نيكول باشينيان يواجه الامتحان الأصعب في قره باغ

الصحافي الأرميني المتمرد... من السجن إلى رئاسة الوزراء

نيكول باشينيان يواجه الامتحان الأصعب في قره باغ
TT

نيكول باشينيان يواجه الامتحان الأصعب في قره باغ

نيكول باشينيان يواجه الامتحان الأصعب في قره باغ

آخر ما كان يريده نيكول باشينيان، رئيس وزراء أرمينيا، حرباً جديدة في جنوب القوقاز تضعه أمام خيارات صعبة ومعقدة، وتعرقل مسيرة إنجازات مهمة تم تسجيلها خلال سنتين أمضاهما في السلطة، ونجح خلالهما في إطلاق عمليات إصلاحات شاملة في الجمهورية السوفياتية السابقة. ولكن، يبدو الامتحان عسيرا، ليس فقط على المستوى الداخلي، فالصحافي الشاب الذي واظب التمرد على الظروف المحيطة به، لم يكن قد تمرس في عالم السياسة العليا، عندما برز نجمه بقوة قبل سنتين، خلال احتجاجات واسعة ضد الفساد، وغدا رمزاً شعبياً للتغيير، ما قاده إلى مقعد رئاسة الوزراء وهو الذي كان حلمه أن يغدو نائباً في البرلمان.
لقد وجد باشينيان نفسه في منصبه الجديد، مضطراً للتراجع عن الكثير من الأفكار «الثورية» وتخفيف حدة اندفاعه، فسعى إلى كسب ود روسيا التي نظرت إليه بكثير من الريبة. وعمد في الوقت ذاته إلى انتهاج سياسة الانفتاح على الغرب وتنويع الخيارات، آملا في دعم واسع لمشاريعه الإصلاحية. وكاد أن يثبت مسار سياسته وينجح في إقامة هذا التوازن الصعب، لولا الحرب التي باغتته، ووضعته أمام خيارات، أحلاها مر.
لم يكن نيكول باشينيان، الذي ولد في العام 1975 في مدينة إجيفان القريبة من الحدود مع جمهورية أذربيجان، قد أكمل تعليمه المدرسي عندما انخرط في تنفيذ إضرابات مدرسية ومسيرات ومظاهرات، بعد اندلاع المواجهات في إقليم ناغورني قره باغ (قره باغ العليا) في العام 1988. ولقد طبعت تلك الفترة مراحل تطوره لاحقا، فظلت صفة التمرد والانخراط في النشاطات الاحتجاجية تلازمه لسنوات طويلة.
ثم عام 1991. بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق باشينيان بقسم الصحافة في الكلية اللغوية بجامعة يريفان الحكومية في مدينة يريفان عاصمة أرمينيا. إلا أنه ورغم أن درجاته الدراسية كانت ممتازة... طُرد من الجامعة بعد أربع سنوات بسبب انتقاده آليات عمل إدارة الجامعة وانخراطه بتنظيم فعاليات وصفت بأنها تخريبية. وبالتوازي مع دراسته عمل في الأنشطة الصحافية. وبين العامين 1993 و1997 تنقل بين عدد من الصحف المهمة في يريفان قبل أن يؤسس في العام 1998 صحيفة «أوراجير»، التي غدا رئيسا لتحريرها. وفي العام ذاته، ولج إلى عالم السياسة ضمن فريق لتنسيق حملة المرشح الرئاسي آنذاك، أشوت بليان.
كان عنوان الحملة يومذاك مكافحة الفساد، وبدلا من النجاح فيها والتمهيد للانخراط في السياسة، وجد باشينيان نفسه في العام اللاحق في السجن. وفي العام 1999، بدأت محاكمة باشينيان، الذي اتُهمت جريدته بنشر مواد تشهير ضد شخصيات برلمانية وأكاديمية اتهمها بالفساد. وكانت النتيجة تغريم صحيفة «أوراجير» بـ25 ألف دولار أميركي ثم إغلاقها لاحقا. كذلك، وجدت المحكمة نيكول باشينيان مذنباً بثلاث اتهامات وجهت إليه، هي الإهمال وإهانة مسؤول حكومي أثناء أداء واجباته الرسمية ورفض الامتثال لحكم المحكمة الابتدائية. وهكذا أمضى عامه الأول في السجن الذي سيعود إليه أكثر من مرة.

