المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

هل ترقى فوق الانقسامات الحزبية أم تنجر إلى مستنقع الوحول السياسية؟

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة
TT

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

الجمعة 18 سبتمبر (أيلول) 2020، عند الساعة السابعة والنصف مساء (بتوقيت واشنطن)، تردد صدى طنين الهواتف على وقع الأخبار العاجلة. وسقط النبأ كالصاعقة على رؤوس الأميركيين: روث بايدر غينزبرغ قاضية المحكمة العليا المحبوبة فارقت الحياة.
قد يتساءل القارئ عن سبب ذهول الكثيرين لدى سماع الخبر. وقد يتعجب من رد فعلهم، فغينزبرغ لم تكن صغيرة في السن، بل تخطت السابعة والثمانين من العمر، ثم إنها صارعت مرض السرطان بشراسة خمس مرات وتغلبت عليه، إلا أنّ شراستها هذه وإصرارها على الحياة، وتغلبها المتكرر على المرض العضال على مدى السنين صورّها بمظهر المرأة الخالدة التي لا تنهزم.
أضف إلى ذلك أن غينزبرغ كانت ليبرالية حتى العظام، لدرجة أن البعض رفض تصديق أنها استسلمت للموت قبل الانتخابات الرئاسية بستة أسابيع، وتركت مقعدها الذي احتلته منذ عام 1993 شاغرا لينقضّ عليه الجمهوريون، تمهيداً لتعيين قاضٍ محافظ يغيّر التوازن داخل المحكمة.

حقاً هذا ما جرى؛ فبمجرد الإعلان عن وفاة روث بايدر غينزبرغ، بدأت أسماء المرشحين لتولي منصبها بالتوارد، مولّدة تجاذبات سياسية حادة في موسم انتخابي محتدم لم يكن ينقصه سوى ملف شائك ومعقّد كملف المحكمة العليا، ليصل إلى ذروة الحزبية السياسية.
للعلم، منصب قاضٍ في المحكمة العليا يُعدّ من أهم المناصب في الولايات المتحدة، بل لعلّه هو أهم منصب في البلاد، إذ يشغله صاحبه لمدى الحياة أو حتى تقاعده. ولذا يتهافت الجمهوريون والديمقراطيون عليه بمجرد شغوره. وبما أن المحكمة العليا هي السلطة القضائية الأعلى في البلاد، فإن كلمتها هي الكلمة الأخيرة في كل القرارات القضائية المثيرة للجدل. كما أنها منفصلة كلياً عن السلطتين التنفيذية الممثلة بالبيت الأبيض، والتشريعية الممثلة بالكونغرس، ارتكازاً على مبدأ فصل السلطات في الولايات المتحدة.
المحكمة العليا تعنى في النظر بقضايا مصيرية متعلقة بمستقبل الأميركيين وغيرهم، من ملف الرعاية الصحية إلى حمل السلاح والإجهاض وحقوق مثليي الجنس والهجرة وحظر السفر. ولهذا، حرص الرؤساء الأميركيون على تعيين قضاة يتقاربون معهم آيديولوجياً للدفع باتجاه هذه الملفات.

- عمق الانقسام
ثم إنه لطالما أثار تعيين قاض للمحكمة الجدل بين الرئيس ومجلس الشيوخ المعني بالمصادقة عليه، خصوصاً إذا كان البيت الأبيض ومجلس الشيوخ بيدي حزبين مختلفين. غير أن هذا الجدل تفاقم بمرور السنين، ليغدو دليلاً قاطعاً على عمق الانقسامات الحزبية العميقة التي تشهدها البلاد، ووصل إلى ذروته في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما؛ إذ طرح هذا الأخير اسم مرشحه ميريك غارلاند خلفاً للقاضي المحافظ الراحل أنتوني سكاليا في عام 2016، إلا أن مجلس الشيوخ (بغالبيته الجمهورية حينها) رفض النظر في المصادقة عليه. وكانت حجة الجمهوريين أن الترشيح جاء في «سنة انتخابية»، وأن الرئيس المقبل هو الذي يجب أن يعيّن بديلاً؛ كون التعيين هو لمدى الحياة. ولكن السبب الفعلي كان تخوف الجمهوريين من انتقال مقعد سكاليا المحافظ إلى أيدي الليبراليين الديمقراطيين وترجيح كفة المحكمة لصالح الليبراليين.
في ذلك الحين، تأججت الصراعات الحزبية بشكل كبير، واتهم الديمقراطيون الجمهوريين بخلق سابقة لن يتمكنوا من قلبها في مجلس الشيوخ، إلا أن مجريات الأحداث بعد وفاة غينزبرغ أثبتت العكس، فالجمهوريون هم أنفسهم قلبوا موقفهم وأصرّوا على النظر في المصادقة على مرشح ترمب، في خضم الموسم الانتخابي. وهنا الرسالة واضحة: الحزب الذي يتمتع بأغلبية الأصوات في مجلس الشيوخ هو الذي يحدد قواعد اللعبة.

