يشهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ديناميته على الصعيد الخارجي، وقد ثبت ذلك منذ وصوله إلى قصر الإليزيه في ربيع عام 2017. فمن الحرب في سوريا وعلى الإرهاب، إلى أزمة النووي الإيراني والتوتر في الخليج، وصولاً إلى مغامرات تركيا في ليبيا ومياه المتوسط وناغورنو قره باغ والعلاقات المعقدة مع الرئيسين الأميركي والروسي، فضلاً عن «بريكست» والعلاقة المعقدة مع ألمانيا ومستقبل الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، وملفات أخرى كثيرة غاص عليها ماكرون، وكانت له فيها كلمته وسياسته فأصاب أحياناً وأخطأ أحياناً أخرى.
ومنذ قيام الجمهورية الخامسة على يدي الجنرال شارل ديغول في 4 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1958، يمسك رئيس الجمهورية بسياسة بلاده الخارجية والدفاعية، ما يحيل وزيري الخارجية والدفاع إلى «مساعدين» للرئيس، وما يجعل اتخاذ القرارات بشأن الملفات الرئيسية والحساسة بيد رئيس الجمهورية الذي هو القائد الأعلى للقوات الفرنسية المسلحة والمؤتمن على «الحقيبة النووية». من هنا، أهمية «الخلية الدبلوماسية» التي تساعد الرئيس في اتخاذ قراراته ومبادراته في السياسة الخارجية. وعندما تكون شخصية الرئيس كتلك التي يتمتع بها ماكرون المعروف بالتدخل في الشؤون الكبيرة والصغيرة، فإن دور وزير الخارجية يضمر، بحيث يتحول الوزير المسؤول إلى «منفذ» للسياسات التي يقرها الرئيس، وبالمقابل فإن دور «الخلية الدبلوماسية» في القصر الرئاسي يتعاظم كما تتكاثر الملفات التي يتعين عليها التعامل معها.
وفي الوقت الحاضر يرأس الخلية المذكورة السفير إيمانويل بون الذي كان سفيراً لفرنسا لدى لبنان، قبل أن يستدعى ليكون مدير مكتب وزير الخارجية جان إيف لو دريان، وبعدها إلى الإليزيه ليحل محل السفير برونو إتيان الذي عين سفيراً لبلاده في واشنطن العام الماضي. واللقب الرسمي لإيمانويل بون هو: مستشار الرئيس للشؤون الدبلوماسية ولشؤون قمة مجموعة السبع ومجموعة العشرين. وبرز دوره إعلامياً في مناسبتين: الأولى العام الماضي عندما زار مرتين طهران بناء على طلب ماكرون لجس نبض السلطات الإيرانية بشأن مبادرة رئيسه لإيجاد مخرج من الطريق المسدودة التي ولجها الملف النووي الإيراني، والتقريب بين واشنطن وطهران. والثانية بمناسبة الأزمة اللبنانية وزيارتي ماكرون إلى بيروت عقب تفجيري المرفأ وطرح المبادرة الفرنسية.
أما مساعدة إيمانويل بون فهي أليس روفو، ابنة العالم النفساني المعروف مارسيل روفو التي عملت سابقاً في قصر الإليزيه زمن الرئيس فرنسوا هولاند. وفي شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عين باتريك دوريل الذي يعرف العالم العربي لكونه عمل في العديد من عواصمه وآخر منصب له كان في الرياض مساعداً للسفير السابق فرنسوا غوييت الذي نقل مؤخراً إلى الجزائر.
في الأيام الأخيرة، ضجت الصحافة الفرنسية بأخبار «الخلية الدبلوماسية».
ونقطة الانطلاق كانت التحقيق الذي نشرته المجلة النسائية «أيل» في عددها الصادر يوم 9 الجاري، وفيه تلقي الأضواء على «الصعوبات» التي يعاني منها الموظفون (وهم عادة من الدبلوماسيين) العاملون في إطارها وعلى نوعية العلاقات المعقدة القائمة بين الإدارة والقاعدة. وكشفت المجلة المذكورة أن الرئاسة طلبت، في شهر أغسطس (آب) الماضي، من مكتب خارجي مستقل القيام بتحقيق داخلي بالصعوبات المزعومة التي تعاني منها الخلية، وأن هذا المكتب قدم تقريراً «مرحلياً» لم يكشف عن مضمونه ولم يعرف ما الإجراءات التي تنوي الرئاسة اتخاذها. تقع مكاتب «الخلية الدبلوماسية» وتسمى أيضاً «القطب الدبلوماسي» في مبنى مستقل عن القصر الرئاسي لا يفصلهما سوى شارع ضيق اسمه «شارع الإليزيه» المغلق بوجه السير بصفة دائمة. ووفق الشهادات والأخبار التي جمعتها الصحافة الفرنسية في الأيام الأخيرة، فإن كمية العمل الضخمة الملقاة على عاتق الخلية بسبب أنشطة ماكرون في السياسة الخارجية هي السبب وراء تغيب متكرر لموظفين لا يترددون في الحديث عن معاملة «قاسية» وطريقة تخاطب غير لائقة يتعرضون لها من قبل رؤسائهم، إلى درجة أن بعضهم يعاني من «الإرهاق الحاد». ومن الأمثلة على ذلك تلقي رسائل نصية أو رسائل بالبريد الإلكتروني في ساعات متأخرة من الليل ووصول أوامر متناقضة واتهامات بعدم الولاء والتسلط في التعاطي والعجز عن إنجاز المطلوب ورفع الصوت والتأنيب. وتفيد المعلومات المتوافرة باستقالات عديدة من الخلية تمت الأشهر الأخيرة وبصعوبات في العثور على «بدائل» للحلول محل الموظفين الذين فضلوا التخلي عن مواقعهم أو انتقلوا إلى مراكز أخرى رغم «الجاذبية» التي يتسم بها العمل في القصر الرئاسي.
وبحسب المجلة المذكورة، فإن 20 دبلوماسياً تناوبوا حتى اليوم في العمل لصالح الخلية تحت رئاسة ماكرون التي تنتهي في ربيع عام 2022 مقابل 12 في عهد الرئيس السابق و15 أيام الرئيس نيكولا ساركوزي، حتى إن بعض الموظفين لم يقدر على الصمود أكثر من شهر واحد. وتؤكد «أيل» أن آخر اللقاءات التي أجراها المكتب المولج التحقيق حصلت أوائل الشهر الجاري، وشملت موظفين سابقين وحاليين. حتى اليوم، لم يتسرب أي تعليق عن المسؤولين المعنيين ولا عن قصر الإليزيه. ومن المتعارف عليه أن العمل الدبلوماسي وكتابة التقارير يتطلبان الهدوء والثقة، خصوصاً إذا كان ذلك موظفاً لخدمة رئيس الجمهورية، أي أعلى سلطة في البلاد، ويحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى خليته الدبلوماسية للاستمرار في النهج الديناميكي الذي ألزم نفسه به منذ أن انتخب رئيساً، أي أن تكون له كلمته في كل الشؤون الخارجية التي تهم بلاده.
أزمة تهز «الخلية الدبلوماسية» العاملة في قصر الإليزيه
أزمة تهز «الخلية الدبلوماسية» العاملة في قصر الإليزيه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة