المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

هل ترقى فوق الانقسامات الحزبية أم تنجر إلى مستنقع الوحول السياسية؟

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة
TT

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

الجمعة 18 سبتمبر (أيلول) 2020، عند الساعة السابعة والنصف مساء (بتوقيت واشنطن)، تردد صدى طنين الهواتف على وقع الأخبار العاجلة. وسقط النبأ كالصاعقة على رؤوس الأميركيين: روث بايدر غينزبرغ قاضية المحكمة العليا المحبوبة فارقت الحياة.
قد يتساءل القارئ عن سبب ذهول الكثيرين لدى سماع الخبر. وقد يتعجب من رد فعلهم، فغينزبرغ لم تكن صغيرة في السن، بل تخطت السابعة والثمانين من العمر، ثم إنها صارعت مرض السرطان بشراسة خمس مرات وتغلبت عليه، إلا أنّ شراستها هذه وإصرارها على الحياة، وتغلبها المتكرر على المرض العضال على مدى السنين صورّها بمظهر المرأة الخالدة التي لا تنهزم.
أضف إلى ذلك أن غينزبرغ كانت ليبرالية حتى العظام، لدرجة أن البعض رفض تصديق أنها استسلمت للموت قبل الانتخابات الرئاسية بستة أسابيع، وتركت مقعدها الذي احتلته منذ عام 1993 شاغرا لينقضّ عليه الجمهوريون، تمهيداً لتعيين قاضٍ محافظ يغيّر التوازن داخل المحكمة.

حقاً هذا ما جرى؛ فبمجرد الإعلان عن وفاة روث بايدر غينزبرغ، بدأت أسماء المرشحين لتولي منصبها بالتوارد، مولّدة تجاذبات سياسية حادة في موسم انتخابي محتدم لم يكن ينقصه سوى ملف شائك ومعقّد كملف المحكمة العليا، ليصل إلى ذروة الحزبية السياسية.
للعلم، منصب قاضٍ في المحكمة العليا يُعدّ من أهم المناصب في الولايات المتحدة، بل لعلّه هو أهم منصب في البلاد، إذ يشغله صاحبه لمدى الحياة أو حتى تقاعده. ولذا يتهافت الجمهوريون والديمقراطيون عليه بمجرد شغوره. وبما أن المحكمة العليا هي السلطة القضائية الأعلى في البلاد، فإن كلمتها هي الكلمة الأخيرة في كل القرارات القضائية المثيرة للجدل. كما أنها منفصلة كلياً عن السلطتين التنفيذية الممثلة بالبيت الأبيض، والتشريعية الممثلة بالكونغرس، ارتكازاً على مبدأ فصل السلطات في الولايات المتحدة.
المحكمة العليا تعنى في النظر بقضايا مصيرية متعلقة بمستقبل الأميركيين وغيرهم، من ملف الرعاية الصحية إلى حمل السلاح والإجهاض وحقوق مثليي الجنس والهجرة وحظر السفر. ولهذا، حرص الرؤساء الأميركيون على تعيين قضاة يتقاربون معهم آيديولوجياً للدفع باتجاه هذه الملفات.

- عمق الانقسام
ثم إنه لطالما أثار تعيين قاض للمحكمة الجدل بين الرئيس ومجلس الشيوخ المعني بالمصادقة عليه، خصوصاً إذا كان البيت الأبيض ومجلس الشيوخ بيدي حزبين مختلفين. غير أن هذا الجدل تفاقم بمرور السنين، ليغدو دليلاً قاطعاً على عمق الانقسامات الحزبية العميقة التي تشهدها البلاد، ووصل إلى ذروته في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما؛ إذ طرح هذا الأخير اسم مرشحه ميريك غارلاند خلفاً للقاضي المحافظ الراحل أنتوني سكاليا في عام 2016، إلا أن مجلس الشيوخ (بغالبيته الجمهورية حينها) رفض النظر في المصادقة عليه. وكانت حجة الجمهوريين أن الترشيح جاء في «سنة انتخابية»، وأن الرئيس المقبل هو الذي يجب أن يعيّن بديلاً؛ كون التعيين هو لمدى الحياة. ولكن السبب الفعلي كان تخوف الجمهوريين من انتقال مقعد سكاليا المحافظ إلى أيدي الليبراليين الديمقراطيين وترجيح كفة المحكمة لصالح الليبراليين.
في ذلك الحين، تأججت الصراعات الحزبية بشكل كبير، واتهم الديمقراطيون الجمهوريين بخلق سابقة لن يتمكنوا من قلبها في مجلس الشيوخ، إلا أن مجريات الأحداث بعد وفاة غينزبرغ أثبتت العكس، فالجمهوريون هم أنفسهم قلبوا موقفهم وأصرّوا على النظر في المصادقة على مرشح ترمب، في خضم الموسم الانتخابي. وهنا الرسالة واضحة: الحزب الذي يتمتع بأغلبية الأصوات في مجلس الشيوخ هو الذي يحدد قواعد اللعبة.

- إلغاء «قاعدة الستين»
في الحقيقة، الأمور ما كانت بهذا الشكل قبل عام 2013، عندما كانت هذه القواعد مختلفة، وأعطت المزيد من الصلاحيات لحزب الأقلية في المجلس، إذ تطلّبت مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينات الرئيس حينها 60 صوتاً (من أصل 100)، ولكن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، قررّ زعيم الغالبية الديمقراطية (يومذاك) السيناتور هاري ريد إلغاء «قاعدة الستين» بحجة أن الجمهوريين عطّلوا الكثير من تعيينات أوباما، فاستعمل ما بات معروفاً بـ«الخيار النووي»، نظراً لخطورته الفائقة على موازين القوى في الكونغرس. وبالتالي، تخطى المعارضة الجمهورية، عبر فرض قاعدة الغالبية المطلقة البسيطة للمصادقة على كل تعيينات الرئيس، باستثناء المحكمة العليا.
ما يحصل اليوم، أن السحر انقلب على الساحر، وما فعله ريد عام 2013، مهّد الطريق أمام زعيم الغالبية الجمهوري الحالي السيناتور ميتش ماكونيل، حليف الرئيس دونالد ترمب، لفرض القاعدة نفسها على تعيينات المحكمة العليا عام 2017 للتغلب على المعارضة الديمقراطية لمرشح الرئيس ترمب لمنصب قاضٍ في المحكمة العليا نيل غورستش. وبالفعل، تمكَّن مجلس الشيوخ من المصادقة على المرشحين المحافظين اللذين اختارهما ترمب، وهما غورستش، ثم تيد كافاناه، بفضل هذا الإجراء. ولم تنجح معارضة الديمقراطيين الشرسة لكافاناه (على وجه التحديد) بسبب اتهامات له بالتحرش الجنسي في وقف عملية المصادقة... كذلك لن تنجح هذا العام لوقف المصادقة على تعيين قاضٍ محافظ يميني يرث مقعد غينزبرغ.
البعض يقول إن ترمب كان محظوظاً في أنه تمكّن من تعيين 3 قضاة محافظين يمينيين في المحكمة العليا إبان عهده، وبالتالي، ترجيح الكفة لصالح المحافظين في المحكمة المؤلفة من 9 قضاة. إلا أن الواقع، هو أن بدايات التحول في توازن المحكمة لصالح الجمهوريين كانت في عام 2016 مع وفاة المحافظ سكاليا ومنع الجمهوريين تعيين بديل ليبرالي له؛ فقبل ذلك كانت المحكمة متوازنة آيديولوجياً، وكما ذكرنا سابقاً، رفض الجمهوريون التصويت على مرشح أوباما للحفاظ على مقعد سكاليا المحافظ. وأبقوا مقعده شاغراً لمدة سنة تقريباً إلى أن فاز ترمب بالرئاسة. وعلى الأثر، عُيّن المحافظ غورستش للمنصب بعدما صادق عليه المجلس بعد تغيير قواعد التصويت. ومع أن تعيين غورستش، بحد ذاته، لم يغير من توازن المحكمة في حينه، فإن التغيير حصل عام 2018، عندما تقاعد القاضي المعتدل أنتوني كينيدي، الذي كان صوته الصوت المتأرجح في المحكمة. وفوراً عيّن ترمب المحافظ كافاناه خلفاً لكينيدي، فمالت كفة المحكمة نحو المحافظين.

