وفاة سيسيليا شيانغ أول من نقل المطبخ الصيني إلى أميركا

نجح مطعمها «ماندرين» في اجتذاب الزائرين بأطباق ترعرعت معها

شيانغ تطوف على طاولات مطعم «ماندرين» عام 1982
شيانغ تطوف على طاولات مطعم «ماندرين» عام 1982
TT

وفاة سيسيليا شيانغ أول من نقل المطبخ الصيني إلى أميركا

شيانغ تطوف على طاولات مطعم «ماندرين» عام 1982
شيانغ تطوف على طاولات مطعم «ماندرين» عام 1982

توفيت سيسيليا شيانغ، التي نجحت من خلال مطعمها الذي يحمل اسم «ماندرين» باجتذاب الأميركيين خلال الستينات إلى عالم المطبخ الصيني الثري والمتنوع، أول من أمس (الأربعاء)، عن 100 عام داخل منزلها في سان فرانسيسكو. وأكدت ابنة حفيدتها، سينا شيانغ، خبر الوفاة.
كانت شيانغ قد انتقلت إلى الولايات المتحدة قادمة من الصين كابنة أسرة ثرية فرّت من اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية، وسافرت لمسافة تقارب 700 ميل على قدميها. وبمجرد وصولها سان فرانسيسكو، انطلقت بمفردها في مجهود طموح نقلت من خلال المطبخ الصيني داخل الولايات المتحدة إلى صورته الأكثر لطفاً وجاذبية الموجودة اليوم. وتمكنت من اجتذاب الأميركيين إلى أطباق لطالما تناولتها داخل قصر أسرتها في بكين.
في بادئ الأمر، افتتح مطعم «ماندرين» أبوابه عام 1962 وكان يضم 65 مقعداً في بولك ستريت في رشان هيل، وفي وقت لاحق انتقل المطعم إلى غيراديلي سكوير، قرب فيشرمانز وارف. وقدم المطعم لرواده أطباقاً لم يسمع بها من قبل، مثل اللحم البقري المبشور الجاف على طريقة «تشونغتشينغ»، وباذنجان «سيتشوان» بالفلفل، وحساء الأرز والموز المثلج.
تنتمي هذه الأطباق إلى المطبخ الماندريني التقليدي، مصطلح يشير إلى نمط الطعام السائد في منازل الأسر الثرية في بكين، التي يتولى الطهاة العاملون لديهم إعداد أطباق محلية بجانب أطباق إقليمية خاصة من سيشوان وشنغهاي وكانتون.
في مقال عن شيانغ عام 2007، كتبت صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل»، أن مطعمها «قدم الطعام الصيني الراقي، وعرّف العملاء على أطباق سيتشوان، مثل دجاج كونغ باو، بالإضافة إلى الكباب المفروم في أوراق الخس والبط المدخن والدجاج المحشو بالكامل بالفطر المجفف».
بمرور الوقت، أصبح المطعم مزاراً لنجوم عالم الطعام مثل جيمس بيرد وماريون كننغهام وأليس ووترز التي قالت، إن شيانج قدمت للمطبخ الصيني ما أنجزته جوليا تشايلد للمطبخ الفرنسي.
وترددت أصداء هذا التقدير في مقال نشرته مجلة «سافور» المعنية بالطعام عام 2000، عندما ذكرت أن «ما حققه (ماندرين)، لا يقل في جوهره عن تعريف أميركا بالمطبخ الصيني».
علاوة على ذلك، أدرج عالم الطعام بول فريدمان مطعم «ماندرين» في استبيانه التاريخي بعنوان «عشرة مطاعم غيرت أميركا» (2016).
مثل تشايلد، لم تكن شيانغ طاهية، بل ولم تكن حتى مرشحة محتملة لإدارة مطعم. ولدت في صن يون بالقرب من شنغهاي عام 1920 - التاريخ الدقيق غير معروف – وكانت الابنة السابعة في عائلة مكونة من تسع فتيات وثلاثة أولاد. كان والدها، صن لونغ غوانغ، يعمل مهندساً بالسكك الحديدية، وتلقى تعليمه في فرنسا وتقاعد في سن الخمسين لمتابعة القراءة والبستنة. أمّا والدتها، سون شو يون هوي، فتنتمي إلى عائلة ثرية كانت تمتلك مطاحن للدقيق ومصانع منسوجات. بعد وفاة والديها، تمكنت صن يون من إدارة الشؤون المالية للشركة بينما كانت لا تزال في سن المراهقة.
واحتل القصر الذي عاشت فيه الأسرة وينتمي إلى حقبة سلالة مينغ مساحة واسعة في بكين، وكانت عائلة شيانغ قد انتقلت للعيش فيه خلال منتصف عشرينات القرن الماضي. داخل القصر، لم يُسمح بدخول الأطفال إلى المطبخ، لكنّها أولت اهتماماً شديداً لرحلات تسوق المواد الغذائية مع والدتها واستمعت بعناية أثناء توجيه والدتها تعليمات مفصلة للطهاة.
بعد احتلال اليابانيين بكين عام 1939، تهدد الخطر ثروة الأسرة. في أوائل عام 1943، غادرت سيسيليا، كما دعاها مدرسوها في جامعة فو جين للروم الكاثوليك، للانضمام إلى أقاربها في تشونغتشينغ.
