«مخلب» تركيا في العراق يهدد بنزوح سكان المنطقة الحدودية ويدمّر مصادر رزقهم

دخان متصاعد بعد ساعات من القصف التركي أمس
دخان متصاعد بعد ساعات من القصف التركي أمس
TT

«مخلب» تركيا في العراق يهدد بنزوح سكان المنطقة الحدودية ويدمّر مصادر رزقهم

دخان متصاعد بعد ساعات من القصف التركي أمس
دخان متصاعد بعد ساعات من القصف التركي أمس

وقف العراقي حسن نهيلي قرب سياج بستانه الصغير عاجزا يراقب النيران تلتهم أشجار التفاح التي رعاها لخمس سنوات وبالكاد بدأت تؤتي ثمارها، بعد فشل كل محاولاته التي استمرت لساعات في إيقاف انتشار النيران التي أتت على البستان بعد قصف جوي تركي وقع منتصف ليل الأربعاء - الخميس، في إطار عملية «مخلب النمر» التي أعلنتها أنقرة في شمال العراق.
حسن، ذو الستين عاما، عاد إلى قريته سكيري في منطقة نهيلي التابعة لقضاء العمادية بإقليم كردستان العراق قبل 6 أعوام، بعد أن هاجر منها لعقود بسبب سياسات النظام السابق والتقلبات السياسية والأمنية في المنطقة. وعمل على مدى 5 سنوات على إعادة تأهيل وزراعة بستانه الذي ورثه عن جده، آملا أن يقضي فيه سنواته الأخيرة براحة وطمأنينة افتقدها فترة هجرته.
وقال بصوت متقطع وهو يتتبع بقايا النيران ليطفئها مستخدما جذع شجرة أمسكها بيديه: «ماذا أقول؟ الحمد لله اقتصرت خسائرنا على الأضرار المادية ولم تقع خسائر في أرواحنا. الشخص الذي أطلق القنابل علينا كان يتمنى أن تحصد أرواحنا كما حصدت الأشجار في بساتيننا».
ومنطقة نهيلي هي إحدى المناطق الحدودية التي تتعرض للقصف الجوي والهجمات بشكل متكرر من قبل الجيش التركي بذريعة ملاحقة عناصر «حزب العمال الكردستاني». وكان آخرها قصف جوي مزدوج وقع منتصف ليل الأربعاء - الخميس، استهدف 3 قرى هي سركالي وسكيري وبالافا التابعة للقضاء، ما تسبب بحرائق كبيرة انتشرت في بساتين ومراعي الفلاحين. ولا يقتصر استهداف الغارات الجوية وهجمات الجيش التركي على مناطق قضاء العمادية، بل يطال جميع القرى على الخط الحدودي الذي يبدأ بقضاء زاخو في محافظة دهوك، وينتهي عند المثلث الحدودي العراقي - الإيراني - التركي على تخوم محافظة السليماني.
وعلى مدى عقود، تبدأ عمليات الجيش التركي ضد مقاتلي «حزب العمال» في مطلع الربيع وتستمر حتى الشتاء حين تتوقف الهجمات بسبب قسوة الظروف الجوية والتضاريس الجبلية في هذه المناطق. وتستهدف العمليات عادة أي تحرك بشري في هذه المناطق، ما يؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين. وكانت غارات جوية تركية استهدفت مجموعة من المدنيين في مجمع شيلادزي التابع لقضاء العمادية مطلع العام الماضي، ما تسبب بمقتل اثنين منهم وأشعل غضبا شعبيا في المنطقة تحول إلى مظاهرة أمام إحدى القواعد التركية التي استهدف عناصرها المتظاهرين بالسلاح الحي، ما تسبب بجرح متظاهرين اثنين قبل أن يقوم المتظاهرون باجتياح القاعدة.
- اتفاق مع نظام صدام
وتستند تركيا في تجاوزاتها للسيادة العراقية في المناطق الحدودية إلى اتفاقية أبرمت في عهد نظام الرئيس الراحل صدام حسين، بهدف تنسيق جهود ملاحقة «البعث» لعناصر البيشمركة وملاحقة تركيا لعناصر «العمال الكردستاني». وتعطي هذه الاتفاقية الحق لكل دولة بملاحقة أهدافهما داخل حدود الدولة الأخرى بعمق 20 كيلومترا.
ويرى الخبير القانوني طارق حرب أن اتفاق صدام وتركيا بشأن دخول القوات «انتهى منذ نهاية الحرب العراقية - الإيرانية في 1988». وقال حرب في تصريح صحافي إن «الاتفاقية كانت أحد شروط ضمان تأييد تركيا للعراق في الحرب مع إيران، وبما أن الحرب قد انتهت ولم يجدد صدام الاتفاق بعدها فتكون الاتفاقية منتهية».