- أهمية سياسية كبرى
لعلّ خير دليل على أهمية تعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا بالنسبة للجمهوريين هو دعم السيناتور الجمهوري المحافظ ميت رومني لترمب في تعيين خلفاً لغينزبرغ قبل الانتخابات.
رومني (المرشح الرئاسي السابق) معروف بمواقفه المعارضة والمنتقدة للرئيس الأميركي، كان الجمهوري الوحيد الذي صوّت لصالح عزل ترمب في مجلس الشيوخ، بيد أن موقفه الداعم لتعيين قاضٍ محافظ يأتي انعكاساً واضح لأهمية هذا الملف بالنسبة للمحافظين؛ فسيطرة المحافظين اليمينيين على المحكمة العليا قد تساعد الجمهوريين على قلب قرارات مهمة، أبرزها القضية المعروفة بـ«رو ضد ويد» التي تحمي حق المرأة في الإجهاض، إضافة إلى قضية «أوبرغيفل ضد هودجز» التي تعترف بحق مثليي الجنس في الزواج. كذلك يأمل الجمهوريون في إلغاء مشروع الرعاية الصحية المعروف بـ«أوباما كير»، ورفع الحماية عن المهاجرين غير الشرعيين.
في مواجهة هذه التحديات، واعتراف الديمقراطيين ضمنياً بأنهم لن يتمكنوا من وقف المدّ المحافظ على المحكمة، ينظر البعض منهم إلى إحياء ماضي المحكمة، والنظر بزيادة عدد القضاة التسعة الموجودين فيها. ذلك أن المحكمة لم تتألف من 9 قضاة منذ تأسيسها عام 1789؛ إذ انعقدت لأول مرة بحضور 6 قضاة فقط، ثم تقلب هذا العدد بين 5 و10 قضاة قبل أن تحديده نهائياً بـ9 في عام 1869.
هذا، ورد أبرز طرح ديمقراطي على لسان المرشح السابق بيت بوتيدجيج، الذي دعا إلى زيادة عدد القضاة ليصبح 15، بهدف رفع التسييس عن المحكمة. وحسب اقتراحه، فإن 5 من القضاة يميلون إلى الديمقراطيين، و5 إلى الجمهوريين، بينما يُعيّن 5 آخرون من دون أي انتماءات سياسية. وبالفعل، بعد وفاة بايدر غينزبرغ، انضم المزيد من الديمقراطيين إلى بوتيدجيج... منهم من دعا إلى إضافة قاضيين فقط، ومنهم من دعا إلى وضع حد زمني لخدمة القضاة بدلاً من أن تكون لدى الحياة. إلا أن هذه الطروحات ما زالت في مراحلها الأولية، وهي تواجه تحديات جمة، أبرزها أنها تتطلب فوز الديمقراطيين بالغالبية في الكونغرس الذي يجب أن يقر أي تغيير في المحكمة، بجانب انتزاعهم مقعد الرئاسة من الجمهوريين.
وإذا كان التاريخ شاهداً، فإن مساعيهم هذه لن تبصر النور. إذ سبق للرئيس الأميركي السابق فرانكلن روزفلت أن حاول زيادة مقاعد المحكمة العليا إلى 15 مقعداً عام 1937، لكنه جُوبِه بمعارضة شرسة في مجلس الشيوخ الذي وصف هذه الخطوة بـ«انتهاك صارخ وغير مسبوق للسلطة القضائية»، وصوّت مجلس الشيوخ ضد طرح روزفلت حينها بغالبية 70 صوتاً ضد طرح الرئيس.
أيضاً، تصطدم المحاولات الديمقراطية بمعارضة الأميركيين؛ إذ أظهر استطلاع للرأي في عام 2019 لجامعة ماركيت (وهي جامعة كاثوليكية مرموقة في ولاية ويسكونسن) أن 57 في المائة من الأميركيين يعارضون زيادة عدد قضاة المحكمة العليا، ومن غير الواضح حتى الساعة إذا كانت آراء هؤلاء تغيرت بعد وفاة بايدر غينزبرغ.