في رحلتها الطويلة، التي كان معظمها سيراً على الأقدام، عاشت على بضعة عملات ذهبية مخيطة في ملابسها، والتي أصبحت ممتلكاتها الوحيدة بعد أن سرق الجنود اليابانيون حقيبتها.
في تشونغتشينغ، عثرت سيسيليا على عمل بدوام جزئي مدرسةً للغة الماندرين في السفارات الأميركية والسوفياتية. كما التقت وتزوجت شيانغ ليانغ، الذي كانت تعرفه أثناء عمله أستاذاً للاقتصاد في جامعة فو جين، ولكن بحلول وقت زواجهما كان قد أصبح مديراً تنفيذياً لشركة التبغ.
انتقل الزوجان إلى شنغهاي بعد الحرب. عام 1949، عندما كانت القوات الشيوعية على وشك الاستيلاء على الصين، عُرض على السيد شيانغ منصب دبلوماسي في طوكيو في البعثة القومية الصينية. بعد عامين من وصولها طوكيو، افتتحت السيدة شيانغ مطعماً صينياً هناك، حمل اسم «فوربيدن سيتي» (المدينة المحرمة)، مع مجموعة من الأصدقاء. وحقق المطعم نجاحاً فورياً، واجتذب المغتربين الصينيين والرواد اليابانيين أيضاً.
انتقلت السيدة شيانغ بحراً إلى سان فرانسيسكو في عام 1960؛ لمساعدة أختها سون التي توفي زوجها للتو. هناك، قابلت اثنين من معارفها الصينيين من طوكيو، منهم سيدة هاجرت من وقت قريب إلى الولايات المتحدة وأرادوا فتح مطعم. وافقت شيانغ على تخصيص 10.000 دولار وديعةً متعلقة بمتجر عثروا عليه في بولك ستريت، بعيداً عن الحي الصيني في المدينة.
عندما تراجعت المرأتان، شعرت شيانغ بصدمة بالغة لدى علمها أن الوديعة غير قابلة للاسترداد. وهنا، أخذت نفساً عميقاً وقرّرت أن تتولى إدارة المطعم بنفسها بدلاً من إخبار زوجها بأنّها خسرت المال.
في الكتاب الثاني لسيرتها الذاتية الذي حمل عنوان «الابنة السابعة: رحلتي في عالم الطعام من بكين إلى سان فرانسيسكو»، كتبت شيانغ «بدأت أعتقد أنه إذا كان بإمكاني إنشاء مطعم يقدم خدمة على النمط الغربي وأجواء وأطباق كنت أكثر دراية بها - الطعام اللذيذ لشمال الصين - فربما ينجح مطعمي الصغير». وصدرت هذه السيرة عام 2007، أما السيرة الذاتية الأولى فحملت عنوان «طريق الماندرين» وصدرت عام 1974.
من خلال إعلان في إحدى الصحف، عثرت شيانغ على طاهيين موهوبين، وكانا زوجين من شاندونغ. وفي وقت قصير، انطلق عمل المطعم بقوة وازدهر. كانت الأيام الأولى صعبة، فقد رفض الموردون المحليون، الذين كانوا يتحدثون جميعاً اللغة الكانتونية، توريد سلع إلى «ماندرين». وأصبح من الصعب السيطرة على قائمة الطعام التي تتألف من 200 طبق. وبسبب غياب المساعدة، اضطرت شيانغ إلى تنظيف أرضيات المطبخ بنفسها.
إلا أنه شيئاً فشيئاً، بدأ رواد المطعم الصينيون، وعدد قليل من الأميركيين في زيارة المطعم بانتظام لتناول الأطباق اللذيذة. في إحدى الأمسيات، تناول هيرب كاين، كاتب العمود الشهير في «كرونيكل»، العشاء في المطعم وكتب عنه مقالاً أثنى عليه خلاله، وقال إنه رغم ضآلة حجمه «يقدم بعض أفضل الأطباق الصينية شرق المحيط الهادي».
وبين عشية وضحاها، امتلأت الطاولات برواد المطعم. وامتدت صفوف منهم خارج الباب، وأصبح واضحاً أن «ماندرين» انطلق في طريق النجاح.
في عام 1968، نقلت السيدة شيانغ المطعم إلى مكان أكبر في ميدان غيرارديلي، حيث أمكن استيعاب 300 فرد، وتقديم دروس في الطبخ.
وفي عام 1975 افتُتح فرع «ماندرين» الثاني في بيفرلي هيلز بولاية كاليفورنيا، الذي باعته لاحقاً، عام 1989، لنجلها فيليب. وفي وقت لاحق، أسهم فيليب في بناء سلسلة مطاعم «بي. إف. شانغ». وفي عام 1991، باعت شيانغ المقر الأصلي الأول لـ«ماندرين»، والذي أغلق أبوابه نهائياً عام 2006.
وحتى بلوغها التسعين، ظلت شيانغ تعمل استشارية في مجال المطاعم. وفي تصريحات لها لـ«كرونيكل» عام 2007 قالت «أعتقد أنني غيرت نظرة الشخص العادي نحو الطعام الصيني. ولم يكن هؤلاء يعرفون أنّ الصين بلدا ضخماً».
- خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)