بعد سقوط النظام السابق عام 2003 استغلت تركيا هذه الاتفاقية لتقيم قواعد ثابتة لها داخل الأراضي العراقية، ونفذت نحو ألف هجوم في مناطق شمال العراق خلال الأعوام الأربعة الماضية، بحجة ملاحقة عناصر «العمال الكردستاني»، دمرت خلالها قرى كاملة وقتلت عشرات من المدنيين، علاوة على الخسائر المادية الناجمة عن حرق البساتين وتدمير المراعي وحقول تربية النحل.
وكانت وزارة الدفاع التركية قد أعلنت في 16 يونيو (حزيران) الماضي عن انطلاق عملية «مخلب النمر» في شمال العراق، لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني. ونفذ الجيش التركي الكثير من عمليات الإنزال الجوي في قرى ناحيتي باطوفة ودركار التابعتين لقضاء زاخو، بهدف السيطرة على مواقع جبلية استراتيجية، وتمت السيطرة فعليا على عدد من المواقع واتخاذها كمراكز مراقبة ورصد وهجوم، وهي قريبة أو تطل على قرى المنطقة ما تسبب بنزوح سكانها. وخلال 3 أشهر من العملية، قُتل 6 مدنيين، وتم استهداف سيارات مدنية عدة، إلى جانب مقتل ضابطين عسكريين في قوات حرس الحدود العراقية، إضافة إلى تضرر سكان نحو 150 قرية تابعة لمحافظة دهوك بشكل مباشر أو غير مباشر.
- سيطرة مخابراتية
وأقام الجيش التركي منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي وحتى العام المنصرم نحو 20 مركزا أمنيا في مناطق داخل إقليم كردستان. وبات يسيطر فعليا على عشرات القرى، وتقوم بين فترة وأخرى بقطع الطرق والتحقيق مع سكان بعض القرى والمزارعين بشأن تحركات مقاتلي «العمال الكردستاني»، وهي تنتشر فعليا اليوم في مناطق بامرني وشيلادزي وباتوفا وكاني ماسي وكيريبز وسنكي وسيري وكوبكي وكومري وكوخي سبي وسري زير ووادي زاخو والعمادية.
وخلال العملية الأخيرة، أضاف الجيش التركي سلسلة نقاط أمنية جديدة داخل أراضي إقليم كردستان وبعمق يصل إلى 30 كيلومترا، أضيفت إلى القواعد الثابتة والنقاط الأمنية السابقة.
ويقول ناشط مدني من سكان المنطقة ينتقد وجود تركيا وعملياتها وتلاحقه قواتها أمنيا: «نحن تحت سيطرة المخابرات التركية المسيطرة على كامل المنطقة وتقوم بعمليات نوعية من اغتيال واعتقال من دون أي رقيب». وأضاف أن «وجود الأتراك ليس هدفه ملاحقة حزب العمال، إنما يسعون إلى السيطرة على المنطقة بكاملها وفق مخططات مستقبلية لفرض أنفسهم كقوة في الشرق الأوسط». ولم يصدر عن الحكومة العراقية حتى الآن أي بيان يحدد عدد القواعد التركية في شمال العراق، وحجم تمدد الجيش التركي في أراضي إقليم كردستان العراق. لكن مصادر تركية تتحدث عن وجود أكثر من 20 قاعدة ونقطة أمنية.
- خيبة أمل من بغداد
ورفضت الحكومة العراقية بشكل متكرر الاعتداءات التركية الأخيرة في شمال العراق، وأكدت على لسان الناطق باسمها أحمد ملا طلال في بيان أن العراق سلّم السفير التركي رسالتي احتجاج شديدتي اللهج، مشيرا إلى أن بغداد «لديها حق حماية أراضيها». وحمّل تركيا «المسؤولية القانونية والأخلاقية عن كلّ ما يقع من خسائر بشرية ومادية». ودعا المجتمع الدولي إلى دعم حق العراق السيادي في حماية أراضيه وحفظ سلامة شعبه.
غير أن حسن نهيلي يشعر بخيبة أمل إزاء اقتصار موقف الحكومة على الشجب، ويعتبر حياته معرضة للخطر، ما يدفعه إلى التفكير بالهجرة والنزوح مرة أخرى. ويقول بعد تنهيدة عميقة، وهو ينظر إلى سفح الجبل المطل على بستانه المحترق: «هل علينا أن نعيش طوال حياتنا مهجرين ونازحين بسبب دولة ضعيفة عاجزة عن حماية مواطنيها ودولة معتدية لا يردعها أحد؟».



نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
TT

نزيف بشري للجماعة الحوثية رغم توقف المعارك

مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)
مقبرة أنشأتها الجماعة الحوثية لقتلاها في صنعاء (أ.ف.ب)

شيّعت الجماعة الحوثية خلال الأسبوع الماضي أكثر من 15 قتيلاً من قيادييها العسكريين والأمنيين من دون إعلان ملابسات سقوطهم. ورغم توقف المعارك العسكرية مع القوات الحكومية اليمنية في مختلف الجبهات؛ فإن النزيف البشري المستمر لقياداتها وعناصرها يثير التساؤلات عن أسبابه، بالتزامن مع مقتل العديد من القادة في خلافات شخصية واعتداءات على السكان.

ولقي قيادي بارز في صفوف الجماعة مصرعه، الأحد، في محافظة الجوف شمال شرقي العاصمة صنعاء في كمين نصبه مسلحون محليون انتقاماً لمقتل أحد أقاربهم، وذلك بعد أيام من مقتل قيادي آخر في صنعاء الخاضعة لسيطرة الجماعة، في خلاف قضائي.

وذكرت مصادر قبلية في محافظة الجوف أن القيادي الحوثي البارز المُكنى أبو كمال الجبلي لقي مصرعه على يد أحد المسلحين القبليين، ثأراً لمقتل أحد أقاربه الذي قُتل في عملية مداهمة على أحد أحياء قبيلة آل نوف، التي ينتمي إليها المسلح، نفذها القيادي الحوثي منذ أشهر، بغرض إجبار الأهالي على دفع إتاوات.

من فعالية تشييع أحد قتلى الجماعة الحوثية في محافظة حجة دون الإعلان عن سبب مقتله (إعلام حوثي)

ويتهم سكان الجوف القيادي القتيل بممارسات خطيرة نتج عنها مقتل عدد من أهالي المحافظة والمسافرين وسائقي الشاحنات في طرقاتها الصحراوية واختطاف وتعذيب العديد منهم، حيث يتهمونه بأنه كان «يقود مسلحين تابعين للجماعة لمزاولة أعمال فرض الجبايات على المركبات المقبلة من المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة، وتضمنت ممارساته الاختطاف والتعذيب والابتزاز وطلب الفدية من أقارب المختطفين أو جهات أعمالهم».

وتقول المصادر إن الجبلي كان يعدّ مطلوباً من القوات الحكومية اليمنية نتيجة ممارساته، في حين كانت عدة قبائل تتوعد بالانتقام منه لما تسبب فيه من تضييق عليها.

وشهدت محافظة الجوف مطلع هذا الشهر اغتيال قيادي في الجماعة، يُكنى أبو علي، مع أحد مرافقيه، في سوق شعبي بعد هجوم مسلحين قبليين عليه، انتقاماً لأحد أقاربهم الذي قُتِل قبل ذلك في حادثة يُتهم أبو علي بالوقوف خلفها.

في الآونة الأخيرة تتجنب الجماعة الحوثية نشر صور فعاليات تشييع قتلاها في العاصمة صنعاء (إعلام حوثي)

وتلفت مصادر محلية في المحافظة إلى أن المسلحين الذين اغتالوا أبو علي يوالون الجماعة الحوثية التي لم تتخذ إجراءات بحقهم، مرجحة أن تكون عملية الاغتيال جزءاً من أعمال تصفية الحسابات داخلياً.

قتل داخل السجن

وفي العاصمة صنعاء التي تسيطر عليها الجماعة الحوثية منذ أكثر من 10 سنوات، كشفت مصادر محلية مطلعة عن مقتل القيادي الحوثي البارز عبد الله الحسني، داخل أحد السجون التابعة للجماعة على يد أحد السكان المسلحين الذي اقتحم السجن الذي يديره الحسني بعد خلاف معه.

