«صفقة الجنوب» بعد سنتين... نموذج قلق لـ«سوريا المستقبل»

سباق روسي ـ إيراني وغارات إسرائيلية واغتيالات في ريفي درعا والسويداء

عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)
عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)
TT

«صفقة الجنوب» بعد سنتين... نموذج قلق لـ«سوريا المستقبل»

عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)
عناصر من قوات النظام السوري بمعبر نصيف في يوليو 2018 (أ.ف.ب)

مرت سنتان على عودة قوات الحكومة السورية إلى المناطق الجنوبية والجنوبية الغربية من البلاد؛ إذ سمحت «صفقة الجنوب»، بسيطرة الحكومة والرموز الموالية للنظام، على المناطق الريفية في درعا والقنيطرة بمباركة من الأردن وإسرائيل ضمن التفاهم المسبق الذي نشأ بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
وكان لزاماً لاستيفاء بنود «الصفقة»، أن تستسلم قوات المعارضة المتمركزة في درعا وتسلم أسلحتها مع الاكتفاء بما يمليه عليها النظام السوري من ظهور مقنن في صورة المجالس المحلية، في حين جرى طرد «القوات غير السورية»، وهو التعبير الواصف لميليشيات موالية لإيران، من المناطق الحدودية المتاخمة للأردن وخط فك الاشتباك في مرتفعات الجولان.
لكن بعد مرور عامين على إبرام الصفقة، لا تزال أعمال العنف في المنطقة التي لم تنعم بالأمن والاستقرار. هناك شعور عام بالإحباط لدى قادة قوى المعارضة الذين لم ينالوا حظهم من الحكم الذاتي المحلي الموعود، ولا تزال الحكومة الأردنية غير قادرة تماماً على إعادة توطين اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة في الداخل السوري، فضلاً عن الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة على «مواقع إيران» التي غيرت هيئتها منذ إبرام الصفقة قبل عامين. ومع تحول الاهتمام الدبلوماسي إلى شمال غربي البلاد أو شمالها الشرقي، هنا ترجمة غير رسمية لبحث نشر في «مركز السياسات العالمية» في واشنطن، عن الدروس المستفادة من «صفقة الجنوب».

كانت روسيا – وهي اللاعب الرئيسي في الحلبة السورية منذ تدخلها العسكري في الحرب الأهلية للمرة الأولى في عام 2015 – القوة الدافعة المحركة وراء إبرام تلك الصفقة من الأساس. وترجع تلك الصفقة بأصولها إلى الاتفاقية الأولى المبرمة في مايو (أيار) عام 2017 بين كل من روسيا وإيران وتركيا والمعنية بإنشاء أربع مناطق لخفض التصعيد العسكري في سوريا، وكان الغرض الروسي منها معاونة الحكومة السورية على إلحاق الهزيمة بقوى المعارضة السورية وبقوات «الجيش السوري الحر».
وفي تلك الأثناء، كانت الولايات المتحدة الأميركية تعتمد سياسة أكثر ضلوعاً وانخراطاً في الشأن السوري، سواء كان ذلك بصورة علنية من خلال قاعدة التنف العسكرية، حدود روسيا والعراق والأردن، في محافظة حمص والمخصصة لتدريب القوات المكلفة بمكافحة تنظيم «داعش» الإرهابي في المنطقة، أو بصورة سرية من خلال الجهود التي كانت تشرف عليها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) من تدريب وتسليح قوى المعارضة السورية. وكان أحد أغراض الولايات المتحدة من وراء ذلك هو دعم وحماية مصالح الحلفاء الإقليميين؛ الأمر الذي جعل من المشاركة الإيرانية في المحادثات في آستانة، من الأمور الباعثة على القلق لدى واشنطن.
وفي يوليو (تموز) من عام 2017، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين عن اتفاق وقف إطلاق النار بين القوات الحكومية السورية وقوى المعارضة. وكان الرئيس الأميركي ترمب - قبل إبرام ذلك الاتفاق – قد أوقف تماماً جهود وكالة الاستخبارات الأميركية في تمويل قوى المعارضة السورية، فيما يعد موافقة ضمنية من جانبه على السماح للجانب الروسي بالحفاظ على اليد العليا والكلمة الأولى في الشأن السوري. ولقد حاولت روسيا ممارسة بعض الضغوط على الولايات المتحدة بُغية إغلاق قاعدة التنف، لكن لم يتم التوصل إلى اتفاق واضح في هذا الصدد حتى الآن. واستمرت المحادثات المشتركة بين الجانبين الأميركي والروسي منذ ذلك الحين، وعلى وجه التحديد فيما يتصل باستمرار التواجد العسكري الإيراني وأمن إسرائيل، وذلك حتى تاريخ التوصل إلى اتفاق في عام 2018 قضى بإخراج القوات والميليشيات الموالية لإيران من الجنوب السوري بالكلية.
وشنت القوات الحكومية السورية في يوليو 2018، حملة عسكرية جديدة بدعم من القوات الروسية على محافظتي القنيطرة ودرعا. وحسب مسؤول رفيع، في قوى المعارضة السورية، فإن تسليم «الجيش السوري الحر» أسلحته جاء بتوجيه – وربما ضغوط – من قبل ممثلين عن الحكومتين الأردنية والأميركية مع قبول الاتفاقيات المبرمة بهذا الخصوص ما بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي اشتملت – من بين أمور أخرى – على تشكيل المجالس المحلية، والاعتراف بعلم الحكومة السورية الرسمي، مع التوقيع على اتفاقيات التسوية اللاحقة.
وفي أثناء المحادثات التي جرت بين شخصيات من المعارضة السورية، اقترح الجانب الروسي تشكيل مجموعات جديدة من «الجيش السوري الحر» تحت قيادة «الفيلق الخامس» الخاضع لسيطرة القوات المسلحة الروسية. وكانت موسكو ترمي من وراء ذلك إلى تكوين الجيش المحلي الموالي لها حتى تتمكن من السيطرة على مجريات الأحداث في أرض الواقع مع الحيلولة دون إيران وتجنيد المزيد من الميليشيات الموالية لها في الداخل السوري.

بعد مرور عامين

يقترب وصف مدينة درعا في الآونة الراهنة من «مدينة الأشباح». وأفاد عدد من شهود العيان في المدينة بأن القوات الحكومية السورية تسيطر على حاجز التفتيش الأمني عند مدخل المدينة من طريق عمان – دمشق السريع الذي تظهر عليه صورة بالحجم الكبير للرئيس السوري بشار الأسد، فضلاً عن ملصقات لبيانات تمجد الجيش السوري. ذلك مع ندرة وجود نقاط التفتيش الموالية للحكومة السورية في داخل أنحاء المدينة، مع وجود طفيف لقوات الجيش، وقوات الأمن الداخلي، وبعض المسؤولين التابعين للحكومة الروسية.
وعلى جهة أخرى، تشهد المناطق الريفية المحيطة بمدينة درعا – التي كانت فيما قبل معقلاً من معاقل قوى المعارضة السورية حتى قبل عام 2018 – محاولات للتفجير المتناثرة هنا أو هناك مع بعض عمليات الاغتيال المنفردة والمتكررة بصفة شبه يومية. وأعلن «تجمع أحرار حوران» عن ارتكاب 415 محاولة اغتيال للأفراد على مدار العامين الماضيين – من بينها 277 محاولة اغتيال استهدفت مدنيين مع 133 محاولة اغتيال أخرى ضد مقاتلي المعارضة السابقة الذين انضموا إلى القوات الحكومية السورية بعد التسوية، فضلاً عن 48 محاولة أخرى طالت قادة وعناصر المعارضة الذين بقوا من دون ولاء واضح. وأفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» عن مقتل واغتيال أكثر من 525 شخصاً هناك في عام واحد، من بينهم 56 عنصراً من عناصر المعارضة السابقين من الذين وافقوا على المصالحات والتسويات التي أبرمت مع النظام السوري الحاكم، ذلك مع مقتل 19 مقاتلاً تابعين لـ«حزب الله» ومقاتلين آخرين موالين لإيران، فضلاً عن سقوط 17 مقاتلاً من جنود الفيلق الخامس السوري.
لم يوقف الاتفاق المبرم بين الولايات المتحدة وروسيا، القوات الحكومية السورية من السعي وراء بسط السيطرة الكاملة على المناطق الجنوبية من البلاد. كما لم يُفلح ذلك الاتفاق، وبشكل كامل، في إبعاد القوات الموالية لإيران عن الاقتراب من الحدود الأردنية أو الإسرائيلية. وكانا لزاماً على الجانب الروسي التدخل في غير مناسبة من أجل منع القوات الحكومية السورية من الهجوم على ريف درعا. وفي أحد الأمثلة الواضحة، أرسلت القوات الحكومية السورية تعزيزات عسكرية إلى بلدة طفس من الفرقة الرابعة المدرعة من قوات الحرس الجمهوري الذين يُعتقد بصلاتهم الوثيقة مع الجانب الإيراني. ولقد جاءت تلك الخطوة في أعقاب سيطرة عناصر مقاتلة سابقة من «الجيش السوري الحر» على نقطة تفتيش تابعة للقوات الحكومية السورية قبيل هجوم الأخيرة بتعزيزاتها العسكرية على بلدة طفس. ولقد دفعت تطورات الأوضاع هناك إلى التدخل المباشر من جانب القوات الروسية.

روسيا وإيران

وقال مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرينتييف، قوله: «إن مقاتلي (حزب الله) والميليشيات التي تدعمها إيران قد انسحبوا جميعاً من هناك»، وفي سبتمبر (أيلول) 2018، بعد الأزمة بين تل أبيب وموسكو بعد إسقاط إسرائيل بالخطأ طائرة روسية قرب سواحل سوريا، كشف الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية اللواء إيغور كوناشينكوف تفاصيل التفاهمات الروسية – الأميركية. وقال إن تم «انسحاب جميع القوات الموالية لإيران وأسلحتها الثقيلة من مرتفعات الجولان إلى مسافة آمنة بالنسبة لإسرائيل وهي 140 كيلومتراً شرق سوريا». كما أضاف أنه انسحب من هذه المنطقة 1050 عسكرياً و24 راجمة صواريخ ومنظومة صاروخية تكتيكية تعبوية، وكذلك 145 وحدة من أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية الأخرى. كما بددت قيادة مجموعة القوات الروسية في سوريا بناءً على طلب إسرائيل مراراً مخاوف الجانب الإسرائيلي بشأن النقل المحتمل لطرف ثالث لما يسمى بنماذج «المنتوجات العسكرية الحساسة» التي سلمتها روسيا إلى سوريا. كما سيرت «القوات الدولية لفك الاشتباك» (اندوف) دورية في 2 أغسطس (آب) لأول منذ عام 2012 برفقة الضباط الروس الذين وصلوا إلى خط وقف إطلاق النار المتفق عليه منذ عام 1974، في دلالة إلى عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 2011.
ربما تكون إيران قد أقدمت على سحب الميليشيات غير السورية من البلاد، غير أنها لم تتوقف قط عن السعي وراء ترسيخ تواجدها وتعزيز قواتها بغير وسيلة أخرى، لا سيما من خلال تجنيد المزيد من الميليشيات السورية في المناطق الريفية المتاخمة لمدن درعا، والسويداء، والقنيطرة؛ وذلك بهدف مواصلة ممارسة الضغوط على إسرائيل. كما حاول الجانب الإيراني تعزيز تواجده ونفوذه في سوريا عن طريق دعم الفرقة الرابعة المدرعة في الجيش السوري. وبدت تلك الفرضية مؤكدة وواضحة، سيما بعد عودة الفرقة الرابعة المدرعة إلى الظهور على مسرح الأحداث في أعقاب تأسيس «الفيلق الخامس» الموالي لروسيا في الجيش السوري.
ودخلت روسيا وإيران في مواجهة تتسم بالهدوء الحذر بشأن المناطق الجنوبية في سوريا، تلك المواجهة التي تجري على أرض الواقع بالوكالة ما بين الفرقة الرابعة المدرعة الموالية لإيران لقاء «الفيلق الخامس» الموالي لروسيا. ولقد تجلت إشارات ذلك الصراع عبر المحاولات المتكررة من كلا الجانبين في بسط السيطرة الكاملة على محافظة درعا. ولقد سعت الفرقة الرابعة المدرعة إلى تجنيد المقاتلين – لا سيما من عناصر قوى المعارضة السابقة – من خلال الاستمالة بالرواتب الشهرية السخية، وغير ذلك من الامتيازات الأخرى التي تشتمل على الحماية والبقاء في درعا بدلاً من إعادة نشرهم في إدلب أو في أواسط سوريا.
ووفقاً لبعض النشطاء والمسؤولين المحليين في محافظة درعا، لا تزال اليد العليا في الصراع هناك لروسيا ولـ«الفيلق الخامس» الموالي لموسكو. هذا، وحسب مسؤول معارض، يخطط «الفيلق الخامس» الموالي لروسيا راهناً لرفع قوته البشرية من الجنود إلى 20 ألف مقاتل. ويختار الكثير من العناصر حالياً الانضمام إلى «الفيلق الخامس» بدلاً من الالتحاق بالجيش السوري أو «الفرقة الرابعة»، أو التحول إلى هاربين من الخدمة. وأشرف أحمد العودة، قائد «الفيلق الخامس» بنفسه على حفل تخرج الدفعة الجديدة والذي حضره عدد من الضباط الروس وهتف فيه مئات المقاتلين بهتافات مناهضة للرئيس السوري، مثل «عاشت سوريا»، و«يسقط بشار الأسد». وكان لافتاً، أن الأيام الأخيرة شهدت تعرض «الفيلق» لمحاولات اغتيالات في معقله، بصرى الشام.

