زهير الجزائري يكتب «نوفيلّا» أخيرة عن سيرة {الرئيس الهارب}

زهير الجزائري يكتب «نوفيلّا» أخيرة عن سيرة {الرئيس الهارب}
TT

زهير الجزائري يكتب «نوفيلّا» أخيرة عن سيرة {الرئيس الهارب}

زهير الجزائري يكتب «نوفيلّا» أخيرة عن سيرة {الرئيس الهارب}

في مخبأه السري يشرع الرئيس بكتابة سيرته؛ ليُجيب عن سؤال يُفترض أن الأبناء سيسألونه وهم في لجة الفوضى العارمة: ماذا حدث؟، لكن الرئيس الذي يفكر بالكتابة حلاً لمشكلته المستعصية في مواجهة موته المحتم وذاته التي لا يجدها فيما يكتب، يحار بجملته الأولى، هل تتعلَّق بنشأته الأولى، بداية مشواره طفلاً فقيراً يسير متوارياً خلف عباءة أمه السوداء في أزقة المدينة طمعاً في ما سيجيد به من تقرأ له الأم طالعه، أم تختص بخاتمته رئيساً يهرب من قصره متخفياً بعد أن سقط حكمه واحتُلت بلاده؟ وفي الحالتين لا كتابة، فلا يكتب الرئيس سوى ثلاث جمل تتعلق جملتان منها بطفولة بائسة، في حين تتحدث الثالثة عن معنى أن تعيش في حضانة رجل قاسٍ يجبرك على أن تسبح بالنهر في الشتاء القارص، ويجري شطب الجمل الباقية، فلا يصلنا منها سوى توتر الرئيس واضطرابه. في الجملة الأولى، وهي أقرب إلى صورة يستعيدها الرئيس عن طفل يسير خلف أمه، يصطدم الرئيس بوضعه القلق والمربك، بين كونه راوياً يحاول أن يسرد لنا قصته، وبين فهم المتلقين لما سيكتب؛ فالكتابة عن طفل فقير مغرية وتمدُّ الراوي بتفاصيل كثيرة مشوقة، لكنها تدمر صورة الرئيس في عيون شعبه، إنها تحطيم لـ«أيقونة» الزعيم الذي اخترع شعباً يخافه حد العبادة. في حين تظهر خاتمته بداية مغرية لسرد القصة؛ فلا إثارة يحققها مشهد طفل فقير يعيش في قرية منسية على دجلة، إنما الخاتمة بعودة الرئيس المخلوع إلى قريته تلهم الذاكرة وتحفزها على استعادة ما حصل، وتقدم جواباً عن سؤال الأبناء القادمين: ماذا حدث؟
ولا كتابة، ولا سيرة يتركها لنا الرئيس، ذلك أن الكتابة تتعلَّق بالتفاصيل التي لا تستعيدها الذاكرة. ثمة عجز يتواصل وتتضح تفاصيله عن كتابة السيرة، وهو العجز ذاته عن التذكر. وفي هذا العجز تكمن مشكلة رواية وراء الرئيس الهارب «دار الكا، بغداد، 2019». ولا بأس؛ فلكلِّ رواية مشكلة تحاول حلَّها، فالرئيس يعجز عن كتابة سيرته؛ لأنه لا يستطيع استبدال الكتابة بالسلطة المفقودة؛ هو الراوي الوحيد، كلي المعرفة والوجود، للقصة الوحيدة المتاحة للجميع والمفروضة عليهم فرداً فرداً، وقد عاشها وكتبها حدثاً فحدثاً، فصلاً ففصلاً، طيلة خمسة وثلاثين عاماً؛ فكيف للكلمات أن تعادل السلطة بقصتها المتكاملة؟ إن الاستسلام للكتابة يعزز فقدان القدرة على استعادة القصة الوحيدة التي أجاد الرئيس كتابتها، وهي تمثيل السلطة بامتلاكها، ويُفيد كذلك أن الموت صار الحكاية الوحيدة المعبرة عنها بقول الرئيس لنفسه «سأموت». فإذا كانت فكرة كتابة المذاكرات، أو السيرة الذاتية للرئيس، قد حضرت في ذهن ووجدان الرئيس تحت ضغط وإلحاح الموت، وإن عليه أن يحسم الجدل القادم، لا محالة، بين الأبناء المختلفين بصدد الإجابة عن السؤال المفترض «ماذا حدث؟»، فإن الرئيس نفسه غير معني بهذا الجدل، هو رافض للاستسلام له؛ فهو قد عرف أنه لا يجد ذاته فيما يكتب ويتذكر؛ هذه الذات المضيّعة كان الرئيس قد وجدها وتمسّك بها وهو يكتب قصته – سيرته المحببة بدماء وحياة أبناء شعبه كونه الحاكم الأوحد للبلاد، فأما ما بعد فقدان السلطة فلا قصة، لا سيرة. هذه الحقيقة فعلت فعلها في نوفيلّا الجزائري، فكانت نتاجاً لها على كل الصعد، بدءاً من العنوان إلى الاقتصاد في التفاصيل، وليس ختاماً بعدد صفحات النوفيلّا.
