رواية «الذئاب على الأبواب» 2019. للروائي أحمد خلف هي رواية بطل إشكالي مركزي هو يوسف النجار، الذي يجد نفسه مطارداً من جهات مجهولة، ولأسباب غامضة، تماماً مثل أبطال فرانز كانكا. إذْ قام المطاردون بنسف بيته، والتسبب في قتل زوجته سعاد، وابنته ذات الأربعة عشر عاماً، وظلوا يمطرونه برسائل تهديد متنوعة، محيلين حياته إلى جحيم لا يطاق، مما دفعه للارتياب بكل إنسان، وكل حركة، حتى بات من الصعب عليه الفرز بين الوهم والحقيقة، وكأنه أصيب بلون من «البارانويا».
وتتمثل إشكالية البطل، بشكل عام، عند أحمد خلف في عجز البطل عن التلاؤم مع عالمه الخارجي، ومحيطه الاجتماعي، ربما لاعتقاده أنه يعيش في ديسيتوبيا سوداء، تنعدم فيها الحرية والكرامة والبراءة. لذا نراه يمتلك حساسية مرهفة عالية، تجعله، في الغالب، يعجز عن مواجهة قوى القهر والعنف والاستبداد التي تواجهه، لذا يعاني من السقوط فيما أسماه جورج لوكاش بالوعي الشقي، حيث ينكفئ البطل على ذاته، بعد أن يدرك أن قيمه النبيلة والبريئة التي يؤمن بها تصطدم بمصدات ومعوقات وإكراهات، أكبر من قدرته على الاحتمال على المقاومة، لذا فهو غالباً ما يتعرض للانكسار.
لكن الروائي في هذه الرواية بالذات يتجاوز حالة الانكسار بموقف إيجابي فاعل، خلافاً لما وجدناه مثلاً في روايته السابقة «تسارع الخطى» 2014 التي كان فيها البطل يظل يواجه حالة من الانكسار والاستسلام والرعب حتى النهاية، دون أن يتخذ قراراً حاسما بالتحول إلى المواجهة الجريئة لهذه القوى المجهولة والقوية والمدعومة، التي ظلت تطارده وتفرض إملاءاتها، غير الأخلاقية، عليه. أما في رواية «الذئاب على الأبواب» فنجد البطل الإشكالي يوسف النجار، يقرر في النهاية الخروج من حالة العجز والانكسار، ومواجهة مطارديه، عندما يحمل سلاحه، ويفتح الباب، متجهاً لمواجهة أعدائه. وبذا فالبطل بخروجه من «قوقعته» الذاتية والنفسية والمكانية، المنكسرة والسلبية، بتعبير باشلار، المتمثلة بشقته المعتمة ونافذتها الصغيرة المطلة علي العالم الخارجي، إنما يهدم سجن الداخل الذي ظل منكفئاً داخل عتمته لينفتح على الخارج بما فيه من ضوء وحياة وإرادة فاعلة. وبهذه النقلة النوعية في مسار الحدث الروائي يكتسب البطل ملمحاً إيجابياً يزاوج فيه بين موقف البطل الكافكوي الذي لا يخلو من نزعة وجودية وامتثالية، وبين شخصية البطل الإيجابي، وهي نقلة تحسب لصالح الرواية والروائي معاً.
رواية «الذئاب على الأبواب» رواية دائرية بامتياز، ذلك إنها تبدأ حركتها السردية الأولى بمشهد النافذة التي يطل منها بطل الرواية يوسف النجار على العالم الخارجي، وتنتهي أيضا في حركتها السردية الأخيرة بمشهد النافذة ذاته، ولكن في سياق جديد، إذ لم تعد النافذة مجرد «مرقاب» متوجس وسلبي، يتأمل البطل من خلاله الأشياء والعوالم والناس، بل أصبحت فعلاً إيجابياً رافضاً، لحالة السلبية والسكونية والانكسار، وهو ما يجعل الرواية قابلة للانفتاح على تأويلات لا نهائية.
