال مجانية التعليم قضية مشكوكاً فيها، أما عن نوعية التعليم التي دعا إليها فلم تتحقق في عديد من الدول باستثناء الدول الغنية التي تمتلك ثروة نفطية؛ لكن بقية الدول غير قادرة على تحقيق نوعية التعليم التي دعا لها «العميد» وحلم بها.
أما القضية الأخطر التي دعا لها فهي إلغاء ثنائية التعليم. كان يرفض وجود نوعين من التعليم (مدني وديني) ويرى أن التعليم لكي يؤتي ثماره ويحقق أهدافه في بناء المجتمع، لا بد من أن يكون - حسب معايير الدولة التي تسعي لوجود حكم مدني ديمقراطي حديث - تعليماً مدنياً وليس دينياً. من هنا رفض التعليم المزدوج، وكان يرى أنه سوف يؤدي لانقسامات كبيرة في المجتمع، ويرسخ قيم رفض الآخر، وعدم قبول وجهات النظر المخالفة. وقد خبر «العميد» ذلك عملياً أثناء دراسته في «الأزهر»؛ حيث ناله كثير من التعنت بسبب وجهات نظره التي كان من نتائجها خروجه من هناك دون حصوله على «العالمية»، واضطراره للالتحاق بـ«الجامعة الأهلية» التي حصل منها على درجة الدكتوراه، عن أبي العلاء المعري، ثم سفره إلى فرنسا وحصوله على الدكتوراه من «جامعة مونبلييه»، في فلسفة ابن خلدون. وكان المناخ بالطبع في كلتا الجامعتين مختلفاً تماماً عما لاقاه من شيوخه في «الأزهر».
ورغم مرور كل هذه السنوات على دعوته إلى تحقيق تعليم متجانس؛ فإنها ما زالت حتى الآن لا تجد إرادة قادرة على تفعيلها ووضعها موضع التنفيذ، ولا أظن ذلك سيتحقق، فنحن خاضعون لضغط الجماعات الإرهابية، والتيارات السلفية. من هنا لن يتحقق التعليم المدني المستدام الذي قال عنه طه حسين إنه واجب مستمر لا بد من إعطائه للمثقف على مدى حياته. وقد كان يرى المدارس مراكز حضارية مشعة، وليست أماكن لتلقي الدروس فقط؛ بل لديها دورها المهم في المجتمعات التي حولها.

د. أشرف راضي: «سيرته الذاتية»
أهم ما في مشروع طه حسين الفكري هو سيرته الذاتية التي دونها في رواية «الأيام»، وظلت مقررة على طلاب الثانوية العامة في مصر لسنوات طويلة، وشكَّلت وجدانهم، وكانت نبراساً لمسيرتهم في الحياة، وهي أهم وأعظم ما تركه «العميد»، وتقدم سيرته الذاتية والأفكار التي طرحها في موضوعات شتى. في تقديري، فإن عدداً من الرسائل لا تزال صالحة: أولها السعي للتحرر من القيود التي فرضها العجز الجسدي؛ حيث تغلب على فقدان البصر بتقوية البصيرة، والقيود التي فرضتها نشأته في قرية نائية، والتي فرضها «الأزهر»، وقد تحداها بانتقاله للدراسة في «الجامعة المصرية» الوليدة، لاكتشاف معارف جديدة وعلوم أحدث، وأخيراً القيود التي تضعها أفكار الأولين، والتي تحداها بكتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926 الذي أحدث ضجة سياسية وفكرية.
يروي لنا طه حسين في «الأيام» عن الخرافات والأساطير التي كانت شائعة في قريته الصغيرة؛ لكنه لم يسلم عقله الصغير لهذه المرويات. كان يحركه الشغف بالمعرفة والعلم، ولم ينتهِ شغفه بحصوله على الدكتوراه في الأدب العربي وأرفع الجوائز الأدبية، فراح يغوص في تراثنا الأدبي متعلماً قبل أن يكون عالماً.

