وقفت أنجانا ديفي، السيدة التي تجاوز عمرها 80 عاماً ولا يكاد طولها يتجاوز خمسة أقدام ويتسم ظهرها بالانحناء، توجه الإرشادات إلى رجلين أثناء تفريغهما صناديق محملة بالفاكهة كانت على متن سيارة نقل صغيرة. ومن حولها، كانت هناك مئات النساء - تتجاوز أعمار غالبيتهن الـ60 - يفعلن مثلما تفعل. وفي الأجواء، انتشرت روائح البخور، والأسماك، وبراعم الياسمين، والبهارات النفاذة.
كان أصحاب المتاجر في مختلف الأرجاء من النساء. وبصورة إجمالية، يبلغ عدد النساء قرابة 5000 سيدة يعملن داخل هذه السوق في ولاية مانيبور الهندية ويشكلن معاً واحدة من أكبر الأسواق التي تسيطر عليها النساء على نحو كامل على مستوى آسيا بأكملها.
تقع مانيبور في الطرف الشمالي الشرقي من الهند، وكانت في وقت مضى دولة ذات سيادة تحمل اسم مملكة مانيبور. وكان يسكن في الوادي الممتد عبر الولاية مجموعة متنوعة من الجماعات العرقية. وفي الوقت الذي شكل النظام الأبوي أساس التقاليد والأعراف والهياكل الاجتماعية، لم تظل المرأة حبيسة الأدوار التقليدية.
وغالباً ما تورطت المملكة في حروب مع جيرانها العدائيين، وفي خضم ذلك جرت الاستعانة بأعداد كبيرة من الرجال الأصحاء الأقوياء للذود عن المملكة. وفي غيابهم، تولت النساء رعاية الأسر والشؤون التجارية. وقرابة عام 1580، أسس الملك مركزاً تجارياً للنساء حصراً حمل اسم «نوبي كيتهل»، وتعني «سوق النساء»، وذلك في مدينة إمفال، عاصمة مانيبور في الوقت الحاضر.
في ظل الرعاية الملكية، تزايدت أعداد التجار وازدهرت السوق. وتحولت السوق بمرور الوقت إلى قناة للخطاب الاجتماعي والسياسي. وشرعت النساء، اللاتي تنامى شعورهن بالجرأة بفضل دورهن الجديد كقوة محركة للاقتصاد، في التأكيد على أنفسهن عبر صور جديدة.
من بين الأمثلة على ذلك، عندما اعترضت التاجرات العاملات في «نوبي كيتهل» عام 1904 على استخدام الإدارة الاستعمارية العمل القسري. وانضمت نساء أخريات من مانيبور إلى الحركة وأعربن عن ثورة غضب سياسي عارمة عبر الكثير من المظاهرات. وفي نهاية الأمر، اضطرت الإدارة إلى إلغاء الكثير من سياسات العمل القسري.
كانت هذه أول «نوبي لان»، «حرب النساء»، وشكلت حدثاً تاريخياً محورياً في مسيرة الصحوة السياسية لشعب مانيبور بقيادة التاجرات العاملات في «نوبي كيتهل». عام 1939، تولت السوق قيادة «نوبي لان» جديدة في مواجهة ملك مانيبور. وفي أعقاب الحركتين، خرجت السوق باعتبارها الصوت الأول للمقاومة في مواجهة القمع والظلم - وأصبحت السيدات حارسات على مجتمع مانيبوري أكثر مساواة وعدالة.
ونظراً لأنني ولدت ونشأت في الهند، فقد تعلمت منذ سن مبكرة أن القيم الذكورية والكارهة للنساء المتجذرة بعمق يمكن أن تعمل على إسكات أصوات النساء.
وحاولت استيعاب كيف تسعى النساء اللائي يعشن في أقاصي هذه البلاد، دون أدوات قوة تذكر، للتأكيد على أنفسهن في ظل ثقافة تعمل على قمعهن وإخضاعهن.
داخل «نوبي كيتهل»، تحاول الكثير من التاجرات جذب الأنظار إليهن من خلال رفع أصواتهن ودعوة المتسوقين للنظر إلى بضاعتهن. وفي يوم صيف حار في مارس (آذار)، كنت أنا عميلتهن الوحيدة. ونادين عليّ بكلمة «بيتي»، وتعني ابنة.
تنتشر البائعات هنا عبر ثلاث بنايات وسوق مفتوحة هائلة الاتساع. وتفصل بين المتاجر مجموعة متنوعة من السلع. ولا يجري عرض سوى قدر ضئيل من البضاعة، بينما يبقى الجزء الأكبر داخل شراشف بينما تجلس البائعة القرفصاء داخل متجرها. وعبر أكوام السلع، وقعت عيني على لافتات تحمل شعارات من عينة «لن نبقى صامتين» و«نطالب بالعدالة».
عن ذلك، قالت لايشرام ميما ديفي، التي تبيع قطع حلي مصنوعة يدوياً داخل السوق منذ ما يزيد على ثلاثة عقود «لا نستخدم لغة الصمت هنا».
من ناحيتها، تجني إيما ميما نحو 12000 روبية هندية كل شهر، أو ما يعادل 160 دولاراً («إيما» تعني أُماً، وهو لقب يستخدمه أبناء مانيبور في مخاطبة النساء الأكبر سناً. في الواقع، تضم السوق أعداداً كبيرة من النساء كبيرات السن لدرجة أن السكان المحليين يطلقون على السوق «إيما كيتهل» أو «سوق الأم».)
وأخبرتني إيما ميما أن ذلك المبلغ «ربما يبدو ضئيلاً، لكنه ساعدني في تربية ثلاث بنات».
وأثناء تجولي عبر أرجاء السوق، التقيت مريضات بمرض نقص المناعة وعدداً آخر من المنبوذين اجتماعياً الذين وجدوا في هذه السوق ملاذاً لهم. وبمعاونة المجتمع المحيط، تمكنوا من بناء نشاط تجاري مستقل خاص بهم.
عبر أرجاء أزقة السوق الملتوية، تزدهر روح الأخوة والقوة الجمعية، لكن إرث «نوبي كيتهل» امتدت منذ أمد بعيد لما وراء أعتابها. ويحمل تاريخ مانيبور البصمة المميزة لـ«نوبي كيتهل» - وكذلك مستقبلها.
* خدمة «نيويورك تايمز»