- إلغاء «قاعدة الستين»
في الحقيقة، الأمور ما كانت بهذا الشكل قبل عام 2013، عندما كانت هذه القواعد مختلفة، وأعطت المزيد من الصلاحيات لحزب الأقلية في المجلس، إذ تطلّبت مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينات الرئيس حينها 60 صوتاً (من أصل 100)، ولكن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، قررّ زعيم الغالبية الديمقراطية (يومذاك) السيناتور هاري ريد إلغاء «قاعدة الستين» بحجة أن الجمهوريين عطّلوا الكثير من تعيينات أوباما، فاستعمل ما بات معروفاً بـ«الخيار النووي»، نظراً لخطورته الفائقة على موازين القوى في الكونغرس. وبالتالي، تخطى المعارضة الجمهورية، عبر فرض قاعدة الغالبية المطلقة البسيطة للمصادقة على كل تعيينات الرئيس، باستثناء المحكمة العليا.
ما يحصل اليوم، أن السحر انقلب على الساحر، وما فعله ريد عام 2013، مهّد الطريق أمام زعيم الغالبية الجمهوري الحالي السيناتور ميتش ماكونيل، حليف الرئيس دونالد ترمب، لفرض القاعدة نفسها على تعيينات المحكمة العليا عام 2017 للتغلب على المعارضة الديمقراطية لمرشح الرئيس ترمب لمنصب قاضٍ في المحكمة العليا نيل غورستش. وبالفعل، تمكَّن مجلس الشيوخ من المصادقة على المرشحين المحافظين اللذين اختارهما ترمب، وهما غورستش، ثم تيد كافاناه، بفضل هذا الإجراء. ولم تنجح معارضة الديمقراطيين الشرسة لكافاناه (على وجه التحديد) بسبب اتهامات له بالتحرش الجنسي في وقف عملية المصادقة... كذلك لن تنجح هذا العام لوقف المصادقة على تعيين قاضٍ محافظ يميني يرث مقعد غينزبرغ.
البعض يقول إن ترمب كان محظوظاً في أنه تمكّن من تعيين 3 قضاة محافظين يمينيين في المحكمة العليا إبان عهده، وبالتالي، ترجيح الكفة لصالح المحافظين في المحكمة المؤلفة من 9 قضاة. إلا أن الواقع، هو أن بدايات التحول في توازن المحكمة لصالح الجمهوريين كانت في عام 2016 مع وفاة المحافظ سكاليا ومنع الجمهوريين تعيين بديل ليبرالي له؛ فقبل ذلك كانت المحكمة متوازنة آيديولوجياً، وكما ذكرنا سابقاً، رفض الجمهوريون التصويت على مرشح أوباما للحفاظ على مقعد سكاليا المحافظ. وأبقوا مقعده شاغراً لمدة سنة تقريباً إلى أن فاز ترمب بالرئاسة. وعلى الأثر، عُيّن المحافظ غورستش للمنصب بعدما صادق عليه المجلس بعد تغيير قواعد التصويت. ومع أن تعيين غورستش، بحد ذاته، لم يغير من توازن المحكمة في حينه، فإن التغيير حصل عام 2018، عندما تقاعد القاضي المعتدل أنتوني كينيدي، الذي كان صوته الصوت المتأرجح في المحكمة. وفوراً عيّن ترمب المحافظ كافاناه خلفاً لكينيدي، فمالت كفة المحكمة نحو المحافظين.

- أهمية سياسية كبرى
لعلّ خير دليل على أهمية تعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا بالنسبة للجمهوريين هو دعم السيناتور الجمهوري المحافظ ميت رومني لترمب في تعيين خلفاً لغينزبرغ قبل الانتخابات.
رومني (المرشح الرئاسي السابق) معروف بمواقفه المعارضة والمنتقدة للرئيس الأميركي، كان الجمهوري الوحيد الذي صوّت لصالح عزل ترمب في مجلس الشيوخ، بيد أن موقفه الداعم لتعيين قاضٍ محافظ يأتي انعكاساً واضح لأهمية هذا الملف بالنسبة للمحافظين؛ فسيطرة المحافظين اليمينيين على المحكمة العليا قد تساعد الجمهوريين على قلب قرارات مهمة، أبرزها القضية المعروفة بـ«رو ضد ويد» التي تحمي حق المرأة في الإجهاض، إضافة إلى قضية «أوبرغيفل ضد هودجز» التي تعترف بحق مثليي الجنس في الزواج. كذلك يأمل الجمهوريون في إلغاء مشروع الرعاية الصحية المعروف بـ«أوباما كير»، ورفع الحماية عن المهاجرين غير الشرعيين.
في مواجهة هذه التحديات، واعتراف الديمقراطيين ضمنياً بأنهم لن يتمكنوا من وقف المدّ المحافظ على المحكمة، ينظر البعض منهم إلى إحياء ماضي المحكمة، والنظر بزيادة عدد القضاة التسعة الموجودين فيها. ذلك أن المحكمة لم تتألف من 9 قضاة منذ تأسيسها عام 1789؛ إذ انعقدت لأول مرة بحضور 6 قضاة فقط، ثم تقلب هذا العدد بين 5 و10 قضاة قبل أن تحديده نهائياً بـ9 في عام 1869.
هذا، ورد أبرز طرح ديمقراطي على لسان المرشح السابق بيت بوتيدجيج، الذي دعا إلى زيادة عدد القضاة ليصبح 15، بهدف رفع التسييس عن المحكمة. وحسب اقتراحه، فإن 5 من القضاة يميلون إلى الديمقراطيين، و5 إلى الجمهوريين، بينما يُعيّن 5 آخرون من دون أي انتماءات سياسية. وبالفعل، بعد وفاة بايدر غينزبرغ، انضم المزيد من الديمقراطيين إلى بوتيدجيج... منهم من دعا إلى إضافة قاضيين فقط، ومنهم من دعا إلى وضع حد زمني لخدمة القضاة بدلاً من أن تكون لدى الحياة. إلا أن هذه الطروحات ما زالت في مراحلها الأولية، وهي تواجه تحديات جمة، أبرزها أنها تتطلب فوز الديمقراطيين بالغالبية في الكونغرس الذي يجب أن يقر أي تغيير في المحكمة، بجانب انتزاعهم مقعد الرئاسة من الجمهوريين.
وإذا كان التاريخ شاهداً، فإن مساعيهم هذه لن تبصر النور. إذ سبق للرئيس الأميركي السابق فرانكلن روزفلت أن حاول زيادة مقاعد المحكمة العليا إلى 15 مقعداً عام 1937، لكنه جُوبِه بمعارضة شرسة في مجلس الشيوخ الذي وصف هذه الخطوة بـ«انتهاك صارخ وغير مسبوق للسلطة القضائية»، وصوّت مجلس الشيوخ ضد طرح روزفلت حينها بغالبية 70 صوتاً ضد طرح الرئيس.
أيضاً، تصطدم المحاولات الديمقراطية بمعارضة الأميركيين؛ إذ أظهر استطلاع للرأي في عام 2019 لجامعة ماركيت (وهي جامعة كاثوليكية مرموقة في ولاية ويسكونسن) أن 57 في المائة من الأميركيين يعارضون زيادة عدد قضاة المحكمة العليا، ومن غير الواضح حتى الساعة إذا كانت آراء هؤلاء تغيرت بعد وفاة بايدر غينزبرغ.

