أطلق ترشيح الرئيس الأميركي دونالد ترمب القاضية المحافظة إيمي كوني باريت لشغل مقعد المحكمة العليا، الذي شغر بوفاة القاضية الليبرالية روث بادر غينزبرغ، معركة سياسية وجدلاً آيديولوجياً غير مسبوقَيْن في لحظة فائقة الحساسية تمر بها الولايات المتحدة في عام انتخابي يراه البعض مصيرياً.
قد يؤدي ترشيح باريت، الكاثوليكية المتحدرة من أصول آيرلندية، وتثبيتها من قبل مجلس الشيوخ (الذي يهيمن عليه الجمهوريون) في 12 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، إلى تغيير جذري في التوازن التاريخي للمحكمة العليا التي تضم 9 قضاة، بين الليبراليين والمحافظين. وفي سن الـ48، ستكون باريت أصغر قضاة المحكمة سناً، وقد تستمر فترة ولايتها لعقود.
خلال السنوات القليلة الماضية، كان رئيس المحكمة العليا للولايات المتحدة وسطياً، وصوته هو الذي يرجح كفة التصويت. لكن مع استقالة رئيسها السابق المعتدل القاضي أنتوني كينيدي عام 2018، وإقدام الرئيس دونالد ترمب على تعيين القاضي المحافظ اليميني بريت كافاناه بدلاً منه، وقبله تعيينه محافظاً آخر هو القاضي نيل غورستش لخلفاً للمحافظ أنتوني سكاليا - الذي توفي عام 2016 - مالت المحكمة نحو المحافظين، لتضم 6 منهم مقابل 3 ليبراليين.
في مايو (أيار) عام 2017، رشح ترمب القاضية آيمي كوني باريت قاضيةً في الدائرة السابعة لمحكمة الاستئناف الأميركية. وفي أكتوبر (تشرين الأول) ثبّتها مجلس الشيوخ. والحقيقة، أن ترمب كان يفكر في ترشيحها لتحل محل القاضي الراحل أنتوني سكاليا، إلّا أنه خشي تعرضها لانتقادات شديدة حتى من الجمهوريين أنفسهم بسبب صغر سنها وقلة تجربتها. وعليه، فضل تأجيل ذلك بانتظار شغور منصب القاضية غينزبرغ، التي توقع كثيرون وفاتها أو على الأقل استقالتها بعد إصابتها بالسرطان للمرة الثالثة. وللعلم، قبل تعيينها قاضية، وإبان عملها القانوني، كانت باريت أستاذة للقانون في كلية الحقوق بجامعة نوتردايم العريقة، أغنى الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة، حيث درّست الإجراءات المدنية والقانون الدستوري والتفسير التشريعي.
«أصولية» مسيحية يفضلها المتدينون
باريت التي تُعرف بأنها مسيحية «أصولية» وصفتها وكالة «رويترز» بأنها «المفضلة لدى المحافظين المتدينين». بل إنها إبان حفل تخرج لطلابها، أخبرتهم أنه «إذا كان بإمكانكم أن تضعوا في اعتباركم أن الهدف الأساسي في الحياة ليس أن تكون محامياً، بل أن تعرف الحب وتخدم الله، فستكونون حقاً نوعاً مختلفاً من المحامين».
وككاثوليكية متدينة ولديها تراث آيرلندي، يتابع العديد من المراقبين كيف يمكن أن يؤثر ترشيح باريت على الانتخابات الرئاسية في 3 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. إذ أشاد المحافظون المتدينون بهذا الاختيار، الذي يلقى استحساناً أيضاً لدى الكاثوليك الآيرلنديين والإيطاليين في الولايات الغربية الوسطى الذين صوّتوا لصالح ترمب عام 2016. وبناء عليه، بات يحسب الحساب للشخصيات الكاثوليكية المحافظة من ذوي الأصول الآيرلندية، باعتبارها جسراً جديداً ينضم إلى تحالف المحافظين من الإنجيليين البروتستانت وغيرهم من الجماعات المسيحية المتشددة الأخرى.
