المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

هل ترقى فوق الانقسامات الحزبية أم تنجر إلى مستنقع الوحول السياسية؟

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة
TT

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

المحكمة العليا الأميركية في عين العاصفة

الجمعة 18 سبتمبر (أيلول) 2020، عند الساعة السابعة والنصف مساء (بتوقيت واشنطن)، تردد صدى طنين الهواتف على وقع الأخبار العاجلة. وسقط النبأ كالصاعقة على رؤوس الأميركيين: روث بايدر غينزبرغ قاضية المحكمة العليا المحبوبة فارقت الحياة.
قد يتساءل القارئ عن سبب ذهول الكثيرين لدى سماع الخبر. وقد يتعجب من رد فعلهم، فغينزبرغ لم تكن صغيرة في السن، بل تخطت السابعة والثمانين من العمر، ثم إنها صارعت مرض السرطان بشراسة خمس مرات وتغلبت عليه، إلا أنّ شراستها هذه وإصرارها على الحياة، وتغلبها المتكرر على المرض العضال على مدى السنين صورّها بمظهر المرأة الخالدة التي لا تنهزم.
أضف إلى ذلك أن غينزبرغ كانت ليبرالية حتى العظام، لدرجة أن البعض رفض تصديق أنها استسلمت للموت قبل الانتخابات الرئاسية بستة أسابيع، وتركت مقعدها الذي احتلته منذ عام 1993 شاغرا لينقضّ عليه الجمهوريون، تمهيداً لتعيين قاضٍ محافظ يغيّر التوازن داخل المحكمة.

حقاً هذا ما جرى؛ فبمجرد الإعلان عن وفاة روث بايدر غينزبرغ، بدأت أسماء المرشحين لتولي منصبها بالتوارد، مولّدة تجاذبات سياسية حادة في موسم انتخابي محتدم لم يكن ينقصه سوى ملف شائك ومعقّد كملف المحكمة العليا، ليصل إلى ذروة الحزبية السياسية.
للعلم، منصب قاضٍ في المحكمة العليا يُعدّ من أهم المناصب في الولايات المتحدة، بل لعلّه هو أهم منصب في البلاد، إذ يشغله صاحبه لمدى الحياة أو حتى تقاعده. ولذا يتهافت الجمهوريون والديمقراطيون عليه بمجرد شغوره. وبما أن المحكمة العليا هي السلطة القضائية الأعلى في البلاد، فإن كلمتها هي الكلمة الأخيرة في كل القرارات القضائية المثيرة للجدل. كما أنها منفصلة كلياً عن السلطتين التنفيذية الممثلة بالبيت الأبيض، والتشريعية الممثلة بالكونغرس، ارتكازاً على مبدأ فصل السلطات في الولايات المتحدة.
المحكمة العليا تعنى في النظر بقضايا مصيرية متعلقة بمستقبل الأميركيين وغيرهم، من ملف الرعاية الصحية إلى حمل السلاح والإجهاض وحقوق مثليي الجنس والهجرة وحظر السفر. ولهذا، حرص الرؤساء الأميركيون على تعيين قضاة يتقاربون معهم آيديولوجياً للدفع باتجاه هذه الملفات.

- عمق الانقسام
ثم إنه لطالما أثار تعيين قاض للمحكمة الجدل بين الرئيس ومجلس الشيوخ المعني بالمصادقة عليه، خصوصاً إذا كان البيت الأبيض ومجلس الشيوخ بيدي حزبين مختلفين. غير أن هذا الجدل تفاقم بمرور السنين، ليغدو دليلاً قاطعاً على عمق الانقسامات الحزبية العميقة التي تشهدها البلاد، ووصل إلى ذروته في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما؛ إذ طرح هذا الأخير اسم مرشحه ميريك غارلاند خلفاً للقاضي المحافظ الراحل أنتوني سكاليا في عام 2016، إلا أن مجلس الشيوخ (بغالبيته الجمهورية حينها) رفض النظر في المصادقة عليه. وكانت حجة الجمهوريين أن الترشيح جاء في «سنة انتخابية»، وأن الرئيس المقبل هو الذي يجب أن يعيّن بديلاً؛ كون التعيين هو لمدى الحياة. ولكن السبب الفعلي كان تخوف الجمهوريين من انتقال مقعد سكاليا المحافظ إلى أيدي الليبراليين الديمقراطيين وترجيح كفة المحكمة لصالح الليبراليين.
في ذلك الحين، تأججت الصراعات الحزبية بشكل كبير، واتهم الديمقراطيون الجمهوريين بخلق سابقة لن يتمكنوا من قلبها في مجلس الشيوخ، إلا أن مجريات الأحداث بعد وفاة غينزبرغ أثبتت العكس، فالجمهوريون هم أنفسهم قلبوا موقفهم وأصرّوا على النظر في المصادقة على مرشح ترمب، في خضم الموسم الانتخابي. وهنا الرسالة واضحة: الحزب الذي يتمتع بأغلبية الأصوات في مجلس الشيوخ هو الذي يحدد قواعد اللعبة.