يختصر عنوان النوفيلّا، وراء الرئيس الهارب، كلَّ شيء في هذه الرواية؛ فهو ترجمان للنص. نحن هنا إزاء تعقُّب وتتبع لمسار الرئيس الهارب. والتتبع هو إحدى الدلالات العميقة للقص. لكن هذا التتبع يُحايث ما حدث حقاً وحقيقة على أرض الواقع؛ فالرواية تقص أثر الرئيس، تتبع خطواته خطوة فخطوة. تبدأ النوفيلّا من لحظة السقوط المريعة، بعد انفجار ثانٍ مخنوق يقرر الرئيس الرحيل، إلى أين؟ لا يعرف! ثم تبدأ رحلة الهرب. نتتبع خطوات الرئيس المختبئ في جوف شاحنة بين دواليب الملابس وأثاث بيت يهرب أصحابه من الموت في الشوارع بعد احتلال البلاد. يتخذ الرئيس وضع الوقوف، وينظر إلى عاصمة بلاده المحتلة، بل إلى شعبه الجائع الذي خرج من البيوت القديمة، الآيلة للسقوط، إن لم تسقط وقتها حقاً، ليمارس شهوة الانتقام من سلطة الرئيس الهارب. من فتحة بين الدواليب ينظر ويرى كيف يسحل الجياع المنتقمون رؤوس تماثيله، ويسأل نفسه من أين جاء هؤلاء؟ والجواب حاضر دائماً: إنهم لم يخبروا الرئيس. مساعدوه وكبار ضباطه أخفوا عنه حقيقة الأمر، حقيقة البلاد. هو نفسه يختصر، كما عنوان هذه النوفيلّا، سيرته بالمباغتة التي تصنع الخوف ويتحول، بالتراكم، إلى حب وحاجة؛ فلا قيمة لسؤاله، إنما هو العتبة الأولى الممهِّدة لتمثيل فعل الندم، ندم الرئيس على ما فعله بنفسه وبلاده.
يفرض العنوان كل هذا؛ فنحن نتعقَّب مسار الهرب بالتوازي مع ما حدث في الواقع، كما لو أننا أمام فيلم يعرض قصة هرب الرئيس من قصره. ومما يفرضه هذا الأمر، ويمهِّد له هو الاقتصاد في التفاصيل. وهذه مفارقة تستحق المناقشة، فلا سيرة من دون تفاصيل، وقد نقول إن السير إنما تنمو وتتعمَّق بوفرة التفاصيل. فهل كانت النوفيلّا مهتمَّة بتفاصيل فعل الهرب، أم كانت مختصة بكتابة سيرة موجزة للرئيس الهارب؟. لقد جعل الاقتصاد بالتفاصيل الرواية سيرة مختصرة تختص بفعل الهرب نفسه، ويندرج في هذه السيرة رغبة الرئيس ذاتها بكتابة سيرته، هي بعض مما فرضه العنوان، مثلما فرض كذلك الاقتصاد في عدد صفحات هذه النوفيلا؛ إذ لا يزيد عدد صفحاتها على خمسٍ وسبعين صفحة.
ولكن، لماذا كل هذا الاقتصاد في التفاصيل، ومن ثمّ في عدد الصفحات؟ لماذا كان على مؤلف كتاب الطاغية المستبد، ذي التفاصيل المتسعة والمتداخلة، أن يقصر روايته على فعل الهرب وما يتصل به من تتبع وتقصّ، لا عن لحظة السيرة؟ في رواية سابقة لزهير الجزائري، عن موضوع وعالم مجاور، يختص بالخائف والمخيف، كنا إزاء وفرة وتوسُّع في التفاصيل؛ فعالم الخائف هو ذاته عالم المخيف؛ فلولا الخوف ما كان هناك خائف ولا كان هناك مخيف، وكلاهما اسم فاعل في النهاية، غير أن قصة الرئيس مختلفة كلياً عن قصة الخائف والمخيف.
وراء الرئيس الهارب تشح التفاصيل، وتغدو الرواية تمثيلاً سردياً لمنطق الهرب والندم على ضياع السلطة. ثمة توازن بين عجز الرئيس عن الكتابة والاقتصاد في السرد والتقصي، وبين العجز عن كتابة سيرة الديكتاتور لدى الكتَّاب العراقيين، وممثلهم هنا كاتب الرواية. ولا أظن أن هذا الأمر يقع على عاتق الكاتب وروايته، أو يشكِّل مثلبة عليه وعلى روايته؛ ذلك أن رواية الديكتاتور، كما تقدِّمها روايات أميركا اللاتينية، تبني عوالمها السردية على أساس من وجود التفاصيل المبذولة في الملفات الخاصة عن حياة الديكتاتور؛ فهي قصته وسيرته الشخصية المستمدة من الملفات المعاد تخيَّلها في روايات كتاب أميركا اللاتينية، وهو ما فعله، بالضبط، صاحب رواية عالم صدام حسين الذي لا نعرف حقيقة جنسيته، لكن روايته تقول لنا إن مؤلفها قد قرأ الملف الشخصي لصدام حسين وما يتَّصل به من ملفات ساندة. وهذا أمر غير متوافر في الحالة العراقية، فأين هي ملفات صدام الذي تذكره نوفيلّا الجزائري باسمه الشخصي المعروف، كما تنص على غيره من الأسماء العراقية الحقيقية المرتبطة به؛ هل يملك العراق ملفاً شخصياً حقيقياً عن حياة صدام؟ بيقين أقول، كلا، وألف كلا؛ فكلُّ شيء جرى تدميره أو سرقته أو حرقه وإتلافه، وكأنهم لا يريدون للعراق أن يكتب روايته الخاصة عن الديكتاتور العراقي السابق .
إن عجز الرئيس في نوفيلّا وراء الرئيس الهارب يترجم لنا عجزاً مماثلاً على صعيد الرواية العراقية عن كتابة رواية ديكتاتور ينفرد بها العراق وحده دون سائر البلاد العربية. لماذا هذا التخصيص؟ لأنه لا ديكتاتور في العالم العربي غير الديكتاتور العراقي، وهذا حكم الثقافة والتاريخ والجغرافيا والمعرفة أيضاً، مثلما إن لا منفى، عربياً، غير ما أنتجه الشتات الفلسطيني والمنفى العراقي المتواصل بعنادٍ ووقاحة لا غفران لها.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.