«ليس أسود تماماً... لكنّه أسود» معرض في المغرب يجمع الشعر واللوحة

«ليس أسود تماماً... لكنّه أسود» معرض في المغرب يجمع الشعر واللوحة
TT

«ليس أسود تماماً... لكنّه أسود» معرض في المغرب يجمع الشعر واللوحة

«ليس أسود تماماً... لكنّه أسود» معرض في المغرب يجمع الشعر واللوحة

فيما يمثل حفراً في حديقتين متجاورتين، حيث «يحفر شاعر ورسام بنفس المعول بحثاً عن الجمال وعن الصور، وكأنّهما يقفان أمام المرآة، ليرى كل منهما نفسه في الآخر، وليجد كل منهما ضالته في الآخر»، تحتضن قاعة العرض الطيب الصديقي بدار الصويري في مدينة الصويرة، ما بين 6 و17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، معرضاً يجمع بين القصيدة واللوحة، الشعر والتشكيل، تحت عنوان «ليس أسود تماماً... لكنّه أسود»، جاء ثمرة لقاءات وحوارات بين الشاعر مبارك الراجي والفنان التشكيلي سليمان الدريسي.
وبالنسبة للفنان الدريسي، فالجلسات والحوارات الكثيرة التي جمعته بصديقه الشاعر الراجي «ألغت كل ما يمكن أن نسميه تأشيرة دخول من أرض إلى أرض، وبالتالي صار متاحاً وممكناً ومغرياً للشاعر أن يشيد قصائد، انطلاقاً من المادة والشكل واللون، وللرسام أن يستعين في عمله بالغنائم الجمالية الموجودة في جراب الشاعر».
وزاد الدريسي، متحدثاً عن هذه الأعمال الفنية والنصوص الشعرية التي ينتظر أن يتم إخراجها قريباً في كتاب مع دراسة نقدية للناقد إبراهيم الحِيسن: «أربعة أيادٍ تكتب وترسم في آنٍ واحد، هكذا بدأ الاشتغال على هذا المشروع، وهكذا بدأت القصائد واللوحات تتساقط من نفس الشجرة. «ليس أسود تماما... لكنّه أسود» هو معرض تشكيلي - شعري، حيث كل قصيدة تتماهى وتتواطأ مع لوحة فنية، والعكس أيضاً. والجنوح نحو الأسود كلوْن يهيمن على كل لوحات المعرض - عدا لوحة واحدة يسيطر عليها البياض اعتبرناها بمثابة شامة على خد هذا المشروع - فرضته فترة الاشتغال، هذه المرحلة الكورونية الكئيبة التي غيرت مِشية العالم، وجعلت للسواد مكاناً أرحب في كثير من مناحي الحياة».
ونقرأ من نصوص الشاعر الراجي: «كيف تربي الصدأ كما تربي حشرة الضوء أبجدية الضوء في شرنقتها، هي ذات لغة الحديد التي أصابها الهذيان، كيف يكون للحديد رقة خفقة القلب داخل اللوحة، وكيف يكون لخاصية الصدأ خاصية عرق البرق الخفيف، لتراب المقبرة الحي أن يقول كل ذاكرة الموتى الذين كانوه، الذين صاروه، لتراب المقبرة أن يحكي عن نهد امرأة في العشرين ماتت للتوّ، نهد صار بعد التراب زنبقة بيضاء تعلو القبر أو تعلو اللون أو ذاتها لون النور في اللوحة، تراب المقبرة داخل مشهد عاشقين لا يزالان يتبادلان ديدانهما كما هدايا آخر السنة... بياض الديدان التي ليست إلا العاشقين هو النور الذي يصّاعد اللوحة، إنه هسيس الحياة الأبدية في اللوحة». ثم يواصل الراجي أسئلته الحائرة: «كيف أدهشت البتراء صدر الجبل، ظلال آل عاد وتمود، وطئ أقدامهم ذلك التراب تراب دمعة المجاز، المطر الغزير لآلاف السنين والذي للتو والآن ما يزال يطل بغيمته في اللوحة كأنه للتو رغم آلاف السنين وللحظة صغيرة فقط مرّت القوافل محشوة بالعطر والشعر وجلالة الخيال تمر رغم آلاف السنين تمر الآن، أكاد أسمع أصواتهم في تراب رم أسفل اللوحة، أسمع عشاق وادي رم وجوقة الأطفال يرددون أشعار الجن والماء». قبل أن يتحدث عن «هذا اللون البسيط كمحارة في قوقعة أو زرقة شاردة في معطف وأحذية البحّارة، أو لِمَ لا كرغيف الشمس في فم البسطاء... هذا اللون الأصفر المشاع بين أوراق الكتب، هذا الأصفر الذي نزل سلما لفانغوخ وأبرق فجأة في أوراق الكتب المستعملة، الأصفر الذي يفصل بين الموت والحياة في خط دائري كحركة المويجات في اليم، حين يصيبها حجر صلد، كأنه سؤال مُبتَلّ بالأعماق أو بحركة الغرق في جسد الماء، ضربة فرشاة هذه أم هي يد الليل فاجأتها في عمق الهزيع بمفردة الجمال، لون أسود يشبه صلاة نائمة يوقظها جرس القدّاس، القدّاس الذي يشبه بدوره إيروتيكا التقاء نهدين على كرزة حمراء، وحبة مشتعلة لعرق النبيذ... أصفر الكتب وأسود الأسود مَركَبٌ من ورق، مركب رامبو السكران بأعناب القصيدة يصحو بين لون وآخر ليسحب قنينة نبيذ من لون ليضعها ثانية في ثلاجة مليئة بالجليد الذي صار ماءً بارداً يعلوه البجع، لون ينتشي بلون آخر ويترنح به، هكذا حركة لا توازن تحكم التوازن في نهاية المطاف».
لا ينسى الراجي أن يتحدث عن تلك «الانقلابات الجميلة التي تحدثها اللوحة»، قبل أن يواصل: «الآن لي لسان المطر الذي أتذوق به البرق، برق اللوحة في هذا الأسود السنونو، هناك داخل اللوحة تمطر وتبرق وترعد، ويحمل لون ما مظلة ليحجب عن لون آخر السّيلان، سيلان السُّكر من مركب رامبو الأثير، السيلان سيلانُ الضوءِ من تصدعٍ ونزيفٍ في رأس الشمس... من شرفته العالية يطل الأسود بهالة ويلمس كل شيء... ماذا لو هويت أيها الأسود بآخر نجمة في قارورة، يا ليلاً ينسابُ كُحلاً لامرأة - من شرفته العالية - يُطلّ الجمال - يُلقي بالقمر والليل - كحبتي أسبرين - فائرتين - في كأس سكّير - يركب مركب رامبو - ذات قصيدة مترنحة - المركب السكران - هيييه يا مَدّ اللوحة».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».