الرئيس الفرنسي يعرض اليوم مشروع قانون محاربة «الانفصالية الإسلاموية»

ماكرون التقى ممثلي الديانات وأطلعهم على الخطوط العريضة للمشروع

TT

الرئيس الفرنسي يعرض اليوم مشروع قانون محاربة «الانفصالية الإسلاموية»

بين مَن يتهمه بـ«العجز» عن محاربة التوجهات «الانفصالية»، وخروج عدد من البقع والمناطق في فرنسا عن سلطة الدولة، ومَن يتخوف من خطاب يستهدف المسلمين ويقيم حاجزاً بين المواطنين، يبدو موقف رئيس الجمهورية بالغ الدقة. إلا أن إيمانويل ماكرون الذي تناول هذا الملف المتفجّر أكثر من مرة منذ شهر فبراير (شباط) الماضي ووعد بتقديم مشروع قانون إلى البرلمان، اعتبر أن التأجيل لم يعد ممكناً، وأنه حان الوقت لعرض مضمون مشروع القانون رغم التوتر الذي أفضت إليه العملية الإرهابية الأخيرة التي قام بها مواطن باكستاني لجأ إلى فرنسا قبل ثلاثة أعوام مستهدفاً المقرَّ السابق لمجلة «شارلي إيبدو» الساخرة في قلب العاصمة الفرنسية. واستباقاً لكلمة ماكرون التي سيلقيها اليوم في مدينة «لي مورو» الواقعة على بعد ستين كلم غرب باريس، عرض مستشارون من الإليزيه فلسفة مشروع القانون الذي سينجز تحضيره بعد نحو أسبوعين ليعرض على مجلس الوزراء، بداية شهر ديسمبر (كانون الأول)، وينقل بعدها إلى البرلمان بمجلسيه النواب والشيوخ.
الملاحظة الأولى أن ماكرون شخصياً هو أول مَن استخدم كلمة «انفصالية» في خطاب له قبل تسعة أشهر. وقالت مصادر «الإليزيه» أمس إن نقطة الانطلاق كانت سؤالاً طرحه ماكرون على مجموعة العمل، وهو التالي: «ما هي التوجهات الانفصالية التي تهدد المجتمع؟ وما الردود التي نستطيع أن نوفرها لمحاربتها؟». بداية، كان الحديث عن «الانفصالية» (بصيغة المفرد) التي كان المقصود منها «الانفصالية الإسلاموية»، وقد تحولت لاحقاً إلى «انفصاليات» (بصيغة الجمع) حتى لا يُفهم منها أن المستهدف بها فقط المسلمون، بينما هناك انفصاليات أخرى تقوم على أسس سياسية أو دينية أو مناطقية... لكن الحقيقة أن مشروع القانون يستهدف أساساً «الإسلامويين» في المجتمع الفرنسي أو الإسلاميين الذين يحملون مشروعاً سياسياً واجتماعياً غرضه فرض قيم وعقائد وتصرفات اجتماعية بعيدة عن قِيَم الجمهورية الفرنسية.
وتسارع أوساط الإليزيه للتأكيد أن «ضحايا» الإسلامويين أو الإسلام السياسي في فرنسا هم بالدرجة الأولى المسلمون، وأن الغرض من مشروع القانون هو «توفير الأدوات القانونية» لمحاربة هذه النزعات التي ترى فيها خطراً على وحدة الجمهورية.
المقصود بـ«الانفصالية» ليس الانفصال الجغرافي، وإنما إيجاد بيئات موازية فكرية واجتماعية وممارسات عن طريق حَرْف الدين وعزل المسلمين عن بيئتهم.
ولا ترغب السلطات الفرنسية في أن يُطرَح مشروع القانون من غير التشاور مع مسؤولي الأديان وبداية المسلمين. وفي هذا السياق، فقد استقبل ماكرون مساء أول من أمس ممثلي الديانات في قصر الإليزيه، ليطلعهم على الخطوط العريضة لمشروع القانون قبل أن يعرضه بتفصيل أكبر قبيل ظهر اليوم في مدينة لي مورو.
وسوف تُستأنف المشاورات على صعيد رئاسة الجمهورية، ولكن أيضاً مع الوزارات المعنية، خصوصاً مع وزارة الداخلية وشؤون العبادة التي يشغلها جيرار دارمانان. وسيرافق ماكرون ستة وزراء معنيين بالمشروع. وبعد اجتماع ليل الأربعاء الماضي، قال محمد الموسوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إنه «يؤيد تماماً أهداف» مشروع القانون «لأنه سيواجه كل الذين يستخدمون الديانة الإسلامية من أجل غايات سياسية». إلا أنه نبه لما سماه «تبعات جانبية»، في إشارة واضحة لما يمكن أن يُعدّ استهدافاً للمسلمين، وخلطاً بين الإسلامويين والآخرين، وهو ما يتعين التنبيه إليه.