- نبذة تاريخية عن المحكمة العليا
أُسِّست «المحكمة العليا للولايات المتحدة» بموجب البند الثالث من الدستور الأميركي يوم 24 سبتمبر (أيلول) 1789. وكانت المحكمة حينذاك مؤلفة من 6 قضاة، بيد أن الكونغرس قرر عام 1869 رفع العدد إلى 9 قضاة، يترأسهم «كبير القضاة»، ويعينهم الرئيس الأميركي، ويصادق على التعيين مجلس الشيوخ. وبما أن هؤلاء يخدمون في منصبهم لمدى الحياة، فلا يمكن عزلهم من المنصب إلا بموجب إدانة من الكونغرس الأميركي بتهمة الفساد أو انتهاك السلطة. وهذا أمر لم يحصل قطّ في التاريخ الأميركي. ويشرف كل قاضٍ من القضاة التسعة على دائرة أو أكثر من الدوائر القضائية الفيدرالية الاثنتي عشرة في الولايات المتحدة.
انعقدت المحكمة العليا لأول مرة يوم 2 فبراير (شباط) 1790 في نيويورك. وانتقلت بعدها إلى مدينة فيلادلفيا، ثم إلى العاصمة الأميركية واشنطن.
لم تحصل المحكمة على مبناها الخاص المعروف في العاصمة واشنطن حتى عام 1935، أي في الذكرى الـ146 من تأسيسها. وحُفر على المنصة الغربية للمبنى شعار «عدالة متوازية تحت القانون»، وعلى المنصة الشرقية «العدالة: حامية الحرية». ولقد خدم في تاريخ المحكمة 112 قاضياً، 4 منهم فقط من النساء، وواحدة منهن فقط من أصول لاتينية هي سونيا سوتومايور التي عيّنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2009.
هذا ويجلس القضاة التسعة على منصة المحكمة بحسب تراتبية خدمتهم؛ فيحتلّ «كبير القضاة» مقعد المنتصف، ويتوزع إلى يمينه وشماله القضاة كل بحسب تاريخ خدمته، فيجلس الأقدم منهم إلى يمينه، والذي يتبعه إلى يساره، وهكذا دواليك.
< يبلغ مرتب «كبير القضاة» قرابة 267 ألف دولار سنوياً فيما يصل مرتب كل من القضاة الآخرين إلى نحو 255 ألف دولار في العام.
< ويليام هوارد تافت هو القاضي الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي خدم في منصبي «كبير القضاة» ورئيس الجمهورية. وقد عُين في المحكمة بعد سنوات من انتهاء ولايته الرئاسية.

- أبرز أحكام المحكمة العليا
< هاواي ضد ترمب، عام 2018 (5 مع و4 ضد)
لعلّ القرار الأهم، الذي أثر بشكل مباشر على العالم العربي هو الحكم القاضي بدعم حظر السفر الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
ففي عام 2018، حكمت المحكمة لصالح الإدارة الأميركية في القضية المعروفة باسم «هاواي ضد ترمب». إذ رفعت ولاية هاواي دعوى بحق إدارة ترمب بسبب قرار حظر السفر بتهمة انتهاك الدستور، والانحياز ضد المسلمين. غير أن المحكمة حكمت لصالح ترمب بغالبية 5 مقابل 4 بأن للرئيس الأميركي الصلاحيات لحماية حدود البلاد، وأن تصريحاته السابقة المعارضة للمسلمين لا تجرّده من صلاحياته الدستورية.
< رو ضد ويد، 1973 (7 مع و2 ضد)
أقرت المحكمة حق المرأة الدستوري بالإجهاض خلال الأشهر الستة الأولى من الحمْل.
< الولايات المتحدة ضد نيكسون، 1974 (8 مع، وصفر ضد)
هو القرار الذي أنهى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، إذ حكمت المحكمة بأغلبية 8 أصوات لصالح تسليم نيكسون لأشرطة «فضيحة ووترغيت»، وقالت إن الرئيس الأميركي لا يستطيع استعمال صلاحياته التنفيذية لإخفاء أدلة في محاكمات جنائية. يومذاك لم يُدلِ القاضي ويليام رينكويست بصوته بسبب دوره السابق كنائب لوزير العدل في إدارة نيكسون.
< بوش ضد غور، 2000 (5 مع، و4 ضد)
حسمت المحكمة العليا الخلاف بين الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن ومنافسه الديمقراطي آل غور في الانتخابات الرئاسية؛ فحكمت لصالح بوش ضد إعادة احتساب الأصوات في ولاية فلوريدا.
< مقاطعة كولومبيا ضد هيلر، 2008 (5 مع، و4 ضد)
أعطت المحكمة للأميركيين حق امتلاك السلاح في منازلهم للدفاع عن النفس.
< اتحاد الشركات المستقلة ضد سيبيليوس، 2012 (5 مع، و4 ضد)
حمت المحكمة قرار إدارة أوباما القاضي بأن على كل الأميركيين أن يحصلوا على تأمين صحي.
< أوبرغيفل ضد هودجز، 2015 (5 مع، و4 ضد)
شرّعت المحكمة زواج مثليي الجنس في كل الولايات الأميركية الخمسين.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.