الروائي أشرف الصباغ:
«منظومة كاملة»
بعد حوالي نصف قرن على رحيله، وما يقرب من 84 عاماً (1889– 1973) عاشها، قدم طه حسين منظومة كاملة من الأفكار والرؤى، من الصعب أن نتعامل معه على أنه ماكينة أفكار فقط، إنما يجب التعامل مع ما قدمه باعتباره نسقاً فكرياً متكاملاً، ومنهجاً ورؤية شاملة للتقدم. لكن من جهة أخرى، لا يمكن القول إن كل ما تركه طه حسين يصلح الآن لحياة المجتمع المصري أو المجتمعات العربية عموماً. لقد مر على ما طرحه وقدمه نحو نصف قرن. جرت خلال تلك الفترة تحولات جذرية في العالم، وحدثت طفرات في الفكر والفلسفة والأدب والنقد، ودخلت البشرية عصر التقدم العلمي التقني ما بعد الحداثي والعالم الافتراضي. تكمن أهمية طه حسين وطروحاته في قيمة أخرى تتعلق حصراً بتحوله إلى نسق معرفي، وقوة دفع لإطلاق أفكار جديدة نحو المستقبل الذي كان يؤمن به ويعمل ويغامر بحياته من أجله. ربما يكون الواقع نفسه، وبحكم الزمن، قد تجاوز أفكاره؛ لكن من حيث الجوهر، فإن أفكاره في الفلسفة والمجتمع والتعليم، ومن حيث الرؤية الاجتماعية للتاريخ، تتحول إلى شكل من أشكال رأس المال الرمزي في حقلَي الثقافة والمعرفة، وهذا هو الأهم الذي يُكسبها قيمة متجددة.

الباحث نبيل عبد الفتاح:
«منهج مغاير»
السؤال المعرفي والإشكالي حول أثر طه حسين في تطور نظم الأفكار الحداثية، يبدو لي جزءاً من خطاب البداهات؛ لأن المقارنات المنهجية والبحثية الفعالة انتهت بما يشبه الإجماع على الأثر الفعال لدوره، وكتاباته التأسيسية في عديد من المجالات، وطرحه الأسئلة المختلفة، والمنهج التاريخي النقدي المغاير الذي أحدث قطيعة مع الفكر الموروث والتقليدي، والبلاغة الكلاسيكية والذائقة اللغوية المسيطرة. لطه حسين حضوره الباهر في قلب الكتابة العربية كلها بلا نزاع، وذلك منذ كتابه «في الشعر الجاهلي»، وما طرحه من مقاربة تاريخية صادمة للعقل النقلي الأدبي والديني معاً، وهي ممارسة تاريخية شكلت قطعاً منهجياً ومعرفياً مع السائد والمسيطر الذي يعيد في ملل تكرار مقولات لا تاريخية، ثم كتابه «الفتنة الكبرى»، وغيرها من الكتب التي لا تزال تمثل جذوراً مرجعية أولية في مقاربة الموروثات التاريخية، فالمقاربة التي أسس لها «العميد» شكَّلت الموجِّه التاريخي لعديد من الكتابات التي مارسها بعض كبار الباحثين العرب. من هنا يمكن القول إن «العميد» سيبقى جزءاً من تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر.

د. كمال مغيث: «قيمة كبرى»
كان طه حسين صاحب أكمل مشروع نهضوي، بدءاً من حديثه عن التعليم ودوره، والجامعة ودورها، وعن الديمقراطية والدستور، وحتى كتاباته في التراث والدين والثقافة والعلاقة مع الغرب، والترجمة. ولا يمكن النظر إلى كتاباته بعيداً عن هموم مجتمعه. وقد اختبر كل ما قدم من اجتهادات في الواقع في مرحلة ما قبل «ثورة 1919» وأثناءها، وخلال علاقته بحزب «الأحرار الدستوريين»، و«الوفد»، ثم مع «ثورة يوليو» (تموز) 1952 حتى وفاته. كل هذا يجعل لطه حسين ولأفكاره قيمة كبرى ونحن نتصدى لمشكلاتنا، وقد كان لديه ثلاث قضايا رئيسية: أولها الإيمان بحرية النقد وحرية العقل، وبالديمقراطية، وبالعدالة الاجتماعية. وكان يعتقد أن الانطلاق لتحقيقها لا بد من أن يكون من خلال تراثنا، كما اختبر أفكاره في التعليم في مواقع كثيرة، فضلاً عن ممارستها في الجامعة، وقد كان لديه إيمان مطلق بمجانية التعليم.

