أي مكان إلا المنزل... نيويوركيون يبدعون في تصميم مساحات العمل

في مارس (آذار)، كانت كيمبرلي براون، معلمة تأمُّلٍ تعيش في منطقة جاكسون هايتس في كوين، تعكف على تأليف كتاب، وتتشاور على نحو شخصي مع أليس بيك، المحررة المتعاونة معها بخصوص الكتاب. وعندما ضرب فيروس «كورونا» البلاد، اضطرتا إلى نقل اجتماعاتهما إلى فضاء تطبيق «زوم».
وبعد مرور بضعة شهور في الحجر الصّحي، لاحظت براون أن بيك، التي عادة ما كانت تشارك في اجتماعات «زوم» مِن على طاولة في غرفة الطعام في منزلها الكائن بريد هوك في حي بروكلين، ظهرت فجأة في مكان مختلف تماماً. وانتابت براون، التي كانت تشعر بالسجن لاضطرارها إلى العمل من داخل غرفة نومها طوال اليوم، دهشة بالغة عندما شاهدت المساحة الواسعة التي تتكلم منها المحرّرة المتعاونة معها. قائلة: «تساءلت في نفسي: يا إلهي! أين أنت بحق السماء؟».
مثلما الحال مع كثير من الأميركيين الذين كانوا محظوظين بما يكفي للعمل عن بُعد، اضطرّت بيك وبراون إلى اقتطاع مساحة للعمل داخل منزليهما. إلا أنه في الوقت الذي ربما يتوافر أمام أبناء الضواحي مساحات للعمل منها في المرأب أو القبو أو حتى غرف إضافية، فإن أبناء نيويورك الذين يعيشون داخل مساحات أضيق اضطروا في معظمهم إلى التحلي بقدر أعلى من التفكير الإبداعي لخلق مساحات تصلح للعمل. وقد وجد البعض منهم بعض العزاء في شقة خالية لجار أو مكتب غير مستخدم أو حتى غرفة في فندق.
من جهتها، اعتادت بيك العمل من منزلها، الأمر الذي كانت تفعله حتى قبل ظهور الوباء. ومن حين لآخر، كانت تتوجه للعمل من داخل مكتبة أو مقهى، وكانت تجري اجتماعات شخصية من داخل مساحة عمل مشتركة بمنطقة ميدتاون مانهاتن. إلّا أنّه بسبب وجود زوجها، الذي يعمل منسق إنتاج لدى إحدى المجلات، وابنها المراهق في المنزل طوال الوقت، فقدت بيك قدرتها على التركيز. وزاد الطين بلة أنّه كان باستطاعتها الاستماع إلى جارها، معلم الموسيقى، أثناء إعطائه دروساً عبر الإنترنت.
وعن ذلك، قالت بيك: «اعتدت العمل بمفردي طوال النهار، لكن اليوم كثيراً ما أشرع في الانغماس بالعمل وكتابة الجملة المثالية لأفاجأ بشخص يسألني: (هل لدينا أي كعك هنا؟)».
بعد كل هذا الوقت، تملّك السأم بيك، وبدأت رحلة البحث عن مساحة هادئة للعمل. في البداية، طلبت من سمسار عقارات معاونتها، ولكن لم يرُق لها ما عرضه عليها. بعد ذلك، اطّلعت على إعلان في «ليستينغز بروجكت»، نشرة عقارية أسبوعية، بخصوص استوديو فني في غوانوس ببروكلين. في العادة، كان يشغل الاستوديو رسام ومخرجان اثنان، لكن في ذلك الوقت كان الاستوديو الذي يبلغ ارتفاع سقف 20 قدماً قد جرى استغلاله كمخزن.
وأكدت بيك التي عاودت العمل من منزلها الآن بعدما خسرت الاستوديو الذي استأجرته في نهاية سبتمبر (أيلول) أن مستوى إنتاجيتها شهد ارتفاعاً هائلاً. وانتقلت بيك في الوقت الراهن للعمل من الفناء الخلفي الصغير لمنزلها، قائلة إنّها ربما تبحث عن مساحة جديدة، بمجرد أن يزداد الطقس برودة.
من جهتها، اعتادت لوسيانا غولكمان، المصورة المشهورة بصور الأطفال الذين يسحقون قطع الكعك، توصيل طفليها (عامين و5 أعوام) إلى الحضانة، من ثمّ تعود إلى شقتها المكونة من غرفتين في منطقة ستويفسانت تاون في مانهاتن، وسرعان ما تحول غرفة المعيشة إلى استوديو تصوير. إلا أنّه عندما ضرب وباء «كورونا» البلاد، اضطرت فجأة للتشارك في مساحة العمل الخاصة بها مع طفليها وزوجها، الذي يعمل في مجال التجارة. وعن ذلك، تقول: «الضوضاء في كل مكان». ما اضطرّها إلى إغلاق عملها بصورة مؤقتة.
لكن بعد بضعة شهور، شرعت أسر في الاتصال بغولكمان من جديد لعقد جلسات تصوير لأطفالهم. والآن، أصبح لزاماً عليها البحث عن مكان خاص بها بمفردها. فأعلنت عمّا تبتغيه عبر البريد الإلكتروني برسالة إلى الآباء والأمهات المسجلين لديها.