يقول الليبراليون إن آراء باريت القانونية متأثرة جداً بمعتقداتها الدينية، ويخشى أن يؤدي وصولها إلى أعلى محكمة في البلاد، إلى تقليص إصلاحات الإجهاض وقضايا الهجرة وحمل السلاح والرعاية الصحية.
أيضاً، يتخوف الديمقراطيين من أن تصوّت باريت حال تعيينها في المحكمة العليا، على قرار لإلغاء قانون الرعاية الصحية المعروف بـ«أوباما كير»، الذي حُدّدت جلسته بوم 10 نوفمبر، أي بعد أسبوع واحد من الانتخابات. غير أن البعض يؤكد أن تصريحاتها لا توحي بأنها قد تقدم على ذلك. ويقول خبراء قانونيون إن الحكم بإلغاء قانون الرعاية الصحية قد لا يصدر على أسس آيديولوجية. لا، بل يرجحون عدم إبطاله أصلاً، إذ إن بعض المحامين الذين أيدوا إبطال «أوباما كير»، قالوا إن الدعوى التي رفعتها ولاية تكساس تفتقر إلى الجدارة.
مع هذا، يخشى العديد من الاستراتيجيين الجمهوريين من أنه إذا مضى الجمهوريون في مجلس الشيوخ قدماً في تثبيت باريت رغم اعتراضات الديمقراطيين، قد تتحول معركة تثبيتها إلى سلاح انتخابي في يد الديمقراطيين، الذين يُعِدون بالفعل لاستخدامه عبر إطالة أمد المناقشات والمماحكات لتهشيم صورتها والنيل من ترمب.
في المقابل، يحذر الاستراتيجيون الديمقراطيون من أن التصدّي لتعيينها، فيما هم يفتقدون القدرة على تعطيله، قد يكلفهم خسارة بعض المقاعد في انتخابات مجلس الشيوخ، كما حصل خلال تثبيت القاضي كافاناه، حيث خسر عضوان ديمقراطيان في مجلس الشيوخ مقعديهما في ولايتين تميلان للجمهوريين عام 2018.
النشأة والمسيرة
ولدت آيمي كوني (وهو اسمها الأصلي قبل الزواج)، عام 1972 في مدينة نيو أورلينز بولاية لويزيانا. وتعود جذورها الآيرلندية لأجدادها من ناحية والدتها مع دماء آيرلندية مختلطة من ناحية والدها، وهي الأكبر بين سبعة أطفال، مع خمس أخوات وأخ.
والدها، مايكل كوني، عمل محامياً لشركة «شل للبترول» ورُسّم شماساً في الكنيسة الكاثوليكية خلال الثمانينات. أما والدتها ليندا، فكانت مدرّسة لغة فرنسية في المدرسة الثانوية.
آيمي نشأت في ضاحية ميتايري بنيو أورلينز، وتخرّجت في مدرسة سانت ماري التابعة للرهبنة الدومينيكانية الكاثوليكية بالمدينة عام 1990. وبعدها التحقت بكلية رودز (وهي إحدى أرقي الجامعات الخاصة في ولايات الجنوب الأميركي) بعد حصولها على منحة دراسية، وتخصصت في الأدب الإنجليزي والفرنسية. وفي رودز تخرّجت عام 1994 بدرجة البكالوريوس في الآداب بامتياز. ومنها انتقلت إلى دراسة القانون في كلية الحقوق بجامعة نوتردايم بمنحة دراسية كاملة. وإبان دراستها فيها كانت محرّرة تنفيذية في مجلة «نوتردابم لو ريفيو»، وتخرجت عام 1997 بدرجة دكتوراه في القانون بامتياز.