إذا كان الغرض من مشروع القانون محاربة «الانفصاليات» أي محاربة الذين «يعملون على حرف الديانات (عن مسارها) من أجل نسف قيم الجمهورية»، فإن الطريق لذلك، وفق المصادر الرئاسية، تمر عبر طريقين: الأول، هو ما سمته «الرد الدفاعي» الذي عنوانه تقديم مشروع القانون الذي من شأنه توفير الأسس القانونية للتدابير التي سوف تُقرّ. والثاني، «الرد الإيجابي» الذي يعني «إعادة الجمهورية وقيمها، كالتحرر والمساواة إلى جميع أنحاء الجمهورية»، والمقصود إلى تلك الأحياء والضواحي التي تراجع حضورها فيها.
وأكدت هذه الأوساط أن الرئيس ماكرون أن «يذهب بعيدا» في الترويج للعدالة في الفرص، والمقصود بذلك التعليم والعمل والسكن بحيث إن خطة محاربة الانفصاليات لن تُحصَر فقط في الجانب «الردعي»، بل سيكون لها مكون آخر هو مساعدة الأحياء التي تعاني من التمييز وانعدام الفرص وغير ذلك من المطالب التعليمية والاجتماعية والاقتصادية.
واضح أن ماكرون بتشديده على إعادة قبضة الدولة إلى الأحياء والضواحي التي خرجت منها بفعل الانغلاق المجتمعي وتراجع الخدمات العامة وهيمنة ما يسمى بالإسلام السياسي، واستفحال العنف والممارسات التمييزية... فإنه يريد اجتذاب الجناح اليميني في المجتمع وإبراز تشدده. وبتركيزه، في مرحلة لاحقة، على تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، فإنه يرضي اليسار وكل الذين يتهمون الدولة بالتخلي عن القيام بواجباتها في المناطق التي تعاني من الفقر والعنف والمخدرات والتمييز... ويرى مراقبون أن الخطة الرئاسية لها خلفية سياسية؛ إذ إن المجتمع الفرنسي يميل إلى اليمين، وماكرون الراغب في الترشح لولاية جديدة في انتخابات عام 2022 يريد اجتذاب شرائح من اليمين، خصوصاً أن اليمين واليمين المتطرف ممثلاً بالجبهة الوطنية سيركزان على المسائل الأمنية وعلى الخوف وهما يريان فيها نقطة الضعف الرئاسية.
سينص مشروع القانون بداية على تعديل قانون الفصل بين «الدين» الكنسي والدولة العائد لعام 1905، الذي يُعدّ أساس العلمانية على الطريقة الفرنسية وفرض مزيد من الرقابة على الجمعيات الإسلامية التي أحياناً تكون القالب المستخدَم للترويج لأفكار الجماعات المتشددة، وبعضها يلبس طابعاً تعليمياً وتربوياً فيما غرضه الحقيقي الترويج لمبادئه. وتؤكد مصادر الإليزيه أن العديد من المدارس التابعة للمسلمين خاضعة لتيارات متشددة، وهي تستهدف عشرات الآلاف من الأطفال الذين يدرسون في منازلهم. كذلك ثمة جمعيات ثقافية ورياضية ظاهرها نظيف، إلا أنها في الواقع تستخدم الثقافة والرياضة لأغراض سياسية، وهو ما سيسعى مشروع القانون لمحاربته. يضاف إلى ذلك مسائل تتناول مباشرة الديانة الإسلامية مثل تأهيل الأمة وتمويل بناء المساجد والتمويل الخارجي الذي تستفيد منه جمعيات كثيرة، وكلها مسائل طرحها ليس جديداً، وإنما معالجاتها بقيت جزئية. الخلاصة أن مشروع القانون يسعى بالدرجة الأولى إلى «حماية المسلمين الذين هم أول ضحايا الإسلاموية الانفصالية».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