«الانتفاضة اللبنانية»... وصفات لوقف التشتت وجمع الشمل

غسان صليبي يرى أن فقدان الثقة يعيق التنسيق في حده الأدنى

الذكرى الأولى لانتفاضة لبنان
الذكرى الأولى لانتفاضة لبنان
TT

«الانتفاضة اللبنانية»... وصفات لوقف التشتت وجمع الشمل

الذكرى الأولى لانتفاضة لبنان
الذكرى الأولى لانتفاضة لبنان

مع حلول الذكرى الأولى للانتفاضة اللبنانية صدر عن «دار نلسن» في بيروت، كتاب للباحث الاجتماعي والخبير النقابي غسان صليبي، ميزته أنه يسمح بإعادة قراءة هذا الحدث المفصلي، في سياقه الزمني. فالمؤلّف يتكون من مجموعة مقالات تغطي وتتناول بالتحليل التململ الشعبي، والاحتجاجات المعيشية والبيئية في شوارع بيروت بين عامي 2015 و2017. وصولاً إلى الانتفاضة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019؛ حيث يلحظ القارئ أن هذه المظاهرات الجامعة، لم تنبت من فراغ، وكانت لها مقدماتها وإرهاصاتها الواضحة. وتتواصل المقالات متحدثة عن سقوط حكومة سعد الحريري، والانهيار المالي، وتشكّل حكومة حسان دياب، وما رافق أزمة كورونا من عثرات زادت لبنان انهياراً على انهيار.
المقالات نشرت بين عامي 2017 و2020. لكنها بعد جمعها متسلسلة، تساعد على معاينة الخط الزمني الذي مر به لبنان في السنوات الأربع الأخيرة، وهي التي شهدت التحضير للانهيار الكبير. ويقول الكاتب: «كل ما أتمناه هو أن يجد المنتفضون في كتابي هذا ما يساعدهم على استئناف النضال الذي لن ينتهي قريباً».
الكتاب مقسم إلى 3 أجزاء، جزء سياسي يوصّف ويشرّح العاهات التي بات يعاني منها النظام اللبناني. وآخر اجتماعي يلقي الضوء على اضمحلال العمل النقابي ومشكلات المجتمع المدني، والعدد الأكبر من الصفحات خصصت للانتفاضة، لما لها من أهمية في إحداث تحولات مجتمعية عميقة.
في القسم السياسي، يبحث الكاتب في قضايا كثيرة، منها الدستور والشأن العام، ومدى التبعية السياسية وهامش النزعة إلى الاستقلال، والسياسات الحزبية وتوظيفها للطائفية، ويعرج على قصة زياد عيتاني الذي اتهم بالتعامل مع إسرائيل وسجن، وأثارت قصته غباراً كثيفاً، ثم تمت تبرئته. كذلك قصة منع فرقة «مشروع ليلى» من الغناء في مهرجانات جبيل، كذلك نقرأ عن حراك النفايات والضرائب الذي يمكن اعتباره بداية شرعية للانتفاضة الكبرى.
أما القسم الثاني، الاجتماعي، فيتطرق إلى قضايا الفقر الذي يتفاقم بوتيرة متسارعة، والتعليم الرسمي وسلسلة الرتب والرواتب، ويعالج مشكلة الحوار الاجتماعي، مع تفصيل لواقع الحركة النقابيّة اللبنانيّة ممثّلة بالاتحاد العمّالي العام، الذي فقد مع الزمن ديمقراطيته واستقلاليته وفعاليته.
وعن الانتفاضة، يوجد في الكتاب ما يقارب 40 مقالة، واكب من خلالها التحركات الشعبية في قراءة سوسيولوجية، مع الأخذ بعين الاعتبار أبعادها السياسية والاقتصادية. وهو يعتبر أن الكتاب عبارة عن إعلان «موت عهد وانهيار وطن وولادة انتفاضة لبنانيّة غير مكتملة». يقر الكاتب، وهو الذي شارك في الاحتجاجات، بأن الطريق طويل، لذا يتمنى أن يكون هذا الكتاب مساهمة منه في إعادة تفعيل انتفاضة تبدو بالنسبة له مشتتة ومتعثرة. لذا يرسم خريطة طريق للمحتجين، واقتراح بتحويل التحركات إلى «انتفاضة مستدامة» في الشارع وفي المؤسسات، لأن لبنان وصل إلى حافة خطر قد يؤدي إلى «دفن الكيان في ذكرى مئويته الأولى».