الصحافي الناشط الغاضب
بعد خروج باشينيان من السجن في العام التالي، واصل الصحافي الغاضب نشاطه، ليشغل منصب رئيس تحرير صحيفة واسعة الانتشار في يريفان، وظل في هذا المنصب حتى العام 2008. لكن تلك الفترة أيضاً لم تخلُ من مشاكل، وفي نوفمبر (تشرين الثاني) من العام 2004. انفجرت سيارة باشينيان في وسط يريفان وكانت متوقفة على مقربة من المبنى الذي يقع فيه مكتب تحرير صحيفة «أرمينيان تايم».
لم يكن هناك أحد في السيارة في تلك اللحظة. واعتبر الصحافي الحادث محاولة لاغتياله، اتهم رجل الأعمال جاجيك تساروكيان بتدبير محاولة قتله. وفقًا لباشينيان، كان تساروكيان غير راضٍ عن سلسلة تحقيقات صحافية أظهرت أنه قام بتخريب منتجع وقطع الأشجار فيه من أجل بناء فيلا. ولقد نفى تساروكيان تورطه في الحادث، ولم تظهر نتائج التحقيقات في «محاولة الاغتيال» أبداً.
سار الصحافي المثير للجدل أولى خطواته في عالم السياسة خلال الانتخابات البرلمانية لعام 2007. وبالفعل، احتل باشينيان المرتبة الأولى على قائمة كتلة «الإقالة» التي انحصر برنامجها الانتخابي في الدعوة لإطاحة الرئيس روبرت كوتشاريان ورئيس الوزراء سيرج سركسيان. غير أن هذه الكتلة احتلت المركز الثاني عشر في ترتيب الكتل المتنافسة... ولم تحصد، بالتالي، سوى أكثر بقليل من واحد في المائة من أصوات الناخبين. ودفعت النتائج إلى تنظيم احتجاجات جديدة تطالب بإعادة العملية الانتخابية.
وفي العام التالي، واصل باشينيان نشاطه المعارض عضواً في مقر الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي ليفون تير بتروسيان. ومع خسارة المرشح وبعد تجدد أعمال الشغب في ربيع العام، بات اسم باشينيان مدرجا على قائمة المطلوبين في يريفان. ولذا اضطر إلى الاختفاء عن الأنظار لمدة سنة كاملة، قام بعدها بتسليم نفسه إلى السلطات. وفي بداية العام 2010. حُكم عليه بالسجن 7 سنوات بتهمة تنظيم أعمال شغب جماعية. وفي وقت لاحق، خفضت المحكمة المدة إلى النصف، وفي مايو (أيار) 2011 أطلق سراحه بموجب عفو بمناسبة الذكرى العشرين لاستقلال أرمينيا.

نائب في البرلمان الأرميني
لم يكد باشينيان يغادر سجنه حتى استأنف نشاطه السياسي. وفي العام 2012 حقق أول اختراق جدي، عبر انتخابه نائبا في الجمعية الوطنية (البرلمان) لأرمينيا بفضل نظام الانتخاب النسبي. وهكذا، غدا واحداً من أبرز أعضاء كتلة «المؤتمر الوطني الأرمني» النيابية، وعضواً في اللجان البرلمانية الدائمة للعلاقات الخارجية وقضايا الإدارة الإقليمية والحكم الذاتي المحلي.
أيضاً، ترأس باشينيان فترة لجنة الأخلاقيات المؤقتة. إلا أن طبيعته المتمردة قادت إلى خلافات جدية داخل الكتلة التي سعت إلى إعلان نفسها حزباً سياسيا يحمل الاسم نفسه «المؤتمر الوطني الأرمني». إذ رفض باشينيان الانضمام إلى التنظيم الجديد بسبب خلافات مع قيادة الحزب، ليتضح فيما بعد أن سبب الخلاف الأساسي حقيقة أن الحزب الجديد قرر عدم تسمية مرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. وهو أمر اعترض عليه باشينيان بقوة.
ولكن رغم مغادرته الحزب بقي نائباً في البرلمان، حتى شارك عام 2015 في تأسيس حزب «العقد المدني»، الذي خاض بعد سنتين انتخابات نيابية ضمن إطار تحالف واسع حمل باشينيان مرة أخرى إلى عضوية البرلمان. لكن السياسي والصحافي الطموح لم يكتف بذلك، بل خاض في سبتمبر (أيلول) من عام 2017. المنافسة على منصب عمدة يريفان واحتل المركز الثاني، بنحو 21 في المائة من الأصوات.