وتمثل النافذة بالنسبة، لأحمد خلف، وربما لعدد كبير من الروائيين والقصاصين مظهراً من مظاهر ثنائية الداخل/ الخارج، حيث تمثل شقة البطل المعتمة وقوقعته، الذات المغلقة علي نفسها (الداخل) المغلق والمعتم عادة، بينما يمثل الشارع والساحة وحياة الناس الموارة بالحركة (الخارج)، المضيء والمفتوح في الغالب:
«أمام نافذة في غرفة تطل على ساحة شارع فرعي مهمل وقف رجل ذو بنية رياضية متماسكة، وللمرة الألف ينظر عبر النافذة تلك، وأمام ناظريه كان جدار مبنى المدرسة الإعدادية المختلطة» (ص٧). ومثلما يبتدئ الروائي استهلاله هذا بالنافذة يختتم روايته الكبيرة هذه بمشهد النافذة أيضاً، في تأكيد على الطبيعة الدائرية للرواية، حيث يتخذ البطل قراره الجريء بمواجهة مطارديه:
« اندفع نحو غرفة النوم حيث وضع المسدس أسفل الوسادة، تناوله ودسه في ثيابه. عاد إلى النافذة ليرى بوضوح، لئلا يكون الأمر برمته خداع بصر. نظر جيداً ورأى أحد الرجلين ينحرف نحو الجدران العالية للمدرسة المواجهة للعمارة التي فيها شقته» (ص٣٢٥). وبين هذين الموقفين، تمر سلسلة من الحوادث والوقائع المعقدة التي يمر بها البطل في حياته، وهو يقلب صور الحياة الاجتماعية والسياسية التي مرت به، وبشكل خاص حياته العسكرية والحروب التي فرض عليه خوضها آنذاك.
وسلطت الرواية الضوء أيضاً على اشتداد الصراع السياسي والطائفي بعد الاحتلال وسقوط الديكتاتورية، مع تركيز خاص على أزمته الشخصية داخل ذلك الأتون الخانق: «إلى أين يمضي رجل مثلي من مطاردة المافيات التي انتشرت بعد احتلال بغداد، بصورة أفزعت الناس؟ ميلشيات ومافيات وعصابات ومجانين وقتلة مدربون من زمن عاد وثمود» (ص٣٠١).
لكن النافذة تظل هي البنية المكانية المركزية المولدة للحدث الروائي، في هذه الرواية، فهي الشاهد والعين الباصرة على كل ما يجري.
ويذكرنا توظيف النافذة في السرد القصصي والروائي بتجارب عالمية وعربية. ففي قصة «إيفيلين» للروائي جيمس جويس من مجموعته القصصية «أهل دبلن» Dubliners نجد البطلة تطل من خلال نافذة غرفتها على الخارج، وهي تخوض صراعاً داخلياً بين أن تهرب مع حبيبها الذي كان ينتظرها في الخارج، عند المرسى القريب، وبين أن تبقى، وفاءً لالتزاماتها الأسرية، في تناوب بين سرد الداخل وسرد الخارج، حيث تحسم قرارها النهائي بالبقاء في البيت رافضة نداء الخارج بكل ما فيه من ألق وانفتاح وحياة واعدة.
وفي القصة العراقية، كان القاص الراحل محمود عبد الوهاب رائداً في توظيف النافذة ضمن ثنائية الداخل والخارج في قصته «الشباك، والساحة» المكتوبة عام 1969، حيث يستهل القاص سرده بوصف شيء تفصيلي لمشهد الشباك الذي يطل على الخارج، وتحديداً على ساحة المدرسة الابتدائية. ونجد نماذج عديدة لمشهد النافذة في قصص محمد خضير ولؤي حمزة عباس، وغيرهما.
تتمثل البنية السردية الأساسية للرواية في هيمنة سرد ضمير المتكلم الأتوبيوغرافي (أنا)، الذي يكشف عن دخائل بطل الرواية وراويها المركزي يوسف النجار، أو يوسف الحزين كما كان يسميه أحد أصدقائه. ولكن هذا السرد المبأر يتعرض للانكسار والخرق من خلال ساردين داخليين وخارجيين في آن واحد، مما يمهد الطريق أمام تعدد الضمائر والرواة في الرواية.