وتشير المصادر إلى أن الحسني استغل نفوذه للإفراج عن سجين كان محتجزاً على ذمة خلاف ينظره قضاة حوثيون، مع المتهم بقتل الحسني بعد مشادة بينهما إثر الإفراج عن السجين.

وكان الحسني يشغل منصب مساعد قائد ما يسمى بـ«الأمن المركزي» التابع للجماعة الحوثية التي ألقت القبض على قاتله، ويرجح أن تجري معاقبته قريباً.

وأعلنت الجماعة، السبت الماضي، تشييع سبعة من قياداتها دفعة واحدة، إلى جانب ثمانية آخرين جرى تشييعهم في أيام متفرقة خلال أسبوع، وقالت إنهم جميعاً قتلوا خلال اشتباكات مسلحة مع القوات الحكومية، دون الإشارة إلى أماكن مقتلهم، وتجنبت نشر صور لفعاليات التشييع الجماعية.

جانب من سور أكبر المستشفيات في العاصمة صنعاء وقد حولته الجماعة الحوثية معرضاً لصور قتلاها (الشرق الأوسط)

ويزيد عدد القادة الذين أعلنت الجماعة الحوثية عن تشييعهم خلال الشهر الجاري عن 25 قيادياً، في الوقت الذي تشهد مختلف جبهات المواجهة بينها وبين القوات الحكومية هدوءاً مستمراً منذ أكثر من عامين ونصف.

ورعت الأمم المتحدة هدنة بين الطرفين في أبريل (نيسان) من العام قبل الماضي، ورغم أنها انتهت بعد ستة أشهر بسبب رفض الجماعة الحوثية تمديدها؛ فإن الهدوء استمر في مختلف مناطق التماس طوال الأشهر الماضية، سوى بعض الاشتباكات المحدودة على فترات متقطعة دون حدوث أي تقدم لطرف على حساب الآخر.

قتلى بلا حرب

وأقدمت الجماعة الحوثية، أخيراً، على تحويل جدران سور مستشفى الثورة العام بصنعاء، وهو أكبر مستشفيات البلاد، إلى معرض لصور قتلاها في الحرب، ومنعت المرور من جوار السور للحفاظ على الصور من الطمس، في إجراء أثار حفيظة وتذمر السكان.

وتسبب المعرض في التضييق على مرور المشاة والسيارات، وحدوث زحام غير معتاد بجوار المستشفى، ويشكو المرضى من صعوبة وصولهم إلى المستشفى منذ افتتاح المعرض.

ويتوقع مراقبون لأحوال الجماعة الحوثية أن يكون هذا العدد الكبير من القيادات التي يجري تشييعها راجعاً إلى عدة عوامل، منها مقتل عدد منهم في أعمال الجباية وفرض النفوذ داخل مناطق سيطرة الجماعة، حيث يضطر العديد من السكان إلى مواجهة تلك الأعمال بالسلاح، ولا يكاد يمرّ أسبوع دون حدوث مثل هذه المواجهات.

ترجيحات سقوط عدد كبير من القادة الحوثيين بغارات الطيران الأميركي والبريطاني (رويترز)

ويرجح أن يكون عدد من هؤلاء القادة سقطوا بقصف الطيران الحربي للولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا اللتين شكلتا منذ قرابة عام تحالفاً عسكرياً للرد على استهداف الجماعة الحوثية للسفن التجارية وطرق الملاحة في البحر الأحمر، وتنفذان منذ ذلك الحين غارات جوية متقطعة على مواقع الجماعة.

كما تذهب بعض الترجيحات إلى تصاعد أعمال تصفية الحسابات ضمن صراع وتنافس الأجنحة الحوثية على النفوذ والثروات المنهوبة والفساد، خصوصاً مع توقف المعارك العسكرية، ما يغري عدداً كبيراً من القيادات العسكرية الميدانية بالالتفات إلى ممارسات نظيرتها داخل مناطق السيطرة والمكاسب الشخصية التي تحققها من خلال سيطرتها على أجهزة ومؤسسات الدولة.

وبدأت الجماعة الحوثية خلال الأسابيع الماضية إجراءات دمج وتقليص عدد من مؤسسات وأجهزة الدولة الخاضعة لسيطرتها، في مساعِ لمزيد من النفوذ والسيطرة عليها، والتخفيف من التزاماتها تجاه السكان بحسب المراقبين.