بعد التأييد الكاسح الذي أسفر عنه الاستفتاء الشعبي يوم الأحد الفائت لتغيير الدستور، دخلت تشيلي الشوط الأخير من مسيرة طي صفحة ديكتاتورية الجنرال أوغوستو بينوشيه الذي رحل في عام 1990 تاركاً وراءه إرثاً ثقيلاً من القمع السياسي وترسانة من التشريعات الليبرالية تحت عباءة دستورية تحاول القوى الديمقراطية تفكيكها منذ سنوات بصعوبة فائقة.
وبلغت نسبة المؤيدين لتغيير الدستور 78% من الناخبين الذين شاركوا في الاستفتاء بما يزيد على 51% رغم الوضع الوبائي الذي تشهده البلاد. ومن المقرر أن تبدأ هذه المرحلة الجديدة التي مهّدت لها نتيجة الاستفتاء، في أبريل (نيسان) المقبل باختيار 155 مواطناً، بالتساوي بين الرجال والنساء، يمثّلون مختلف القطاعات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية لوضع نص الدستور الجديد الذي سيحلّ مكان الدستور الحالي الساري منذ أربعين عاماً.
وستُعطى الهيئة المكلّفة صياغة الدستور الجديد مهلة لا تتجاوز السنة لوضع نص دستوري يحدد معالم ومواصفات النظام الجديد للحكم الذي سيُعرض على الاستفتاء الشعبي في عام 2022 على أن يدخل حيّز التنفيذ بحلول خريف تلك السنة.
ومن المتوقع أن يشكّل باب الحقوق الاجتماعية العقدة الرئيسية أمام واضعي الدستور الجديد، إضافةً إلى أبواب أخرى مهمة مثل نظام الحكم الذي تتنازع حوله اتجاهات ثلاثة بين مؤيد لنظام رئاسي أو شبه رئاسي أو مدافع عن نظام برلماني صِرف يقصر صلاحيات رئيس الجمهورية على مراقبة المؤسسات ودستورية قراراتها.
وتقول كلاوديا هايس، أستاذة السياسات العامة في جامعة سانتياغو، إن الحقوق الاجتماعية هي الرحى التي ستدور حولها المعركة الحقيقية بين اليمين واليسار في صياغة الدستور الجديد، وإن القوى والأحزاب اليمينية ترى أن تكريس الحقوق الاجتماعية في النص الدستوري سيدفع البلاد نحو الإفلاس الاقتصادي، إذ يُنيط القضاء بصلاحية إلزام الدولة تخصيص الموارد العامة لتفعيل الحقوق الاجتماعية التي يطالب بها العمال والموظفون.
لكن المعسكر اليساري يرى أن هذه المخاوف ليس لها ما يسوّغها، خصوصاً أن انفجار الاحتجاجات الشعبية التي عصفت بالبلاد خريف العام الماضي أظهرت رسوخ المطالب الاجتماعية بتكريس حقوق التعليم والصحة والمعاشات التقاعدية والمسكن والعمل والحفاظ على البيئة، في القوانين الأساسية، وأن تجاهل هذه الحقوق سيفتح الباب مجدداً على الاهتزاز وتقويض الاستقرار الاجتماعي الذي لا يتحقق نمو اقتصادي من دونه.
لكن يحذّر خبراء دستوريون من أن تكريس حق منظمات المجتمع المدني والنقابات في معالجة المشكلات العامة وإيجاد حلول لها في النصوص الدستورية من شأنه أن يفتح الباب واسعاً أمام الجدل القانوني المعقّد بين المؤسسات ويحمل بذور أزمات مستعصية، علماً بأن معظم الدساتير الديمقراطية تحصر هذا الحق في الدولة ومؤسساتها وفتح الباب أمام الاحتكام للقضاء المختص في حال المنازعات.
وتجدر الإشارة إلى أن الدستور التشيلي الحالي خضع لأكثر من 50 تعديلاً في العقدين الماضيين، لكن من غير أن يمسّ أيٌّ منها الجوانب الليبرالية المفرطة التي تضمن حقوق المؤسسات الخاصة وأصحاب العمل في تسوية وبتّ مشكلات عامة مثل التعليم والصحة وحتى الضمان الاجتماعي.
ويُذكر أن تشيلي كانت أول البلدان النامية التي ارتقت إلى مرتبة الدول الصناعية الناشئة بعد سنوات متواصلة من النمو الاقتصادي جعلت من نموذجها الإنمائي الليبرالي مثالاً تدعو المنظمات الدولية إلى الاقتداء به، إلى أن انفجرت فيها الاحتجاجات الشعبية بعنف أواخر العام الماضي لتخبو تدريجياً مع هبوب عاصفة الوباء.
تشيلي تدخل الشوط الأخير من مسيرة طي صفحة ديكتاتورية بينوشيه
تشيلي تدخل الشوط الأخير من مسيرة طي صفحة ديكتاتورية بينوشيه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة