رغم أن ما يزيد على نصف ضحايا «كوفيد-19» حتى الآن يقع في القارة الأميركية وحدها، موزعاً بين الولايات المتحدة التي يشكل عدد ضحاياها خمس المجموع العالمي وأميركا اللاتينية التي يُخشى من تفاقم كارثي للوضع الوبائي فيها، خاصة في المكسيك والبرازيل، ورغم انفجار عداد الإصابات في الهند منذ مطلع الشهر الماضي، ترى منظمة الصحة العالمية أن أوروبا هي مصدر القلق الرئيسي في الأسابيع المقبلة، بعد أن تجاوزت الإصابات الجديدة في عدد من البلدان مستويات مرحلة الذروة في الربيع الماضي، ومع الارتفاع المتواصل لعدد الإصابات في جميع البلدان على أبواب ظهور الفيروسات الموسمية، والتداعيات الأولى لاستئناف الأنشطة الدراسية.
ويقول خبراء المنظمة إن القلق من تطورات الوباء في أوروبا، حيث تجاوز عدد الوفيات الناجمة عن فيروس كورونا المستجد 220 ألفاً، يعود لأسباب عدة: أولها الظهور المبكر للموجة الثانية التي كانت متوقعة على مشارف نهاية السنة الحالية، بالتزامن مع نزول الجرعات الأولى من اللقاحات المتقدمة إلى الأسواق، واحتمالات تزامنها مع الإنفلونزا الموسمية التي تؤدي عادة إلى اكتظاظ المنشآت الصحية. يضاف إلى ذلك أن الآثار الكاملة للرحلات والأنشطة الصيفية لم تظهر بعد بوضوح في المشهد الوبائي، كما لم تظهر تداعيات العودة إلى المدارس التي يُخشى كثيراً من تأثيرها على انتشار الوباء.
وإذ يشير الخبراء إلى أن التسرع في رفع تدابير الوقاية والاحتواء وتخفيفها، والأخطاء الكثيرة التي ارتكبت عند التخطيط لمراحل العودة إلى الحياة الطبيعية، إضافة إلى التردد والإبطاء في تشديد التدابير مع ظهور البؤر الوبائية الجديدة، والأفراط في الثقة إزاء التعامل مع الوباء، أدت إلى هذا الوضع، بعد أن كانت معظم الدول الأوروبية قد تمكنت من السيطرة على انتشار الفيروس أواخر مايو (أيار) الفائت. وتذكّر منظمة الصحة بأنه إذا كان السابع عشر من أبريل (نيسان) الماضي هو اليوم الأسوأ في سجل ضحايا الجائحة حتى الآن، حيث بلغ عدد الضحايا فيه 12421، فإن اليوم الرابع على قائمة الوفيات هو السابع من الشهر الحالي، حيث وقعت 8666 ضحية، ما يدل بوضوح على أن الجائحة ليست في طور الانحسار، بل هي تواصل الانتشار في جميع أنحاء العالم بنسب متفاوتة.
قرار الإقفال التام الذي «أقسمت» الحكومات الأوروبية على عدم العودة إليه، واتخاذ ما يلزم من التدابير لمنع تكراره، أصبح الآن جاهزاً على طاولات القادة، لا ينتظر سوى التوقيت المناسب لتوقيعه. والأوساط العلمية تكاد تجمع على مطالبة الحكومات بالإسراع في اتخاذ هذا القرار، قبل أن يخرج الوضع عن السيطرة، خاصة أن مواعيد ظهور اللقاحات الأولى تراجعت في أحسن الأحوال حتى نهاية السنة.
وفي حين تواجه معظم الحكومات الأوروبية موجات متصاعدة من الاحتجاجات الشعبية ضد تدابير العزل والاحتواء، تضغط الأوساط العلمية وهيئات الطواقم الصحية في الاتجاه المعاكس، خشية من أن يدفع أفراد هذه الطواقم مرة أخرى ثمن الازدحام في المستشفيات، كما تشير كل التوقعات، في حال تزامن ذروة موجة الوباء الثانية مع الإنفلونزا الموسمية.
وتفيد مصادر المفوضية الأوروبية بأن عدداً من الحكومات باشر بتعديل شروط المعادلات الأكاديمية، بهدف التعاقد مع أطباء وممرضين يحملون شهادات من بلدان خارج الاتحاد الأوروبي، لسد العجز المرتقب في الطواقم الصحية خلال المرحلة المقبلة. وكانت بلدان الجنوب الأوروبي قد اشتكت مؤخراً من أن عدداً كبيراً من أطبائها وممرضيها يغادرون للعمل في بلدان الشمال، حيث يتقاضون أجوراً مضاعفة، ما يؤدي إلى ازدياد العجز في مستشفيات البلدان التي كانت الأكثر تضرراً من الوباء.
ودعت منظمة الصحة مرة أخرى الحكومات إلى تعزيز أنشطتها الإرشادية بشتى الوسائل الممكنة لتوعية المواطنين حول خطورة الوضع الوبائي، وأهمية التقيد بتدابير الوقاية والاحتواء، واقترحت تخصيص حصص في المدارس لتوعية الطلاب بهذه التدابير، وأساليب التواصل بينهم، ومع بقية أفراد الأسرة، خاصة مع المسنين منهم.
ومن غير أن تشير بالاسم إلى إسبانيا، حذرت المنظمة العالمية مجدداً من عواقب إخضاع إدارة الجائحة للتجاذبات السياسية، منبهة إلى خطورة تأثير هذه التجاذبات على التأخير في اتخاذ التدابير اللازمة لاحتواء الوباء، وعلى ثقة المواطنين بهذه التدابير، وتقيدهم بتنفيذها. وتجدر الإشارة إلى أن مدريد التي تحكمها المعارضة اليمينية تعاني من خلافات سياسية عميقة مع الحكومة المركزية اليسارية، رغم أن العاصمة الإسبانية هي اليوم البؤرة الرئيسية لانتشار الوباء في أوروبا، حيث تجاوزت معدلات الإصابات الجديدة فيها تلك التي سادت خلال المرحلة الأولى التي كانت إسبانيا من أكثر البلدان تضرراً منها.
وما زالت الحكومة الإقليمية في مدريد تصر على عدم الإقفال التام للمدينة، مكتفية بعزل عدد من أحيائها، فيما تطالبها الحكومة المركزية بالعزل الكامل، وتهدد بإعلان حالة الطوارئ، ووضع اليد على إدارة الأزمة.