- إلغاء «قاعدة الستين»
في الحقيقة، الأمور ما كانت بهذا الشكل قبل عام 2013، عندما كانت هذه القواعد مختلفة، وأعطت المزيد من الصلاحيات لحزب الأقلية في المجلس، إذ تطلّبت مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينات الرئيس حينها 60 صوتاً (من أصل 100)، ولكن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، قررّ زعيم الغالبية الديمقراطية (يومذاك) السيناتور هاري ريد إلغاء «قاعدة الستين» بحجة أن الجمهوريين عطّلوا الكثير من تعيينات أوباما، فاستعمل ما بات معروفاً بـ«الخيار النووي»، نظراً لخطورته الفائقة على موازين القوى في الكونغرس. وبالتالي، تخطى المعارضة الجمهورية، عبر فرض قاعدة الغالبية المطلقة البسيطة للمصادقة على كل تعيينات الرئيس، باستثناء المحكمة العليا.
ما يحصل اليوم، أن السحر انقلب على الساحر، وما فعله ريد عام 2013، مهّد الطريق أمام زعيم الغالبية الجمهوري الحالي السيناتور ميتش ماكونيل، حليف الرئيس دونالد ترمب، لفرض القاعدة نفسها على تعيينات المحكمة العليا عام 2017 للتغلب على المعارضة الديمقراطية لمرشح الرئيس ترمب لمنصب قاضٍ في المحكمة العليا نيل غورستش. وبالفعل، تمكَّن مجلس الشيوخ من المصادقة على المرشحين المحافظين اللذين اختارهما ترمب، وهما غورستش، ثم تيد كافاناه، بفضل هذا الإجراء. ولم تنجح معارضة الديمقراطيين الشرسة لكافاناه (على وجه التحديد) بسبب اتهامات له بالتحرش الجنسي في وقف عملية المصادقة... كذلك لن تنجح هذا العام لوقف المصادقة على تعيين قاضٍ محافظ يميني يرث مقعد غينزبرغ.
البعض يقول إن ترمب كان محظوظاً في أنه تمكّن من تعيين 3 قضاة محافظين يمينيين في المحكمة العليا إبان عهده، وبالتالي، ترجيح الكفة لصالح المحافظين في المحكمة المؤلفة من 9 قضاة. إلا أن الواقع، هو أن بدايات التحول في توازن المحكمة لصالح الجمهوريين كانت في عام 2016 مع وفاة المحافظ سكاليا ومنع الجمهوريين تعيين بديل ليبرالي له؛ فقبل ذلك كانت المحكمة متوازنة آيديولوجياً، وكما ذكرنا سابقاً، رفض الجمهوريون التصويت على مرشح أوباما للحفاظ على مقعد سكاليا المحافظ. وأبقوا مقعده شاغراً لمدة سنة تقريباً إلى أن فاز ترمب بالرئاسة. وعلى الأثر، عُيّن المحافظ غورستش للمنصب بعدما صادق عليه المجلس بعد تغيير قواعد التصويت. ومع أن تعيين غورستش، بحد ذاته، لم يغير من توازن المحكمة في حينه، فإن التغيير حصل عام 2018، عندما تقاعد القاضي المعتدل أنتوني كينيدي، الذي كان صوته الصوت المتأرجح في المحكمة. وفوراً عيّن ترمب المحافظ كافاناه خلفاً لكينيدي، فمالت كفة المحكمة نحو المحافظين.