بعد التخرّج في كلية الحقوق، أمضت باريت سنتين كاتبة قانون قضائي، مع القاضي لورانس سيلبرمان من محكمة الاستئناف الأميركية لدائرة العاصمة واشنطن من 1997 إلى 1998، ثم عملت مع القاضي أنتوني سكاليا في المحكمة العليا الأميركية من 1998 إلى 1999. وقالت في الكلمة التي ألقتها في البيت الأبيض بعد ترشيح ترمب لها، السبت الماضي، إن سكاليا هو مثالها ومدرّبها ومنه تستلهم أحكامها.
أيضاً عام 1999 تزوجت من جيسي باريت، زميلها في كلية الحقوق بجامعة نوتردايم. وهو شريك في شركة محاماة بمدينة ساوث بند في ولاية إنديانا، وأستاذ قانون في جامعة نوتردايم. وكان جيسي باريت قد عمل سابقاً مساعداً للمدعي العام الأميركي للمنطقة الشمالية بولاية إنديانا لمدة 13 سنة. وتعيش العائلة اليوم في مدينة ساوث بند (القريبة جداً من جامعة نوتردايم) ولديهم سبعة أطفال، اثنان منهم تم تبنيهم من هايتي، الأول عام 2005 والثاني عام 2010، بعد الزلزال الذي ضرب الجزيرة. ويعاني طفلها الأصغر من متلازمة التوحُّد وخشي الأطباء ألا يتمكن من النطق أو المشي بشكل طبيعي.
بين عامي 1999 و2002، مارست باريت العمل القانوني في مؤسسة «ميلر كاسيدي لاروكا» في واشنطن العاصمة، التي اندمجت مع مؤسسة «بيكر بوتس» في هيوستن. وخلال فترة عملها في «بيكر بوتس»، عملت في قضية «بوش ضد غور»، وهي الدعوى القضائية التي حسمت الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2000. ويومذاك قدمت المساعدة البحثية والإعلامية لتمثيل بيكر بوتس لجورج بوش الابن الذي كسب الدعوة ليصبح رئيس الولايات المتحدة الـ43.
«مجتمع العهد» عصبة كاثوليكية
آيمب كوني باريت كاثوليكية ملتزمة وعضو في جماعة مسيحية اسمها «مجتمع العهد» في ساوث بند، ويضم 1700 شخص، أكثر من 90 في المائة من أعضائه من الكاثوليك. وهي مرتبطة بحركة التجديد الكاريزمية (الهِبَوية) الكاثوليكية، لكنها غير مرتبطة رسمياً بالكنيسة الكاثوليكية. ووفقا لصحيفة «نيويورك تايمز»، «يُقسِم أعضاء الجماعة قسم الولاء مدى الحياة، ويسمى (عهداً) لبعضهم البعض، وهم مسؤولون أمام مستشار شخصي، يسمى (رأس) الرجال و(خادم) النساء». تؤمن هذه الجماعة بأن الأزواج رؤساء زوجاتهم ويجب أن يتولوا السلطة على الأسرة. وعام 2015، وقّعت باريت خطاباً إلى المجمع الكنسي حول الأسرة جاء فيه أن «تعاليم الكنيسة حول الزواج والأسرة أسست على التزام الرجل والمرأة الذي لا ينفصم».