- نبذة تاريخية عن المحكمة العليا
أُسِّست «المحكمة العليا للولايات المتحدة» بموجب البند الثالث من الدستور الأميركي يوم 24 سبتمبر (أيلول) 1789. وكانت المحكمة حينذاك مؤلفة من 6 قضاة، بيد أن الكونغرس قرر عام 1869 رفع العدد إلى 9 قضاة، يترأسهم «كبير القضاة»، ويعينهم الرئيس الأميركي، ويصادق على التعيين مجلس الشيوخ. وبما أن هؤلاء يخدمون في منصبهم لمدى الحياة، فلا يمكن عزلهم من المنصب إلا بموجب إدانة من الكونغرس الأميركي بتهمة الفساد أو انتهاك السلطة. وهذا أمر لم يحصل قطّ في التاريخ الأميركي. ويشرف كل قاضٍ من القضاة التسعة على دائرة أو أكثر من الدوائر القضائية الفيدرالية الاثنتي عشرة في الولايات المتحدة.
انعقدت المحكمة العليا لأول مرة يوم 2 فبراير (شباط) 1790 في نيويورك. وانتقلت بعدها إلى مدينة فيلادلفيا، ثم إلى العاصمة الأميركية واشنطن.
لم تحصل المحكمة على مبناها الخاص المعروف في العاصمة واشنطن حتى عام 1935، أي في الذكرى الـ146 من تأسيسها. وحُفر على المنصة الغربية للمبنى شعار «عدالة متوازية تحت القانون»، وعلى المنصة الشرقية «العدالة: حامية الحرية». ولقد خدم في تاريخ المحكمة 112 قاضياً، 4 منهم فقط من النساء، وواحدة منهن فقط من أصول لاتينية هي سونيا سوتومايور التي عيّنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2009.
هذا ويجلس القضاة التسعة على منصة المحكمة بحسب تراتبية خدمتهم؛ فيحتلّ «كبير القضاة» مقعد المنتصف، ويتوزع إلى يمينه وشماله القضاة كل بحسب تاريخ خدمته، فيجلس الأقدم منهم إلى يمينه، والذي يتبعه إلى يساره، وهكذا دواليك.
< يبلغ مرتب «كبير القضاة» قرابة 267 ألف دولار سنوياً فيما يصل مرتب كل من القضاة الآخرين إلى نحو 255 ألف دولار في العام.
< ويليام هوارد تافت هو القاضي الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي خدم في منصبي «كبير القضاة» ورئيس الجمهورية. وقد عُين في المحكمة بعد سنوات من انتهاء ولايته الرئاسية.

- أبرز أحكام المحكمة العليا
< هاواي ضد ترمب، عام 2018 (5 مع و4 ضد)
لعلّ القرار الأهم، الذي أثر بشكل مباشر على العالم العربي هو الحكم القاضي بدعم حظر السفر الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
ففي عام 2018، حكمت المحكمة لصالح الإدارة الأميركية في القضية المعروفة باسم «هاواي ضد ترمب». إذ رفعت ولاية هاواي دعوى بحق إدارة ترمب بسبب قرار حظر السفر بتهمة انتهاك الدستور، والانحياز ضد المسلمين. غير أن المحكمة حكمت لصالح ترمب بغالبية 5 مقابل 4 بأن للرئيس الأميركي الصلاحيات لحماية حدود البلاد، وأن تصريحاته السابقة المعارضة للمسلمين لا تجرّده من صلاحياته الدستورية.
< رو ضد ويد، 1973 (7 مع و2 ضد)
أقرت المحكمة حق المرأة الدستوري بالإجهاض خلال الأشهر الستة الأولى من الحمْل.
< الولايات المتحدة ضد نيكسون، 1974 (8 مع، وصفر ضد)
هو القرار الذي أنهى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، إذ حكمت المحكمة بأغلبية 8 أصوات لصالح تسليم نيكسون لأشرطة «فضيحة ووترغيت»، وقالت إن الرئيس الأميركي لا يستطيع استعمال صلاحياته التنفيذية لإخفاء أدلة في محاكمات جنائية. يومذاك لم يُدلِ القاضي ويليام رينكويست بصوته بسبب دوره السابق كنائب لوزير العدل في إدارة نيكسون.
< بوش ضد غور، 2000 (5 مع، و4 ضد)
حسمت المحكمة العليا الخلاف بين الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن ومنافسه الديمقراطي آل غور في الانتخابات الرئاسية؛ فحكمت لصالح بوش ضد إعادة احتساب الأصوات في ولاية فلوريدا.
< مقاطعة كولومبيا ضد هيلر، 2008 (5 مع، و4 ضد)
أعطت المحكمة للأميركيين حق امتلاك السلاح في منازلهم للدفاع عن النفس.
< اتحاد الشركات المستقلة ضد سيبيليوس، 2012 (5 مع، و4 ضد)
حمت المحكمة قرار إدارة أوباما القاضي بأن على كل الأميركيين أن يحصلوا على تأمين صحي.
< أوبرغيفل ضد هودجز، 2015 (5 مع، و4 ضد)
شرّعت المحكمة زواج مثليي الجنس في كل الولايات الأميركية الخمسين.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.