نقطة تحول مهمة
أما نقطة التحول الأساسية في حياة باشينيان السياسية، فجاءت يوم 13 أبريل (نيسان) 2018. عندما نظم وقاد احتجاجات واسعة ضد انتخاب سيرج سركسيان. وفي 22 أبريل استقبل سركسيان وفداً من المحتجين يرأسه باشينيان، في محاولة لامتصاص نقمة الشارع. بيد أن المحادثات فشلت، وغادر الرئيس المنتخب حديثًا الاجتماع بعدما قال زعيم المعارضة إنه مستعد لـ«مناقشة استقالة سركسيان فقط». وفي اليوم نفسه أثناء مسيرة في وسط يريفان، اعتقلت الشرطة نيكول باشينيان.
ولكن سجنه هذه المرة لم يدم طويلا، إذ أثار الإعلان عن احتجازه غضباً عارماً في الشارع الأرميني الذي انضم بغالبية واسعة لمطالب مواجهة الفساد وإطاحة النخبة السياسية. وفي اليوم التالي، الذي كان حاسما، اضطرت الأجهزة الأمنية التي حاصر المتظاهرون مقراتها إلى إطلاق سراح باشينيان. وفي اليوم ذاته، استقال سركسيان، معلنا أنه اتخذ القرار بهدف حقن الدماء ومنع انزلاق الموقف نحو تصعيد أوسع. وهنا يقول مقربون منه إنه قال «كان نيكول باشينيان على حق. لقد ارتكبت خطأ. للوضع الحالي عدة حلول، لكنني لن أذهب إلى أي منها. لن أسمح بانفجار حقل الألغام. سأترك منصب رئيس البلاد».
في تلك اللحظة، تحول باشينيان إلى الزعيم الأوحد للمعارضة. وأثارت التطورات قلق القوى الإقليمية بقوة، وخصوصا روسيا التي ربطتها بسركسيان علاقات وثيقة. إذ كانت موسكو تنظر بكثير من الشك، إلى السياسي الشاب الذي برز فجأة من خلال ثورة شعبية، ولا سيما، أن بين أنصاره من رفع شعارات تنادي بإدارة الظهر لروسيا وتقويض التحالفات معها.
لم يحتج باشينيان إلى أكثر من ثلاثة أيام من النقاشات العاصفة في البرلمان لإقرار ترشيحه لمنصب رئيس الوزراء. غير أنه واجه صعوبات كثيرة فيما بعد. وفي الفترة بين مايو (أيار) وأكتوبر (تشرين الأول) كان عليه خوض معارك كبرى مع البرلمان الذي يضم في غالبيته نواباً يمثلون النخب التي ثار ضدها. وهو ما دفعه إلى تقديم استقالته من رئاسة الوزراء، بهدف حل الجمعية الوطنية وتنظيم انتخابات نيابية مبكرة.
الواقع، أن باشينيان استفاد من نص دستوري يقضي بحل مجلس النواب إذا ما فشل في تعيين رئيس وزراء جديد في غضون أسبوعين بعد تقديم الاستقالة. وبالفعل، هذا ما حصل، إذ قد فشل البرلمان خلال جلستين عاصفتين في ترشيح بديل عنه، ما دفع رئيس أرمينيا أرمين سركسيان لتوقيع مرسوم بشأن حل البرلمان وتحديد موعد انتخابات برلمانية مبكرة في أرمينيا. وفي هذه الانتخابات التي أجريت قبل نهاية العام، اكتسحت كتلة باشينيان البرلمان بحصولها على أكثر من 70 في المائة من الأصوات، ولم يلبث أن عاد رئيس الوزراء ظافرا إلى موقعه في الشهر التالي.

برامج إصلاح داخلية واسعة
كان الفساد أحد الأسباب الرئيسية للثورة في أرمينيا. وعد باشينيان بمحاربة الفساد بكل الوسائل. رغم أنه تمكن من كسر العديد من الاحتكارات التي كانت قائمة لمدة 30 عامًا، إلا أن معظم أصحاب الملايين وممثلي النخب الأوليغارشية مالت للتعاون مع السلطات لحماية مصالحها. وعموما، خلال عامها الأول في السلطة، جعلت حكومة باشينيان الرعاية الصحية مجانية للمواطنين دون سن الـ18. كذلك أطلق برنامجا لعلاج السرطان بالكامل على نفقة الدولة ما أكسبه تعاطفا واسعا في الشارع.
لقد كان الهدف الأول لباشينيان تحسين سمعة بلاده على صعيدي الفساد ومؤشر الديمقراطية. وفي السنة الأولى من حكمه، صنفت مجلة «الإيكونيميست» البريطانية أرمينيا بكونها «بلد العام» لإنجازاتها في مجال بناء الديمقراطية. واتضح أن يريفان حققت أكبر تحسن في أدائها على هذا الصعيد على المستوى الإقليمي. وفي دراسة مماثلة لعام 2019. صعدت أرمينيا 17 نقطة، لتتصدر مؤشرات الإصلاح الديمقراطي في المنطقة وفي الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
وعلى صعيد محاربة الفساد حقق باشينيان نجاحات مماثلة، وفي المنشور السنوي لمؤشر مدركات الفساد لعام 2019، حققت أرمينيا أكبر قفزة بين بلدان رابطة الدول المستقلة والمنطقة لتنتقل من المركز 105 إلى المركز 77. وأيضًا، بعد عام من حكم باشينيان، في تصنيف منظمة حقوق الإنسان الذي يتولى «تصنيف البلدان حسب مستوى حرية الوصول إلى الإنترنت» احتلت أرمينيا المركز الأول في «رابطة الدول المستقلة» ودخلت البلدان العشر الأولى التي تتمتع بأكبر قدر من حرية الإنترنت. وأشار التقرير إلى أن «رئيس الوزراء الإصلاحي نيكول باشينيان بدأ في الحد من القيود المفروضة على المحتوى وانتهاكات حقوق المستخدم».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.