الاستجابة الإسرائيلية

في أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي، ذكرت دمشق و«المرصد السوري لحقوق الإنسان» قيام إسرائيل بشن غارات جوية على المناطق الجنوبية الغربية من سوريا. واستهدفت تلك الغارات أربع محافظات، هي: دير الزور، وحمص، وحماة، والسويداء. وأفادت وكالة الأنباء العربية السورية الرسمية (سانا)، «تم استهداف إحدى النقاط العسكرية بالقرب من صلخد في جنوب السويداء». ثم عاودت إسرائيل شن الغارات الجوية في أواخر أغسطس وفي سبتمبر من العام الحالي، في إشارة واضحة إلى اعتقاد إسرائيل بأن روسيا قد أخفقت في إبعاد القوات الموالية لإيران عن مناطق غرب سوريا المتاخمة لحدودها.
وكانت إسرائيل قد شنّت مئات الغارات الجوية خلال السنوات الأخيرة، غير أن الغارات المشار إليها آنفاً كانت هي الأولى من نوعها التي تستهدف المناطق الريفية في محافظة السويداء بالقرب من الحدود الأردنية. الأمر الذي يشير إلى استمرار التواجد العسكري الإيراني في المناطق الجنوبية من سوريا. وكانت إسرائيل قد استهدفت بغاراتها الجوية محطة للرادار في تل الصحن في ريف محافظة السويداء في أواخر شهر يونيو الماضي، وفقاً لما أفادت به شبكة «السويداء 24» الإخبارية؛ الأمر الذي أثار التكهنات بأن إيران تحاول الاستيلاء على هذه القمة على وجه التحديد من أجل تركيب أجهزة للمراقبة والتنصت في أعقاب سيطرة روسيا على النقطة الاستراتيجية في تل الحارة في محافظة درعا ضمن التفاهمات الأميركية والروسية سالفة الذكر.
وكانت إيران تسعى منذ فترة طويلة إلى زرع خلاياها في مرتفعات الجولان، جنباً إلى جنب مع سيطرة عناصر «حزب الله» على بلدة الحضر في ريف محافظة القنيطرة. ولقد استهدفت إسرائيل الخلايا الموالية لإيران هناك مرات عدة بعملياتها العسكرية، بما في ذلك اغتيال جهاد مغنية، وهو نجل القيادي في «حزب الله» عماد مغنية، ذلك أثناء محاولة تواجده في مرتفعات الجولان في بداية 2015
كما قامت القوات الجوية الإسرائيلية بتنفيذ غارات جوية أخرى عدة على خلية موالية لإيران في ريف القنيطرة في مطلع شهر أغسطس، تلك التي أعقبها قصف لنقطة اتصال تابعة للجيش السوري في منطقة «فك الاشتباك». وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو قد حذر من رد قوي وشديد في حالة العمليات الانتقامية بالتزامن مع التدريبات العسكرية التي يجريها الجيش الإسرائيلي في الأجزاء المحتلة من الجولان. ولقد جاء ذلك التصريح في أعقاب زيارة نادرة قام بها الجنرال مارك مايلي، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، إلى تل أبيب بهدف دراسة التنسيق العسكري ضد إيران، ولا سيما فيما يتعلق بالوجود الإيراني في سوريا. وجاءت تلك الزيارة رفيعة المستوى بمثابة رسالة واضحة إلى الجانب الإيراني و«حزب الله» بالتنسيق العسكري المكثف بين الولايات المتحدة الأميركية والجيش الإسرائيلي. غير أن انفجار بيروت الأخير قد أسفر عن تعديل تلك الخطط عن صورتها الأولى.

