مباحثات تركية ـ يونانية وسط إعلانات متبادلة لمناورات عسكرية

افتتاح ساحل فاروشا المهجور منذ 46 عاماً يغضب أوروبا

وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو (يمين) مع نظيره اليوناني نيكوس دندياس (إ.ب.أ)
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو (يمين) مع نظيره اليوناني نيكوس دندياس (إ.ب.أ)
TT

مباحثات تركية ـ يونانية وسط إعلانات متبادلة لمناورات عسكرية

وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو (يمين) مع نظيره اليوناني نيكوس دندياس (إ.ب.أ)
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو (يمين) مع نظيره اليوناني نيكوس دندياس (إ.ب.أ)

أعلنت تركيا أنها ستستضيف جولة المحادثات الاستكشافية القادمة مع اليونان، في خطوة لخفض التوتر بين البلدين، شرق المتوسط، والتي تأتي بعد أول لقاء لوزيري خارجيتهما أمس (الخميس). وفي الوقت ذاته، تبادل البلدان إصدار إخطارات بحرية «نافتكس» لإجراء تدريبات بالذخيرة أواخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، وسط تحذيرات أوروبية لأنقرة من التصعيد، والخطوات أحادية الجانب التي تستهدف اليونان وقبرص. وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في مؤتمر صحافي، عقب لقائه نظيره اليوناني نيكوس دندياس في العاصمة السلوفاكية، أمس، على هامش أعمال «منتدى براتيسلافا للأمن العالمي»، إن بلاده ستستضيف الجولة القادمة للمحادثات الاستكشافية مع اليونان، التي توقفت عند الجولة 60 في أثينا عام 2016.
وبحث جاويش أوغلو، ونظيره اليوناني، في أول لقاء يعقد بينهما منذ اندلاع التوتر بين البلدين، حقوق التنقيب عن الطاقة والحدود البحرية في شرق المتوسط. وخلال ندوة حول التوتر في شرق المتوسط، قال جاويش أوغلو إن القبارصة الأتراك يسعون إلى تقاسم عادل للموارد في شرق البحر المتوسط، وقدمنا مقترحات في 2011 و2012 و2019. رفضت جميعها، «ونحث الجميع على قبول المشاركة العادلة وترسيم الحدود».
وأضاف الوزير التركي أن لدى اليونان «مطالبات متطرفة»، مستشهداً بما يسمى «خريطة إشبيلية»، التي بموجبها يُنظر إلى الجزر اليونانية الصغيرة بالقرب من سواحل تركيا على أنها تحتوي على جروف قارية ضخمة ممتدة، يفترض أنها تحل محل الجرف القاري لتركيا، مشيراً إلى أن اليونان وقبرص استخدمتا الخريطة كأداة لعزل تركيا من خلال عدم منحها أي أرض بحرية خارج خليج أنطاليا. وشدد جاويش أوغلو على أن تركيا ستواصل العمل على حماية حقوقها وحقوق القبارصة الأتراك في شرق المتوسط، لافتاً إلى أنها أعطت فرصة أخرى للدبلوماسية والحوار مع اليونان، لكن «انتهاك الجرف القاري لتركيا لا يظهر حسن النية». ورحّب الاتحاد الأوروبي واليونان بالمقاربة التركية لتخفيف حدة التوتر، عبر سحب سفن التنقيب من المنطقة. وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) ينس ستولتنبرغ إن الحلف نجح في منع وقوع حوادث بين عضوي الحلف (اليونان وتركيا) في شرق المتوسط. وقال، خلال مشاركته عبر الفيديوكونفرانس، في منتدى براتيسلافا للأمن العالمي، تعليقاً على زيارته لكل من أنقرة وأثينا يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، إن ثمة خلافات حقيقية في الآراء بين الطرفين في بعض القضايا، معرباً عن ثقته بأن حل هذه الخلافات ممكن عبر الحوار. ولفت ستولتنبرغ إلى أن التوتر بين تركيا واليونان بدأ بالانخفاض الأسبوع الماضي، قائلاً: «نجحنا في جمع تركيا واليونان تحت مظلة الناتو، وتمكنا من تنفيذ آلية الخط الساخن، التي سميناها (آلية أساليب فض النزاع) الرامية لتقليل مخاطر وقوع حوادث بين الطرفين».