د. محمد بدوي: «النظرة النقدية»
في تقديري أن طه حسين نموذج للمفكر الحداثي. بل هو أهم مفكر منذ «عصر النهضة» إلى اليوم، ونحن ما زلنا في حاجة إلى مشروعه وأفكاره. نحتاج إلى تعميم منهجه العلمي في دراسة الأدب والثقافة والعلوم الإنسانية، وهو المنهج الذي يقوم على النظرة النقدية، كما ظهر في كتبه عن ابن خلدون والشعر الجاهلي والفتنة الكبرى. نحتاجه أيضاً في تعميق رؤيتنا للعلاقة بالآخر، كما صاغها في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وهو أكثر الرؤى الحديثة كمالاً وعمقاً. كما نحتاجه في فهم مسألة الهوية، فقد كان يضع قدماً في التراث العربي وأخرى في الثقافة الحديثة.
وأخيراً يحتاج المثقف العربي إلى إرادة طه حسين الحديدية وجرأته في اقتحام القضايا المتعلقة بالتقدم والعدالة، وقدرته على تفكيك البديهيات والمسلمات.

الناقد عبد الناصر حنفي:
«ابن لحظته وواقعه»
لا شك في أن جهود طه حسين كانت خطوة متقدمة ومطلوبة بشدة، في سياق إعادة بناء الثقافة المصرية وتحديد المسارات الرئيسية لعلاقتها بالعالم ورؤيتها لذاتها وللآخر. والأمر هنا لا يتوقف على ما كتبه أو ما حاول إتاحة تداوله من أفكار فحسب، إنما يمتد أيضاً لدوره الأكاديمي والحكومي في صناعة السياسة الثقافية المصرية.
لكن منجزه كان في النهاية مجرد خطوة تمهيدية لا قيمة لها بذاتها، إن لم تكن مقدمة لغيرها، ولا أعتقد أن هذه النقطة كانت غائبة عن رهانات طه حسين نفسه، بالنظر إلى حرصه على هدوء أفكاره (بل تقليم أظافرها إن لزم الأمر) وتدرج الإجراءات التي يقوم بها أو يدعو إليها، ولذلك سيبدو هذا «المفكر» الذي جمع بين سمات المثقف الأكاديمي ورجل الدولة، ابن لحظته وواقعه بصورة مفرطة، وهو واقع يتباعد عنا بسرعات فلكية منذ سبعينات القرن الماضي.

الكاتب حاتم رضوان:
«تجنب ثقافة النقل»
دعا طه حسين إلى تجديد الخطاب الثقافي، وعدم الانسياق وراء الأفكار والقوالب الجامدة والجاهزة، وتجنب ثقافة النقل. وكانت له آراء بخصوص الديمقراطية، أكد فيها أنها السبيل الوحيد إلى تحديث المجتمع وتحرير الوطن وتوحيد الأمة، وأن الديمقراطية والحرية عنصران أساسيان ومتلازمان لأي وجود إنساني. ونادى بتعلم وإتقان اللغات الأجنبية لمعرفة الآخر والانفتاح على الغرب المتحضر؛ لكي نكون أنداداً وشركاء له في الحضارة، وهو صاحب شعار «التعليم كالماء الذي نشربه والهواء الذي نتنفسه». كما كانت لغته سابقة لعصرها تمتاز بالسلاسة والبعد عن التقعر والتعقيد.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.