دروس صفقة جنوب سوريا

تختلف أهداف كل من أميركا، والأردن، وقوى المعارضة السورية، من تلك الصفقة. إذ إن الحكومة الأردنية لاتزال تعمل على تأمين الحدود الشمالية سيما مع استمرار عمليات التهريب عبر الحدود السورية، في حين لم تبذل الحكومة السورية أي جهود تذكر لتوفير الظروف المواتية لعودة النازحين أو اللاجئين السوريين من الأردن. ولا يزال طريق درعا - نصيب السريعة بعيداً من الأمان المطلق؛ الأمر الذي يجعل من الصعب للغاية استئناف نقل البضائع من لبنان إلى الخليج مروراً بالأردن.
ولم يسفر تخلي أميركا عن دعم «الجيش الحر» عن أي مكاسب معتبرة - سواء بالنسبة إلى قوى المعارضة، التي كانت تأمل في الاستحواذ على درجة معينة من الحكم الذاتي والسلطة المحلية، أو بالنسبة إلى الأردن، الذي كان يأمل في وجود منطقة آمنة يمكن للاجئين العودة بسهولة إليها. وحتى أولئك الذي تخيروا إعلان الولاء للحكومة السورية المركزية لم يربحوا الكثير من المكاسب. إذ أعرب عدد من المرشحين للبرلمان عن شكاويهم من استشراء الفساد الانتخابي، ووجهوا الاتهامات إلى دمشق بتسجيل أسماء الناخبين من المعتقلين أو المتوفين بغية ضمان فوز المرشحين الموالين بالكامل في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، على حساب المرشحين المستقلين في البلاد.
ربما لم تكن الولايات المتحدة الأميركية جادة على الإطلاق في دعمها لـ«الجيش الحر»، لا سيما في أعقاب صعود «داعش» ثم «جبهة النصرة»، غير أنها قامت بالتخلي عن دعمه من دون الحصول على أي شيء في المقابل من روسيا.
ومن الراجح أن الأطراف الأخرى لم تكن منيعة للغاية في مواجهة مثل تلك الخسائر. إذ يعكس الاستهداف الجوي الإسرائيلي للتواجد العسكري الإيراني داخل سوريا مدى السوء الذي تتحمله مثل تلك التفاهمات. فضلاً عن عدم وجود جهة تنظيمية – أو ربما رقابية – تشرف على مجريات تنفيذ الاتفاق يعكس في حد ذاته نقطة ضعف عميقة من حيث إن تنفيذه صار يتعلق بصفة شبه كاملة على رغبة روسيا في متابعة الأمر من عدمه، من دون مساءلة تُذكر من جانب الولايات المتحدة الأميركية أو أي أطراف ثالثة ذات صلة بالأمر، مثل منظمة الأمم المتحدة.
لقد أعربت السلطات السورية عن أن استراتيجيتها للبقاء والاستمرار تتمحور حول المحافظة على حالة دقيقة للغاية من التوازن ما بين حليفين في موسكو وطهران، من دون تفضيل أي جانب منهما على الآخر، خشية من أن الاعتماد على طرف دون طرف قد يسفر عن تعريض دمشق لغضب الطرف الآخر، وللعداوات الإقليمية، وربما العالمية. أما بشأن حالة الصراع المستمرة ما بين إيران وروسيا في الجنوب السوري فهي أبلغ دليل على الاستراتيجية السورية المعتمدة والتي حولت المناطق الخاضعة لسيطرة النظام الحاكم – بما في ذلك جنوب البلاد – إلى مناطق نزاع مشتعل جديدة.
ولا بد من أخذ سيناريو الوضع الراهن في الجنوب السوري في الحسبان في حال إجراء أي محادثات بين الولايات المتحدة وروسيا في المستقبل فيما يتصل بمنطقة شمال شرقي الفرات التي تتواجد فيها «قوات سوريا الديمقراطية»؛ إذ لا يزال الجانب الروسي يطلق البالونات لاختبار العزم الأميركي في تلك المنطقة، وصار يهدد بصورة فعلية اتفاق «منع الصدام» الذي جرى التوقيع عليه في منتصف عام 2017، ثم تجدد العمل به في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وذلك في ظل انسحاب الولايات المتحدة التدريجي من أجزاء كانت تسيطر عليها على الحدود السورية - التركية.
ولا تزال «صفقة الجنوب» تعتبر من العلامات الواضحة إلى استعداد الجانب الروسي لاستغلال أي اتفاق محتمل لتعزيز قوات الحكومة واستعادة السيطرة الكاملة على تراب البلاد مع سحق قوى المعارضة تماماً، سيما في غياب كامل لآليات المساءلة من أي درجة، ما يعني أن الوضع في الجنوب قد يكون نموذجاً لـ«سوريا المستقبل».



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».