«أصوات مراكش» للألماني إلياس كانيتي... رحلة سردية مفعمة بالمحبة

صدر بالعربية بعد ترجمته إلى أكثر من 17 لغة بمختلف القارات

«أصوات مراكش» للألماني إلياس كانيتي... رحلة سردية مفعمة بالمحبة
TT

«أصوات مراكش» للألماني إلياس كانيتي... رحلة سردية مفعمة بالمحبة

«أصوات مراكش» للألماني إلياس كانيتي... رحلة سردية مفعمة بالمحبة

صدر حديثا عن دار صفصافة بالقاهرة ترجمة عربية لكتاب «أصوات مراكش» تأليف الكاتب الإسباني الأصل إلياس كانيتي، الذي ولد في بلغاريا، ودرس العلوم الطبيعية في فيينا، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من هناك. الكتاب ينتمي لأدب الرحلات وترجم إلى أكثر من 17 لغة، وصدر في 70 طبعة بمختلف القارات وجاءت مقالاته ونصوصه السردية ثمرة لرحلة إلى المغرب، قام بها كانيتي بصحبة فريق سينمائي إنجليزي عام 1954. وقد انتهزها للتجول في أسواق وأحياء مراكش القديمة، وتابع ما يدور فيها من تفاصيل بعينٍ محبة، لم تترك شاردة إلا وسعت لاستكناه أسرارها، وقد وصف الكثير مما شاهد وعذب روحه، وأبهجها في آن واحد.
ففي مقالة عنوانها «لقاءات مع الإبل» وهي واحدة من أربعة عشر مقالا تضمنها الكتاب، الذي ترجمه عن الألمانية الدكتور صلاح هلال أستاذ الأدب الألماني الحديث بجامعة عين شمس، يتحدث كانيتي عن رحلة الجمال مع أصحابها، يستبطن مشاعرها، وهي تقطع مئات الأميال من سوق لأخرى، تمهيدا لبيعها، وهي تعرف أنها مساقة للذبح، كما راح يصف مشاهد العنف التي تتعرض لها، وهو يتابع مشاهدتها في سوق العاصمة، ويرصد تعبيرات وجوه الجزارين القاسية وقوة بأسهم، وهم يسيطرون بحرفية وقوة على الجمال الغاضبة.
وفي نص «الأسواق» يستغرق كانيتي في وصف حياة الشحاذين، والمكفوفين، ويرصد المتناقضات، في مجتمع العاصمة الذي يخفي الكثير ويحجب عن عيون الأجانب ما يدور داخل بيوته، ودور عبادته، وقد لاحظ كانيتي أن ما يدور من حوله في السوق مناقض تماما لما يجري على الجانب الآخر خلف الجدران، فكل ما يتم أمام عينيه، يأتي عن قصد ورغبة في لفت انتباه المتسوقين، وهدفه ترويج السلع وتصنيع المنتجات أمام أعين المارة، ليزدادوا ثقة ويقبلوا على الشراء.
وخلال جولته تابع كانيتي الرجال وهم يجدلون الحبال، ويصنعون الحقائب، وأغطية الرأس، ويبدعون في صياغة المجوهرات، والصبية وهم يتفننون في صنع الطاولات الصغيرة من قطع الأخشاب بعد تجميعها. يقدم الكاتب، هذه الصور جميعها مغلفة بمحبة، ويضعها في مقابل ما يعيشه هو في مجتمعه الإنجليزي، حيث يصله كل شيء حتى باب منزله جاهزا للاستهلاك، كأنه جاء من رحم آلة سحرية مقيتة، خاليا من أي لمسات إنسانية أو أي فن.
لعل أكثر ما يمكن أن يلفت النظر في المقالات هو تعاطف كانيتي مع ما يراه من أشكال الضعف الإنساني، وهو يتجول في «المدينة الحمراء» حيث يتعاطف مع العميان في قصة «نداء الكفيف»، ويحاول أن يقلدهم عندما تنتهي رحلته ويعود إلى لندن، يجلس بساقين متقاطعتين، وعيون مغمضة، ويردد كلمة «الله» بنفس السرعة التي كانوا يرددونها بها في السوق، وحاول في ركن غرفته أن يتخيلهم وهم ينتظمون في صف واحد، في يد كل واحد منهم وعاء خشبي يتلقى فيه عطايا الناس، ولاحظ أن المشهد يتكرر، فحين يحصل أي منهم على قطعة نقدية يتحسسها، ثم يعطيها لمن يقف إلى جواره، ليفعل ما فعله سابقه، وهكذا تذهب العملة من يد مكفوف إلى آخر حتى تستقر في جيب الشحاذ الأخير الذي يقف هناك في نهاية الصف. هذا التكرار هو ما يرصده الكاتب، يعتبره سمة لحياة المكفوفين، تكرار النداء باسم الله الذي لا يتوقف طوال ساعات الوجود في السوق، وتكرار مشهد انتقال العملة من يد لأخرى، وطريقة لمس النقود للتعرف على قيمتها، وقد نعتهم كانيتي بأنهم قديسو التكرار، وقال عن أحدهم، والذي جعله محورا لقصة «مرابو»، «كان اللطف الذي منحني إياه أكثر مما تلقيته من أي إنسان من قبل».
ولا يتوقف الأمر لدى كانيتي عند حدود تأمل أحوال البشر فقط، لكنه يفعل ذلك مع البيوت أيضا، ففي نص «الصمت في البيت والفراغ فوق الأسطح» يصف جمال التوقف أمام أبواب المنازل، وحيازة مفاتيحها، والعبور إلى داخلها وصعود درجات سلالمها الحجرية، ويحسد أسراب طيور السنونو وهو ترفرف فوق ساحاتها وتنظر إلى النساء دون أن تتعرض للوم أو عتاب من أحد.
اللافت للنظر أن كانيتي لم يكتب عن رحلته إلى المغرب إلا بعد عودته منها بأربعة عشر عاما، فهل كان يحتاج لكل هذا الوقت كي يستوعب ويهضم ما رأى من مشاهدات، ويتخلص من مشاعره الأولية تجاهها؟
يذكر أن إلياس كانيتي حصل على العديد من الجوائز العالمية، كان آخرها نوبل عام 1981 وله عدد من الأعمال الروائية والمسرحية البارزة التي حرص على كتابتها بالألمانية رغم استقراره في لندن، ومنها «شذرات» و«محاكمة كافكا الأخرى» وروايته «الإعدام حرقا» والتي أصدرها عام 1935 وحظيت بشهرة كبيرة في عدة دول، بعد منعها في ألمانيا، وقد هاجم خلالها، وفي إطار من السخرية اللاذعة، الفاشية، وما تقوم به من تصرفات ضد الإنسانية، لكن يظل كتابه «الجمع والسلطان» أهم أعماله، وقد استغرق تأليفه ما يزيد على عشرين عاما.



«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».