رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك

رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك
TT
20

رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك

رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك

تتأجّجُ الظهيرة بالسماوات، إذ يهبطان معا ليكتشفا أن النباتَ يخلقُ الموسيقى، حتى قبل أن تجفّ النارُ، وقبل أن يكتبَ رمادُها نونَنا الأولى.
هاتِ أقداحك، لئلا يقال إننا قصّرنا عن شاهق الصيف وتأخرنا عن السهرة.. هاتها، فسوف يطيبُ للشمل أن يكتمل، والشكل أن يغمضَ عينيه وهو يهطل علينا لبنا وياسمينا.
هاتها، جاءتنا الولاداتُ بالغنى والتنوع وسوف نحتفي كما يليق بهذه النعمة.
احتفِ بها، نخبُها مطرٌ يهطلُ من بين أصابعها، صعودا إلى سماءِ شيبكِ، آه يا شيبة عمرك الذي يصرخ كل صباح بأنه يلدُ العالم. هذه المولودة الصغيرة كأنها قضمة أخرى في تفاحة الخلق، وأنتَ يا آدم العطشان.. لا نهرَ يروي انسلالك من نسب الجنات ولا شجرَ يواريكَ سوى المطر.
هو العطف، حطّ في كفّ وبقية الخلائق في كف. هو المخلوق يكمل ما تبقى من ناقص التكوين، سهما في مهجة الموت، حرفا في استدارة الأعمار. كأن حياتي كلها لُفّتْ في قماط. كأن هذا البكاءَ البريء شحنة نداءٍ أو دعاء.
قومي يا ماسة الحديد، وليكن عرسا رغم فوضانا في المشاع. قومي من ميسمٍ ناطقٍ.
ووزعي نثرا ما تبقى من رمق الحب. هكذا سنُولدُ في احتمال أن نبقى شهداء على توالي المد في رمل السؤال، وسوف يقول الميتون: كلنا في ذهاب، لكنها تأتي قنصلا للمحتمين بحائط المعنى، كأنها أولُ الذكريات في مستقبل وثني، صنم يهاجر في برزخ ويطل في أنوار، تعبده الأمنيات وترزح تحت قوافيه السواقي. هل بقي ما يقالُ غير الصمت؟ هل حلّ في الأرض النبأ؟
الأطفالُ هم النبأ الأعظم، كلّ فلذة رسالة من السماء تأتي، وإلى السماء تأخذنا. لكأننا الخيطُ الرهيف في ريشة الجناح الذي يصعدُ بهم وبنا.
يتضاعفُ درسُ العطف فيصير حنانا، وسرعان ما يتبدى حبا. تُرى هل نقدر على جعل الطفولة حصننا ضدهم، هؤلاء الذين يشحذون آلاتهم في عظام أحلامنا؟ لماذا كلما طلبنا قصعة الماء جاءنا رماد؟ لماذا كلما طلبنا شمسا جاءنا شواظ؟
ثمة سبب جديد يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش، بأملِ أن نقوى على جعلها رحيمة بالأطفال.
خذ مني هذه الريشة. ضعها في المريض من جسدك، فتبرأُ ويستخفّكَ الهواء. خذ الريشة مني وأعطني رحمة الريح. كلّ كلام يقصر عن البصر تخونه البصيرة، ويستعصي عليه النص. تولّهُ يا حافرَ الرمل، هذا مسيرُكَ يثمرُ زهرة البر، وهذه نطفة البحر تسرد ما تولّهتَ عليه في الممشى. هذا القلبُ كنتُ أريده مصفاة للولاء.
لكنهم ثقبوه، وكانت أحلامُهم سَرَحانَ جُهّال وكلماتهم نعيبَ برقٍ مشاكس.
خذِ اللحظة وافلقها، ولنكنْ متوازيين كي يصلَ القطارُ سليما.



جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT
20

جمعة اللامي... خرج من السجن أديباً وصحافياً متميزاً

جمعة اللامي
جمعة اللامي

لم يأتِ رحيل المبدع العراقي جمعة اللامي في السابع عشر من هذا الشهر مفاجئاً لمعارفه ومحبيه. إذ لم تحمل السنوات الأخيرة الراحة له: فقد سكنه المرض، وتلبدت الذاكرة بضغوطه، فضاع كثير من الوهج الذي تميزت به كتاباته. وتجربة جمعة اللامي فريدة؛ لأنه لم يكن يألف الكتابة قبل أن يقضي سنواتٍ عدة سجيناً في عصور مضت. لكنه خرج من هذه أديباً، وصحافياً متميزاً.

ربما لا يعرف القراء أنه شغل مدير تحرير لصحف ومجلات، وكان حريصاً على أن يحرر الصحافة من «تقريرية» الكتابة التي يراها تأملاً بديعاً في التواصل بين الذهن واللغة. خرج من تلك السنوات وهو يكتب الرواية والقصة. وكانت روايته «من قتل حكمت الشامي» فناً في الرواية التي يتآلف فيها المؤلف مع القتيل والقاتل. ومثل هذه المغامرة الروائية المبكرة قادت إلى التندر. فكان الناقد الراحل الدكتور علي عباس علوان يجيب عن تساؤل عنوان الرواية: من قتل حكمت الشامي؟ جمعة اللامي. لكن الرواية كانت خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ماورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية). وسكنته روح المغامرة مبكراً. وكان أن كتب مسرحية بعنوان «انهض أيها القرمطي: فهذا يومك»، التي قادته أيضاً إلى محنة أخرى، لولا تدخل بعض معارفه من الأدباء والمفكرين. وجاء إلى القصة القصيرة بطاقة مختلفة جزئياً عن جيله. إذ كان جيل ما بعد الستينات مبتكراً مجدداً باستمرار. وكان أن ظهرت أسماء أدبية أصبحت معروفة بعد حين وهي تبني على ما قدمه جيلان من الكتاب: جيل ذو النون أيوب، وما اختطه من واقعية مبكرة انتعشت كثيراً بكتابات غائب طعمة فرمان، وعيسى مهدي الصقر وشاكر خصباك، وجيل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي، والذين بنوا عليه وافترقوا عنه كمحمد خضير، وموسى كريدي، وأحمد خلف، وعبد الستار ناصر، وعدد آخر. وكان جمعة اللامي ينتمي إلى هذا الجيل، لكنه استعان بهندسة القصة لتكون بنية أولاً تتلمس فيها الكلمات مساحات ضيقة تنوء تحت وقع أي ثقل لغوي. ولهذا جاءت قصصه القصيرة بمزاوجة غريبة ما بين الألفة والتوحش، يتصادم فيها الاثنان، ويلتقيان في الأثر العام الذي هو مآل القص.

وعندما قرر اللامي التغرب وسكن المنفى، كان يدرك أنه لن يجد راحة البال والجسد. لكنه وجد في الإمارات ورعاية الشيخ زايد حاكم الدولة، وبعده عناية الشيخ الدكتور سلطان القاسمي ما يتيح له أن يستأنف الكتابة في الإبداع الأدبي وكذلك في العمود الصحافي. ولمرحلة ليست قصيرة كان «عموده» الصحافي مثيراً لأنه خروج على المألوف، ومزاوجة ما بين العام والشخصي، اليقظة والحلم، المادية والروحانية. وعندما ينظر المرء إلى مسيرة طويلة من الكد الذهني والجسدي فيها الدراية والعطاء، يقول إن الراحل حقق ذكراً لا تقل عنه شدة انتمائه لمجايليه وأساتذته وصحبه الذين لم يغيبوا لحظة عن خاطره وذهنه، كما لم يغب بلده الذي قيَّده بحب عميق يدركه من ألِفَ المنافي وسكن الغربة.

سيبقى ذكر جمعة اللامي علامة بارزة في أرشيف الذاكرة العراقية والعربية الحيّة.

 كانت روايته «مَن قتل حكمة الشامي؟» خروجاً على الرواية البوليسية وإمعاناً في المزاوجة ما بين ما ورائية القص وواقعتيه (ما بعد الكولونيالية)