خلال تحركات 2015 - 2017 كان تركيز المحتجين ينصبّ على الانخراط في الترشح للانتخابات النيابية وخرق لوائح السلطة، بهدف وقف الفساد وبناء دولة مدنية. وهي الغايات التي خاض من أجلها المستقلون الانتخابات النيابية عام 2018 وخرجوا بفوز رمزي، لا يحقق أي تغيير فعلي. كتب المؤلف يومها: «إنها السنة التي تمظهر فيها الانحطاط المتراكم عبر السنين؛ الانحطاط الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والوطني. يعلّمنا التاريخ أن سنوات الانحطاط طويلة، وأنها تسير من سيئ إلى أسوأ». وهو ما حصل بالفعل. مع بداية عام 2019 شهدت البلاد تحركات شعبية جديدة، وتوسعت المطالب، وتعددت المجموعات، وشارك الاتحاد العمالي العام بزخم، وبدأت بوادر الانهيار الاقتصادي تصبح أكثر وضوحاً.
في 17 أكتوبر من العام نفسه، انطلقت شرارة الانتفاضة رفضاً للضريبة على «الواتساب» مستهدفة في البدء وزير الاتصالات، إلا أنها تحوّلت بسرعة فائقة إلى معارضة للسلطة السياسيّة بأكملها تحت شعار «كلن يعني كلن». ثم أصبح المطلب الأبرز هو تشكيل حكومة انتقالية من شخصيات مستقلة، وهو ما لا يزال إلى اليوم المطلب الذي يصعب تحقيقه، بسبب التركيبة النيابية التي لا تسمح بذلك.
يرى الكاتب أن إسقاط الجميع كما كان ينادي شعار «كلن يعني كلن» يؤدي إلى خراب. أما تعثر المنتفضين فيعود برأيه، إلى 4 حساسيات على الأقل.
أولاً، عدم الثقة بين الجمعيات التي قادت حراك 2015 وفشلها في التنسيق فيما بينها في حينه. ثانياً، عدم الثقة بين الجيل الشاب الذي يشكل غالبية المنتفضين غير المنظمين، وهذه الجمعيات. ثالثاً، صعوبة تنظيم الكتلة الشبابية الوازنة في إطار يسمح لها بفرض شيء من مطالبها. وأخيراً التنوّع المناطقي والفكري والسياسي داخل الانتفاضة. لذلك فإن المخرج كما يطرحه هو التنسيق المرن الذي يسمح للمجموعات بأن تحتفظ بخصوصيتها، مع الوصول إلى حد أدنى من التوافق. ويقترح الكاتب لهذا الغرض 3 أنواع من التشكيلات؛ تشكيلات مهنيّة، وأخرى مناطقيّة وتشكيلات مركزيّة تنسّق بين الجميع.
من نقاط ضعف الانتفاضة أيضاً، تشتت المطالب وتنوعها. والنصيحة التي يسديها صليبي للمنتفضين هي قصر الأهداف بالشقين الاقتصادي والاجتماعي، وتأجيل المطالب السياسية لأنها خلافية. ويضيف: «عندما ننتصر في هذه المعركة، ونكون قد تنظمنا أكثر، سنكون مستعدين لخوض نضالات ذات انعكاسات سياسية. وإلا تعرّضنا لما تعرّضت له الحراكات السابقة التي شاءت التسرع ورفع السقف السياسي، ما أضاع المطالب الاجتماعية والبيئية».
وتنوعت مطالب المنتفضين بين من يريد نزع سلاح «حزب الله»، وغيرهم يرى أولويته في الضغط على المصارف وعلى مصرف لبنان، بعد حجز أموال المودعين، وبعضها الآخر يستكمل رفع شعار «كلن يعني كلن» من دون ضغط فعلي وموجّه.
في الصفحات الأخيرة يوجه الكاتب كلمة إلى المواطن يقول له فيها: «صفتك الأساسية، في هذه اللحظة التاريخية وامتداداتها عبر الزمن المقبل، هي أنك رهينة على هذه الأرض التي اسمها لبنان. اعرَفْ أنك رهينة، واعترفْ بذلك، أمام نفسك وأمام الآخر. الرهينة هو إنسان مخطوف ومعتقل في انتظار تلقي الخاطف فدية من أجل إطلاق سراحه». لكن صليبي لا يخبرنا بنوعية ولا مقدار الفدية التي يتوجب على المواطن أن يتكبدها. فـ«الانتفاضة»، أو «الثورة» كما يحب أن يطلق عليها المتحمسون لها مسار مفتوح، وطريقها كالسير على درب الجلجلة، وهي رغم كل المشاق التي رافقتها، لا تزال على أعتاب عامها الثاني.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.