ورأت صديقة لها كانت قد غادرت المدينة خلال الصيف، رسالتها، فعرضت على غولكمان شقتها في بيتر كوبر فيليدج دون مقابل حتى بداية المدارس. وعندما عادت أسرتها، عثرت غولكمان على شقتين أخريين خاليتين في ستويفسانت تاون، كانتا قد أُخلِيَتا منذ وقت قريب، لكن لا يزال هناك وقت متبقّ في فترة تأجيرهما. وتنازل أحد المستأجرين عن مساحته مجاناً، بينما طلب الآخر من غولكمان نحو 200 دولار أسبوعياً.
ورغم أنّ كل مساحة عمل حصلت عليها غولكمان كانت مؤقتة، فإنها أكّدت أنّ هذه الترتيبات منحتها بعض الهدوء والسلام اللذين مكناها من المضي قدماً في عملها.
في يوليو (تموز)، وجد جون هينيغان، مخرج أفلام وثائقية ومصوّر فيديو، نفسه في مأزق، فقد كان قد عاد لتوه من رحلة عمل، لكن لزاماً عليه الشروع في العمل سريعاً على صُنْع فيلم وثائقي حول سباق الخيول، لكنّ مكتب عمله المعتاد الذي لم يكن سوى مجرد مكتب في غرفة تناول الطعام بشقته المكونة من ثلاث غرف في ويندسور تيراس ببروكلين، لم يعد له وجود؛ فقد وقع تحت سيطرة زوجته وشقيقتها.
وأدرك هينيغان أنّه إذا استمر في العمل من المنزل، فلن يتمكن من إنجاز الفيلم الوثائقي. وعليهما حجز غرفة لمدة ثلاثة ليال في «أرلو سوهو» مقابل 140 دولاراً في الليلة. وقال إن غرفة الفندق كانت رائعة، وكان باستطاعته إجراء اتصالات هاتفية طوال ساعات النهار والليل مع أفراد فريق الإنتاج المعاون له. وكان يتسوق طعامه من متجر «تريدر جويز» القريب، ويمارس الجري على طول نهر هودسون.
ومع انهيار السياحة، بدأت كثير من الفنادق تعلن عن إمكانية استغلال غرفها كمكاتب. على سبيل المثال، أقدم فندق «وايث هوتيل» في ويليامزبرغ ببروكلين على إعادة تصميم ست غرف لتتحول إلى مكاتب وداخل «إيه كيه إيه»، فندق مخصص لفترات الإقامة طويلة الأجل، حجزت شركتان تعملان بمجال التمويل والاستشارات جناحين لهما في فرعي «تايمز سكوير» و«سنترال بارك» من أجل الموظفين، حسبما أفاد به لاري كورمان، رئيس الشركة المالكة للفندق.
علاوة على ذلك، تكثُر في أرجاء المدينة عيادات الأطباء الخالية، مع تحوّل كثير من المرضى إلى استشارة الأطباء عبر الهاتف. من ناحيتها، لم ترغب تيريزا ستيرن، العاملة في مجال الرعاية، بالتخلي عن مكتبها الذي تبلغ تكلفة استئجاره 2200 دولار شهرياً ويطل على بروكلين هايتس، الذي وصفته بأنّه «أحد أفضل المكاتب التي حظيت بها»، لذا قرّرت تأجيره من الباطن.
في البداية، عثرت على مايكل راندازو، الذي عمل هناك طوال خمسة أسابيع. وقال، وقد أصبح الآن كاتباً حراً بعدما خسر عمله بدوام كامل في جامعة لونغ آيلاند في وقت سابق من العام، إنّه رغب في مكان هادئ لإنجاز مشروعه في الكتابة. لكنه مع وجود زوجته، إدارية في إحدى المدارس، وابنيه المراهقين طوال اليوم داخل شقتهم المكونة من غرفتين في فورت غرين ببروكلين، أصبح راندازو بحاجة ماسة إلى بعض الخصوصية.
ونجح راندازو، الذي دفع نحو 600 دولار مقابل استئجار المكتب لمدة خمسة أسابيع، في قضاء ما وصل إلى ستة ساعات يومياً في الكتابة، بينما كان يعقد مقابلات باقي الوقت. وأشار إلى أنّ استئجاره لمكتب تيريزا كان قراراً جيداً في ظل ظروف عصيبة، قائلاً إنّ «حجم العمل الذي أنجزته، بجانب المنظر العام الذي يطل عليه مكتبها، لا يقدران بثمن».
والآن، وافق مخرج أفلام على استئجار مكتب ستيرن، ما جعلها تشعر بالارتياح. وعن هذا قالت: «أعرف كثيراً من المعالجين الذين يأملون في تأجير المساحات المكتبية الخاصة بهم من الباطن لأنّ كثيراً من أصحاب العقارات رفضوا تخفيف قيمة أو شروط الإيجار لنا».
* خدمة «نيويورك تايمز»