وأشار إلى أن اللجنة العسكرية للناتو على تواصل مع الطرفين للحيلولة دون وقوع حادث غير مرغوب فيه بين الحلفاء في البحر المتوسط، وأن «هذا الوضع مثال جيد على كيفية عمل حلفاء الناتو بشكل مشترك لتقليل التوتر والنزاع الناجم عن الخلافات فيما بينهم».
في غضون ذلك، أصدرت البحرية التركية أمس إخطاراً (نافتكس) جديداً، يقضي بإجراء تدريبات بالذخيرة في 28 أكتوبر الحالي، بعد أن أطلقت اليونان إخطاراً مماثلاً لتنفيذ تدريبات مماثلة في 29 أكتوبر. كما أصدرت تركيا «نافتكس» بحرياً آخر، لإجراء تدريبات عسكرية جديدة مسلحة بالذخيرة الحية في بحر إيجة، يومي الثلاثاء والأربعاء المقبلين.
وطالبت المفوضية الأوروبية تركيا بخفض التوتر في منطقة شرق المتوسط، والدخول في حوار بناء مع اليونان وقبرص. كما حذّرت من تبعات إعادة تركيا وإدارة «شمال قبرص التركية» فتح ساحل مدينة فاروشا المهجورة منذ العام 1974.
وظلت فاروشا مدينة «أشباح» نظراً لخلوها من أي مظاهر للحياة على مدى أكثر من 46 عاماً منذ الغزو التركي لشمال قبرص، لكن التحول الجديد حدث بعد زيارة إلى تركيا، أعلن خلالها إرسين تتار رئيس وزراء القبارصة الأتراك، إعادة فتح ساحل المدينة أمام الزوار. وجرى افتتاح جزء من الساحل أمس.
ومن شأن تلك الخطوة إثارة غضب مواطني قبرص، الذين عاش الآلاف منهم ذات يوم في فاروشا، قبل فرارهم من الغزو التركي، موضحة أن تلك الخطوة ستؤجج التوترات بين الجانبين.
وجاءت هذه الخطوة قبل انتخابات مرتقبة يترشح لها تتار الذي يحظى بتأييد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
ويحتفظ الجيش التركي بقوة كبيرة في شمال قبرص؛ حيث تدعم السلطات الشمالية التدخل التركي، إلا أنها تعتبر قوة احتلال من قبل جمهورية قبرص والاتحاد الأوروبي كله والمجتمع الدولي.
وأدانت قبرص الخطوة واعتبرتها عملاً استفزازياً وغير قانوني تقوم به تركيا. وشددت على أن أي خطوة في هذا الشأن ستتم إدانتها من قبل مجلس الأمن والاتحاد الأوروبي. وحذر الرئيس القبرصي، نيكوس أناستاسيادس، أمس، تركيا من اتخاذ خطوات أحادية الجانب في الأزمة القبرصية. وأبلغت قبرص أعضاء مجلس الأمن بقرار تركيا فتح ساحل فاروشا، مؤكدة أنه يشكل انتهاكاً لقرارات المجلس. وقال المتحدث باسم الحكومة اليونانية إن بلاده تدعو تركيا إلى التراجع عن إعادة فتح الساحل، لكن الخطوة نفذت بالفعل أمس، وتم افتتاح جزء من ساحل فاروشا.
وفي السابق، كانت فاروشا مدينة سياحية مزدهرة بفنادقها ومياهها الصافية وأمسياتها الصاخبة، لكن سكانها أُجبروا على الفرار إلى الجزء اليوناني في جنوب الجزيرة، في ظل جمهورية قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