وخلال جلسة تثبيتها في مجلس الشيوخ قاضيةً في الدائرة السابعة لمحكمة الاستئناف الأميركية عام 2017، أثارت آراؤها حفيظة الديمقراطيين ومخاوفهم من أن يؤثر ولاؤها لمجموعتها الدينية على أحكامها القضائية وتغليب معتقداتها على أحكام القانون والدستور. وبالفعل، استجوبتها السيناتور الديمقراطية ديان فاينشتاين حول مقال قانوني شاركت في كتابته عام 1998 مع الأستاذ جون إتش غارفي. وجادلت فيه بأن على القضاة الكاثوليك في بعض الحالات التنحي عن قضايا عقوبة الإعدام بسبب اعتراضاتهم الأخلاقية على هذه العقوبة. وخلص المقال إلى أن على القاضي التنحي بدلاً من التورط في القضية. ورداً على سؤال حول «توضيح البيانات ومناقشة كيفية النظر إلى قضية الإيمان مقابل الوفاء بالمسؤولية كقاضية»، قالت باريت إنها شاركت في العديد من الطعون المتعلقة بعقوبة الإعدام أثناء عملها ككاتبة قانونية مع القاضي سكاليا. وأضافت: «لن يؤثر انتمائي الشخصي للكنيسة أو معتقداتي الدينية على أداء واجباتي كقاضية، وليس من المناسب أبداً أن يفرض القاضي قناعاته الشخصية، سواء كانت ناشئة عن الإيمان أو أي مكان آخر، بشأن القانون». ومن ثم، شددت على أن المقالة كتبتها في سنتها الثالثة في كلية الحقوق، وأنها كانت «شريكاً صغيراً جداً فيها». غير أن فاينشتاين (اليهودية الليبرالية) ردّت بالقول: «العقيدة تعيش بصوت عالٍ في داخلك، وهذا مصدر قلق».
معاداتها للمثليين والمتحوّلين
واستُجوبت باريت، أيضاً، في سوابق قانونية تتعلق بالمثليين والمتحوّلين جنسياً، بعدما وقّعت 26 منظمة مدنية تعنى بحقوقهم، رسالة تعارض ترشيحها آنذاك. وشكّكت الرسالة بقدرتها على فصل الإيمان عن أحكامها في قضايا مجتمع المثليين. وجاء في الرسالة: «مجرد تكرار أنها ستكون مُلزمة بسابقة المحكمة العليا لا يوضح، بل إنه يشوّش بالفعل. إذ كيف ستفسر الأستاذة باريت تلك السابقة وتطبّقها عند مواجهة أنواع المعضلات التي، في رأيها، (وضعت القضاة الكاثوليك في مأزق)».
غير أن جلسة الاستماع رفعت شعبيتها كثيراً عند المحافظين المتدينين. وانتقد بعض الجمهوريين والمراقبين الآخرين استجواب فاينشتاين وأعضاء مجلس الشيوخ الآخرين لها، باعتباره «تحقيقاً دينياً غير لائق في المعتقد الديني للمرشح وغير مطلوب دستورياً للمنصب».
وفي قضية تتعلق بالأمر التنفيذي الذي وقعه ترمب لرفع معيار شروط الحصول على «البطاقة الخضراء» (الخاصة بالإقامة)، «الغرين كارد»، كتبت باريت نصاً معارضاً من 40 صفحة لقرار الغالبية في المحكمة التي أيدت أمراً قضائياً أولياً بتجميد الأمر التنفيذي المثير للجدل. ورأت باريت أن الأمر التنفيذي يقع ضمن النطاق الواسع للسلطة التقديرية الممنوحة للسلطة التنفيذية من قبل «الكونغرس» من خلال قانون الهجرة والجنسية.
كذلك اعترضت باريت مرة أخرى على قرار المحكمة التي أيدت قانوناً يمنع المجرمين المدانين غير العنيفين من حيازة أسلحة نارية. وفي حين أيد غالبية القضاة قوانين منع الحيازة باعتبارها «مرتبطة بشكل جوهري بمصلحة حكومية مهمة في منع العنف المسلح»، جادلت باريت أنه في حين أن للحكومة مصلحة مشروعة في حرمان المجرمين المدانين بارتكاب جرائم عنيفة من حيازة السلاح، لا يوجد دليل على أن حرمان المجرمين غير العنيفين من السلاح يعزّز هذه المصلحة، وأن قرار المنع ينتهك التعديل الدستوري الأميركي الثاني الذي يضمن الحق في اقتناء السلاح.