«الفيديوهات المفبركة»... تحدٍ يعصف بمصداقية المنصات الإعلامية

مطالب بالتحقق قبل بث المحتوى

TT

«الفيديوهات المفبركة»... تحدٍ يعصف بمصداقية المنصات الإعلامية

ازداد في الآونة الأخيرة، بشكل لافت، الاعتماد على «فيديوهات مفبركة» للتأثير على الرأي العام، أو للترويج لأفكار سياسية. كذلك باتت الفيديوهات تستخدم في «الحروب الإعلامية» كأداة للعصف بمصداقية وسائل الإعلام، والتشكيك فيما تنشره من تقارير وتغطيات. وهو ما يتوقع خبراء الإعلام زيادته في المستقبل، لأن «الفيديوهات المفبركة أداة فعالة للتشكيك في مصداقية المنصات الإعلامية، خصوصاً في بعض المجتمعات».
وفق بعض الخبراء، فإن «بعض وسائل الإعلام التقليدية للأسف أصبحت تنقل المحتوى من وسائل التواصل من دون تحقق، ما يخلق مشاكل كثيرة». وبالتالي، يطالب هؤلاء بـ«التعامل مع هذه الفيديوهات بأسلوب التدقيق الجنائي، والتأكد من صدق كل لقطة في الفيديو».
الخبراء يلفتون أيضاً إلى أنه «أمام وسائل الإعلام فرصة لاستعادة الجمهور عبر الالتزام بالمعايير المهنية... فمع التطور التكنولوجي أصبح التلاعب ممكناً بالفيديو. وعليه، ما عاد كافياً أن تشاهد لقطات مصورة لحدث معين لتتأكد من حدوثه، فقد يكون هذا الفيديو مزيفاً، عبر ما يعرف بتكنولوجيا (التزييف العميق)، ما يفرض على الإعلاميين تحدياً يتطلب منهم التحقق من الصور والفيديو قبل النشر».
في نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، بثت قناة إخبارية عربية مقطع فيديو، يُظهر مواطنين مصريين يتظاهرون في منطقة نزلة السمان القريبة من الأهرامات بضاحية الجيزة القاهرية. إلا أنه تبين فيما بعد أن هذا المقطع «مفبرك». إذ بثت قناة «إكسترا نيوز» المصرية حلقة تحت عنوان «كيف تُفبرك مظاهرة»، عرضت فيها كواليس تصوير فيديو مظاهرات نزلة السمان في مدينة الإنتاج الإعلامي بمصر، الذي نفذته «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية»، التي تملك عدداً من وسائل الإعلام المصرية، بينها محطات تلفزيونية وصحف ومواقع.
الإعلامي اللبناني منير الخطيب، مدير تحرير «أريج»، قال لـ«الشرق الأوسط»، إنه «يجب على وسائل الإعلام التحقق من مصداقية أي فيديوهات... وكصحافيين يجب علينا التعامل مع الفيديوهات بأسلوب التدقيق الجنائي، والتأكد من صدق كل لقطة في الفيديو، والبحث حتى في أساليب الإضاءة، والتحقق من وجوه الناس التي تظهر في الفيديو، لمعرفة هل صور الفيديو في ظروف طبيعية، أم في استوديو مثلاً؟».
وحسب محمد عبد الحميد عبد الرحمن، المدير العام لوكالة السودان للأنباء (سونا)، فإن «وسائل الإعلام التقليدية أصبحت للأسف تنقل المحتوى من وسائل التواصل الاجتماعي، من دون أن تتحقق. وهذه مشكلة كبيرة تؤثر على مصداقيتها، وتفقدها جمهورها، خصوصاً وسط هذا الفيض الهائل من المعلومات، والفيديوهات المفبركة أو الموجهة خصيصاً لخدمة أغراض سياسية، ما يزيد من حالة التشويش والارتباك عند المشاهد». غير أن عبد الرحمن يقول في الوقت ذاته لـ«الشرق الأوسط»، إنه «مع زيادة حالة التشويش الناتجة عن كم المعلومات الهائل، وتكاثر الفيديوهات المفبركة، فإن أمام وسائل الإعلام فرصة لاستعادة الجمهور، عبر الالتزام بالمعايير المهنية في التحقق من صحة الفيديوهات والأخبار قبل بثها».
وكمثال، أورد أنه في منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، نُشر مقطع يظهر فيه المرشح الديمقراطي للرئاسة الأميركية جو بايدن، وهو يردد أحد الأغاني، واقتربت مشاهدات مقطع الفيديو من 3 ملايين مشاهدة، رغم تصنيف المقطع من قبل «تويتر» بأنه «مقطع فيديو جرى التلاعب به». وقال عبد الرحمن، «نحن نعيش الآن عصر ما بعد الحقيقة، إذ باتت فيه الحقيقة أقل تأثيراً في الرأي العام، مقارنة بالأكاذيب الأكثر إثارة... واستخدام الفيديوهات المفبركة في الحروب الإعلامية بدأ في الولايات المتحدة الأميركية من خلال الصراع بين المحطات الكبرى، بهدف زعزعة ثقة الجمهور في هذه المحطات. ومن المتوقع أن تتعزّز هذه الظاهرة في الفترة المقبلة، مع استمرار ما يعرف بـ(التزييف العميق) الذي يفوق قدرات الناس العاديين على الفحص والتمييز»، لافتاً إلى أن «هذه الفيديوهات لها تأثير واسع على الجمهور وصانع القرار، وتخلق جواً مشوشاً مرتبكاً».
من ناحية أخرى، تستخدم الفيديوهات المفبركة للتشكيك في مصداقية وسائل الإعلام في عدد من دول العالم، حسب الخبراء. وفي مطلع يونيو (حزيران) الماضي، نشرت وكالة الأنباء الأميركية المرموقة «أسوشيتد برس» تقريراً كشفت فيه كيف جرى التلاعب بأحد الفيديوهات التي بثتها محطة «إن إس إن بي سي» (NSNBC) حول المظاهرات الأميركية الأخيرة في مدينتي أتلانتا وفيلادلفيا، وأضيفت إليها مشاهد من فيلم الحرب العالمية «زد» من إنتاج عام 2013، الذي يتحدث عن فيروس يحوّل البشر لـ«زومبي»، مع تعليقات عن أن المحطة «اعتادت نشر الأخبار المزيفة». وهذا الأمر «غير صحيح بالمرة، إذ لم تذع المحطة فيديوهات مفبركة، بل جرت (فبركة) الفيديو من قبل أحد مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي (تويتر)»، حسب «أسوشييتد برس». ووفق الخطيب، فإن «نشر مثل هذه الفيديوهات يضرّ بمصداقية وسائل الإعلام، ويفقدها جمهورها»؛ لكنه في الوقت نفسه أكد أن «حالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها المنطقة العربية، تجعل من الصعب التأثير في متابعي محطة معينة لصالح أخرى. إذ إن كل طرف يتابع المحطات التلفزيونية التي تغذي الآيديولوجية السياسية التي يتبناها، بغض النظر عن صدقها من عدمه».
وأشار الخطيب إلى «انتشار الفيديوهات المفبركة خلال انفجار مرفأ بيروت أخيراً، إذ تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر لقطات في السماء لجسم يشبه الصاروخ قبل الانفجار، وبعد تحليل الفيديو تبين أنه غير حقيقي»، لافتاً إلى «وجود الكثير من المواقع المتخصصة في التحقق من الفيديوهات المزيفة».
من جانبه، قال عبد الرحمن إن «السودان تنتشر فيه الفيديوهات المفبركة بدرجة كبيرة، ويزداد تأثيرها وقوتها، في ظل وجود بنية تحتية جيدة للاتصالات الإلكترونية تصل إلى أماكن مختلفة». وأردف: «هذه الفيديوهات عادة ما تركز على محتوى سياسي بشكل مباشر، حيث تتحدث عن تدهور في بعض الأوضاع الاقتصادية مثلاً، لإثارة الهلع في المجتمع». وتابع: «في بلد مثل السودان، من الممكن أن تؤدي هذه الفيديوهات إلى خسائر مادية وبشرية واحتقانات عرقية... منها الفيديوهات المفبركة التي انتشرت خلال الستة أشهر الماضية، والتي تسببت في إثارة أحداث عنف عرقية بين قبائل البجا وبني عامر في شرق السودان».



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.