- أهمية سياسية كبرى
لعلّ خير دليل على أهمية تعيين قضاة محافظين في المحكمة العليا بالنسبة للجمهوريين هو دعم السيناتور الجمهوري المحافظ ميت رومني لترمب في تعيين خلفاً لغينزبرغ قبل الانتخابات.
رومني (المرشح الرئاسي السابق) معروف بمواقفه المعارضة والمنتقدة للرئيس الأميركي، كان الجمهوري الوحيد الذي صوّت لصالح عزل ترمب في مجلس الشيوخ، بيد أن موقفه الداعم لتعيين قاضٍ محافظ يأتي انعكاساً واضح لأهمية هذا الملف بالنسبة للمحافظين؛ فسيطرة المحافظين اليمينيين على المحكمة العليا قد تساعد الجمهوريين على قلب قرارات مهمة، أبرزها القضية المعروفة بـ«رو ضد ويد» التي تحمي حق المرأة في الإجهاض، إضافة إلى قضية «أوبرغيفل ضد هودجز» التي تعترف بحق مثليي الجنس في الزواج. كذلك يأمل الجمهوريون في إلغاء مشروع الرعاية الصحية المعروف بـ«أوباما كير»، ورفع الحماية عن المهاجرين غير الشرعيين.
في مواجهة هذه التحديات، واعتراف الديمقراطيين ضمنياً بأنهم لن يتمكنوا من وقف المدّ المحافظ على المحكمة، ينظر البعض منهم إلى إحياء ماضي المحكمة، والنظر بزيادة عدد القضاة التسعة الموجودين فيها. ذلك أن المحكمة لم تتألف من 9 قضاة منذ تأسيسها عام 1789؛ إذ انعقدت لأول مرة بحضور 6 قضاة فقط، ثم تقلب هذا العدد بين 5 و10 قضاة قبل أن تحديده نهائياً بـ9 في عام 1869.
هذا، ورد أبرز طرح ديمقراطي على لسان المرشح السابق بيت بوتيدجيج، الذي دعا إلى زيادة عدد القضاة ليصبح 15، بهدف رفع التسييس عن المحكمة. وحسب اقتراحه، فإن 5 من القضاة يميلون إلى الديمقراطيين، و5 إلى الجمهوريين، بينما يُعيّن 5 آخرون من دون أي انتماءات سياسية. وبالفعل، بعد وفاة بايدر غينزبرغ، انضم المزيد من الديمقراطيين إلى بوتيدجيج... منهم من دعا إلى إضافة قاضيين فقط، ومنهم من دعا إلى وضع حد زمني لخدمة القضاة بدلاً من أن تكون لدى الحياة. إلا أن هذه الطروحات ما زالت في مراحلها الأولية، وهي تواجه تحديات جمة، أبرزها أنها تتطلب فوز الديمقراطيين بالغالبية في الكونغرس الذي يجب أن يقر أي تغيير في المحكمة، بجانب انتزاعهم مقعد الرئاسة من الجمهوريين.
وإذا كان التاريخ شاهداً، فإن مساعيهم هذه لن تبصر النور. إذ سبق للرئيس الأميركي السابق فرانكلن روزفلت أن حاول زيادة مقاعد المحكمة العليا إلى 15 مقعداً عام 1937، لكنه جُوبِه بمعارضة شرسة في مجلس الشيوخ الذي وصف هذه الخطوة بـ«انتهاك صارخ وغير مسبوق للسلطة القضائية»، وصوّت مجلس الشيوخ ضد طرح روزفلت حينها بغالبية 70 صوتاً ضد طرح الرئيس.
أيضاً، تصطدم المحاولات الديمقراطية بمعارضة الأميركيين؛ إذ أظهر استطلاع للرأي في عام 2019 لجامعة ماركيت (وهي جامعة كاثوليكية مرموقة في ولاية ويسكونسن) أن 57 في المائة من الأميركيين يعارضون زيادة عدد قضاة المحكمة العليا، ومن غير الواضح حتى الساعة إذا كانت آراء هؤلاء تغيرت بعد وفاة بايدر غينزبرغ.

- نبذة تاريخية عن المحكمة العليا
أُسِّست «المحكمة العليا للولايات المتحدة» بموجب البند الثالث من الدستور الأميركي يوم 24 سبتمبر (أيلول) 1789. وكانت المحكمة حينذاك مؤلفة من 6 قضاة، بيد أن الكونغرس قرر عام 1869 رفع العدد إلى 9 قضاة، يترأسهم «كبير القضاة»، ويعينهم الرئيس الأميركي، ويصادق على التعيين مجلس الشيوخ. وبما أن هؤلاء يخدمون في منصبهم لمدى الحياة، فلا يمكن عزلهم من المنصب إلا بموجب إدانة من الكونغرس الأميركي بتهمة الفساد أو انتهاك السلطة. وهذا أمر لم يحصل قطّ في التاريخ الأميركي. ويشرف كل قاضٍ من القضاة التسعة على دائرة أو أكثر من الدوائر القضائية الفيدرالية الاثنتي عشرة في الولايات المتحدة.
انعقدت المحكمة العليا لأول مرة يوم 2 فبراير (شباط) 1790 في نيويورك. وانتقلت بعدها إلى مدينة فيلادلفيا، ثم إلى العاصمة الأميركية واشنطن.
لم تحصل المحكمة على مبناها الخاص المعروف في العاصمة واشنطن حتى عام 1935، أي في الذكرى الـ146 من تأسيسها. وحُفر على المنصة الغربية للمبنى شعار «عدالة متوازية تحت القانون»، وعلى المنصة الشرقية «العدالة: حامية الحرية». ولقد خدم في تاريخ المحكمة 112 قاضياً، 4 منهم فقط من النساء، وواحدة منهن فقط من أصول لاتينية هي سونيا سوتومايور التي عيّنها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2009.
هذا ويجلس القضاة التسعة على منصة المحكمة بحسب تراتبية خدمتهم؛ فيحتلّ «كبير القضاة» مقعد المنتصف، ويتوزع إلى يمينه وشماله القضاة كل بحسب تاريخ خدمته، فيجلس الأقدم منهم إلى يمينه، والذي يتبعه إلى يساره، وهكذا دواليك.
< يبلغ مرتب «كبير القضاة» قرابة 267 ألف دولار سنوياً فيما يصل مرتب كل من القضاة الآخرين إلى نحو 255 ألف دولار في العام.
< ويليام هوارد تافت هو القاضي الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي خدم في منصبي «كبير القضاة» ورئيس الجمهورية. وقد عُين في المحكمة بعد سنوات من انتهاء ولايته الرئاسية.

- أبرز أحكام المحكمة العليا
< هاواي ضد ترمب، عام 2018 (5 مع و4 ضد)
لعلّ القرار الأهم، الذي أثر بشكل مباشر على العالم العربي هو الحكم القاضي بدعم حظر السفر الذي أصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
ففي عام 2018، حكمت المحكمة لصالح الإدارة الأميركية في القضية المعروفة باسم «هاواي ضد ترمب». إذ رفعت ولاية هاواي دعوى بحق إدارة ترمب بسبب قرار حظر السفر بتهمة انتهاك الدستور، والانحياز ضد المسلمين. غير أن المحكمة حكمت لصالح ترمب بغالبية 5 مقابل 4 بأن للرئيس الأميركي الصلاحيات لحماية حدود البلاد، وأن تصريحاته السابقة المعارضة للمسلمين لا تجرّده من صلاحياته الدستورية.
< رو ضد ويد، 1973 (7 مع و2 ضد)
أقرت المحكمة حق المرأة الدستوري بالإجهاض خلال الأشهر الستة الأولى من الحمْل.
< الولايات المتحدة ضد نيكسون، 1974 (8 مع، وصفر ضد)
هو القرار الذي أنهى عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، إذ حكمت المحكمة بأغلبية 8 أصوات لصالح تسليم نيكسون لأشرطة «فضيحة ووترغيت»، وقالت إن الرئيس الأميركي لا يستطيع استعمال صلاحياته التنفيذية لإخفاء أدلة في محاكمات جنائية. يومذاك لم يُدلِ القاضي ويليام رينكويست بصوته بسبب دوره السابق كنائب لوزير العدل في إدارة نيكسون.
< بوش ضد غور، 2000 (5 مع، و4 ضد)
حسمت المحكمة العليا الخلاف بين الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن ومنافسه الديمقراطي آل غور في الانتخابات الرئاسية؛ فحكمت لصالح بوش ضد إعادة احتساب الأصوات في ولاية فلوريدا.
< مقاطعة كولومبيا ضد هيلر، 2008 (5 مع، و4 ضد)
أعطت المحكمة للأميركيين حق امتلاك السلاح في منازلهم للدفاع عن النفس.
< اتحاد الشركات المستقلة ضد سيبيليوس، 2012 (5 مع، و4 ضد)
حمت المحكمة قرار إدارة أوباما القاضي بأن على كل الأميركيين أن يحصلوا على تأمين صحي.
< أوبرغيفل ضد هودجز، 2015 (5 مع، و4 ضد)
شرّعت المحكمة زواج مثليي الجنس في كل الولايات الأميركية الخمسين.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.