كما يمهد هذا الخرق في البنى السردية لتعميق المنحى الميتاسردي في الرواية، وبشكل خاص في قصدية الكتابة الروائية، والمفاضلة بين الرواة والضمائر، والتناص مع عدد من الأعمال الأدبية العالمية مثل مسرحية «سجناء التونا» للمفكر الفرنسي جان بول سارتر، ورواية «مزيفو النقد» للروائي الفرنسي أندريه جيد، والروائي الإيطالي دينو بوزاتي في روايته «صحراء التتار «، فضلاً عن تناصات رؤيوية عديدة مع روايات فرانز كافكا. من الجانب الآخر نجد تناصات متكررة مع عوالم وشخصيات روايته السابقة «تسارع الخطى» التي تتمحور أيضاً حول فكرة المطاردة، كما أشرنا سابقاً.
ومن هنا تشكلت نواة رواية «الذئاب على الأبواب» في تعالق دلالي وسيميائي مع بنية العنوان بوصفه عتبة نصية دالة، كما يذهب إلى ذلك الناقد جيرار جينيت. فالذئاب هنا كناية رمزية عن المطاردين والقتلة من عصابات المافيا السياسية، الذين فجروا بيته وتسببوا في قتل زوجته وابنته، وما زالوا يلاحقونه ويطاردونه لدونما سبب محدد.
وكما رأينا تمثل النافذة الحد الفاصل بين (داخل) معتم ومغلق ومحدود، و(خارج) مفتوح ومضيء ولا نهائي، كما أنها تحولت إلى بنية إطارية Frame Structure للرواية، لأنها هي التي تتحكم في ضبط علاقة الداخل بالخارج، وفي تحديد مسارات السرد اللاحقة، والتي تنفتح أحيانا على الماضي، لتستحضر عالمين عاشهما البطل: العالم الذي هيمن فيه نظام صدام حسين في الثمانينات والتسعينات، وظروف الحروب الدموية التي وجد البطل نفسه طرفاً فيها لدونما سبب واضح، أما العالم الثاني فهو عالم ما بعد الاحتلال، وسقوط الديكتاتورية، وبشكل خاص من خلال تردي الواقع السياسي، والذي تسبب في تفجير بيت البطل ومقتل زوجته وابنته. والرواية، في تماسها مع الواقع العراقي كانت تحرص كل الحرص على التعبير عن رؤيا وطنية ناقدة ومسؤولة، فهي تدين كل مظاهر العنف والاستبداد في ظل نظام صدام حسين، كما تدين كافة مظاهر العنف والتطرف الطائفي والانفلات الأمني التي سادت المشهد العراقي لسنوات طويلة، وتقف إلى جانب الإنسان وهو يتطلع إلى حياة آمنة ونظيفة، كما أنها تسجل موقفاً جديداً في رؤيا المؤلف، يتمثل في الانتقال من موقف الوصف السلبي لتحديات العنف، كما كان الأمر في رواية «تسارع الخطى»، إلى موقف الفعل والمقاومة لمراكز العنف والتهديد من خلال انتقال البطل إلى المواجهة عندما حمل سلاحه وخرج لمواجهة مطارديه.
رواية أحمد خلف «الذئاب على الأبواب» شهادة شجاعة وفنية عن مرحلة مهمة عاشها الفرد العراقي في ظروف مأساوية وصعبة، وهي تقف في مقدمة روايات التي كتبها الروائيون العراقيون الحداثيون خلال العقدين الأخيرين.
«الذئاب على الأبواب»... من الوصف السلبي إلى فعل المواجهة
سلطت الضوء على الصراع السياسي والطائفي في العراق بعد سقوط الديكتاتورية
«الذئاب على الأبواب»... من الوصف السلبي إلى فعل المواجهة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة