«النوبة»... فن صناعة البهجة

كتاب جديد يضيء خصوصية تراثها الثقافي والحضاري

من الرقصات الشعبية النوبية
من الرقصات الشعبية النوبية
TT
20

«النوبة»... فن صناعة البهجة

من الرقصات الشعبية النوبية
من الرقصات الشعبية النوبية

تمثل «النوبة» بتراثها الثقافي والحضاري العريق وجه مصر العريق في ربوع القارة السمراء. ورغم أن كتاب «النشاط الاقتصادي والاجتماعي للنوبيين، 1805 – 1923» الصادر عن الهيئة العامة للكتاب في القاهرة ضمن سلسلة «تاريخ المصريين» يركز بلغة أكاديمية محضة على تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية لهذا الإقليم ضمن حقبة تاريخية محددة، فإنه يضيء أيضاً جوانب أخرى تتعلق بالتاريخ والجغرافيا واللغة والثقافة والفنون لسكان هذا الإقليم المدهش والذي أثار خيال الرحالة على مر الزمان.
في البداية تشير مؤلفة الكتاب الباحثة الأكاديمية حليمة النوبي إلى أن المؤرخين اختلفوا حول أصل تسمية النوبة؛ فقد عرفها المصريون القدماء باسم «نوب» أو «نوبو» بمعنى الذهب، أي أنها «بلاد الذهب»؛ نظراً لأن قرى النوبيين مجاورة لمناجم الذهب، بينما يرى البعض أنها كلمة قبطية «Notpt» بمعنى «يضفر» أي ذي الشعر المجعد، وهناك الكثير من الأسماء التي أطلقت على النوبة عبر العصور، ومنها «تا - ستي» «sti - Ta» بمعنى «أرض القوس»، أو أرض رامي السهام، حيث إن هناك الكثير من الشواهد التي تربط بين القوس والنوبة بسبب مهارة النوبيين في استعمال القوس وبراعتهم كرماة وشهرتهم الكبيرة في الرمي بالسهام فقد عملوا في الجيش طيلة العصور التاريخية المختلفة وأطلق عليهم أثناء الفتح العربي «رماة الحدق» لمهارتهم في التصويب. والنوبيون شعب نهري عاشوا ملاصقين لنهر النيل من أسوان في مصر وحتى بلدة الدبة وكورتي في السودان.
على مستوى المناخ العام، وكما يشير الكتاب، يتميز هذا الإقليم بشدة الحرارة في فصل الصيف وشدة الجفاف الذي يجعل الحياة صعبة على مدار العام. ويصف الرحالة السويسري يوهان بوركهارت (1784 – 1817) مناخ النوبة بأنه صحي جداً على شدة حرارتها في الصيف، لا سيما في البقاع الصخرية الضيقة نظراً لجفاف الهواء. هكذا نلاحظ مدى قسوة الأحوال الطبيعية لبلاد النوبة؛ مما دفع سكانها للهجرة من أراضيهم الفقيرة متتبعين مجرى النهر بحثاً عن الرزق.
وتلاحظ المؤلفة أن النوبيين لم يعتنقوا الإسلام عند زحف الجيوش العربية على بلادهم عام 641م، بل ظلوا على دينهم حتى القرن الرابع عشر عندما اعتنق ملك النوبة الإسلام وأسلمت جميع رعيته، وفي أثناء هذه الفترة دخلت بعض بطون من قبيلتي «ربيعة» و«جهينة» المنطقة النوبية، وانتشرت في الإقليم الشمالي واستقرت به وكانت قبيلة «بني كنز» أكبر القبائل وأقواها، وحدث اندماج بينهما وبين النوبيين المقيمين في قرى هذا الإقليم عن طريق المصاهرة فانتشرت اللغة العربية.
ظلت اللغة النوبية زمناً طويلاً متداولة شفاهياً دون أن تُكتب إلى أن تحولت البلاد إلى الديانة المسيحية في منتصف القرن السادس فكتبت النصوص الدينية بالحروف القبطية، كما استخدمت هذه الحروف في كتابات أخرى، وبذلك أصبحت اللغة النوبية مكتوبة، أما النصوص السابقة لذلك العهد فإنها كانت باللغة المصرية القديمة ولعلها كانت اللغة الرسمية للبلاد، بينما كانت النوبية هي لغة الناس مع ما بين اللغتين من التشابه. وتوضح الباحثة، أنه تم العثور على بعض المخطوطات النوبية ترجع إلى العصر الإسلامي، وهي مدونة بالحروف اليونانية، في حين اختلف الباحثون في أصل اللغة النوبية، فهناك من رأى أنها إحدى اللغات الخاصة دخلتها مؤثرات خارجية كثيرة. وهناك من يرى أنها لغة نيلية جنوبية تعرضت لمؤثرات حامية شديدة على مدى العصور. وعلى الأرجح، فإن اللغة النوبية من اللغات الحامية، وهو ما يتفق مع التطورات العرقية التاريخية، وقد دخلت تلك اللغة مفردات من مصادر أخرى بعضها من شمال إثيوبيا كما استعانت بكلمات عربية شكلت ما يقرب من ثلث مفرداتها.

فنون نسائية
برع النوبيون في صناعة الفخار دون غيرهم وشكّل توافر الطين الصلصالي في بلادهم أحد العوامل المساعدة على قيام هذه الصناعة الشعبية في تلك المنطقة. وكان على الضفة الشرقية للنيل باتجاه أسوان جبل يعرف باسم «جبل الطَفل» يصنع منه العرب والنوبيون هذه الأواني الفخارية. إنها صناعة تقوم على مهارة وفنون النساء النوبيات اللواتي يتولين جميع مراحل صناعة تلك الأواني باستثناء مرحلة الحرق والتي يتولاها الرجال.
عن هذه الصناعة يوضح الكتاب، أنه في المرحلة الأولى يتم عجن الطين لإكسابه المرونة الكافية وعندئذ تقوم النساء بتشكيل الجزء السفلي من الإناء المطلوب عن طريق ضغط الطين بواسطة قطعة من الصدف، حيث يضاف إلى الطينة بعض الماء، وما إن يتم جفاف الإناء حتى تباشر النساء تلوينه وصقله، ويستعان في التلوين ببعض أكاسيد الحديد الحمراء التي تكثر في النوبة؛ وذلك للحصول على اللون الأحمر الداكن الذي يطلين به الفخار.
أما طريقة إعداد الألوان فبسيطة للغاية؛ إذ تقتصر على طحن أكسيد الحديد، ثم إذابته بالماء ودهن الإناء بمحلوله، ثم حكه بقطعة من الحجر الأملس فيكتسب بريقاً ثم يأتي الحرق كمرحلة أخيرة.
وتتوقف المؤلفة عند فن نسائي آخر يتمثل في صناعة الأطباق والسلال من سعف النخيل التي يوضع بها الخبز على المائدة، وكلها مصنوعة باليد غير أن في صناعتها أناقة وإتقاناً يوهمان بأنها مصنوعة بالآلات. تتسم صناعة «الحصير» في النوبة أيضاً بالجودة والدقة والمتانة، إضافة إلى تنوع أشكالها. وتعتبر تلك الصناعة من أقدم الصناعات التي مارسها الإنسان البدائي، وهي عبارة عن تضفير الألياف عبر تداخلها بعضها في بعض باستخدام الطرق اليدوية. تعتبر النوبة من المناطق الغنية بالفنون الشعبية؛ فيوجد لدى النوبيين هوس بالزخارف والحلي، وشغف بالألوان المتباينة الجذابة ما بالمعابد والمقابر الفرعونية التي كسيت جدرانها بمناظر من حياة المصريين القدامى. ومن الواضح أن ثقافة المجتمع النوبي ومناخ المنطقة وطبيعتها لها تأثير في كل ما يتعلق بالعمارة، فالبيوت في قرى النوبيين «الكنوز» تغطيها القباب، أما بيوت «الفاديجا» فيعلوها سعف النخيل مع مراعاة أن تكون الأسقف على ارتفاع كبير والجدران من الطين، لكنها مطلية باللون الأبيض للتخفيف من أشعة الشمس الحارقة.
وترصد المؤلفة بعضاً من فنون أهل النوبة في الرقص والغناء، لا سيما فيما يتعلق بطقوس الزواج والميلاد والتي عني المؤرخون والرحالة الأوروبيون باستكشافها، ومنها رقصة يلتف فيها الراقصون حول نار موقدة بينما يقف شبان القرية وفي أياديهم الحراب في جانب، أما النسوة فيقفن في الجانب الآخر ويرقص الجميع على أنغام الدفوف في خطوات إيقاعية حول النار. وهناك رقصة إيقاعية أخرى يجلس فيها شيخ القرية على العنجريب «السرير»، في حين يجلس على الأرض أمامه مجموعة من الشبان في أيديهم الحراب يقابلهم الفتيات بجلاليبهن الناصعة. وهذه الرقصة ترتبط بمواسم زراعية محددة تتوافر فيها الغلال.
ويلفت الكتاب إلى أن النوبة تملك عدداً من أعظم المعابد الأثرية في العالم، منها معبد «أبو سمبل» الذي يطلق عليه البعض «سيد المعابد»، وهو أعظم معابد النوبة تأثيراً في النفس لإعجازه المعماري وروعته الفنية ومناظره التاريخية. عثر ضمن نقوشه على نقش يؤرخ بالسنة الخامسة والثلاثين من حكم رمسيس الثاني، أي نحو 1227 قبل الميلاد، أي أن عمره نحو 3200 عام، ولعل أروع أجزاء المعبد واجهته والتي تعد من أبدع ما نفذه المهندس المصري القديم.
وتؤكد الباحثة أن قصة اكتشاف هذا المعبد في العصر الحديث تدور حولها الكثير من الروايات والقصص أشهرها للرحالة يوهان بوكهارت عند زيارته لبلاد النوبة 1812 حيث شاهد أربعة تماثيل عملاقة منحوتة في الصخر وهي مدفونة في الرمال، ولا يكاد يظهر منها إلا رأس التمثال وجزء من صدره وذراعيه. قام بوركهات بكتابة تقرير مفصل عن كشفه للمعبد بعد عودته للقاهرة 1815 وقدمه للقنصل البريطاني.
وفي عام 1816 قدم إلى أبي سمبل المكتشف جيوفاني بلزوني الإيطالي الجنسية على رأس بعثة لاكتشاف المعبد يمولها القنصل البريطاني في مصر، لكن قابلته مشكلة تتمثل برفض الأهالي التعاون معه لفتح المعبد الذي كان مطموراً في الرمال وفي زيارته الثانية نجح في تطهير واجهته ودخل لغرفه الداخلية وبذلك يعتبر أول الأوروبيين الذين نفذوا إلى داخل المعبد.
وعن صفات النوبيين وطرق معيشتهم يذكر بوكهارت، أن الرجال ذو أجسام قوية مفتولة وتقاطيع وسيمة، وهم أقصر من نظرائهم المصريين في العاصمة. أما النساء فلهن قامات بديعة ووجوه طلقة، مشيراً إلى أنه رأى بينهن حساناً بارعات الجمال، لكن العمل الشاق الذي يقمن به من الطفولة يجعل هذا الجمال يزوي وينطفئ مبكراً.


مقالات ذات صلة

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب إيمانويل تود

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً.

سوسن الأبطح
كتب شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

يطرح الكاتب العراقي ماجد الخطيب في السوق كتابه المعنون «البيئة المسلية» في زمن ما عاد فيه الإنسان يشعر بأي تسلية وهو يشاهد الخراب البيئي العظيم

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

بعد بدايات متواضعة من قاعة فندق بيرنرز في وستمنستر عام 1971 أصبح معرض لندن للكتاب (LBF) – الحدث العالمي الأهم في صناعة المحتوى الإبداعي خلال فصل الربيع

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يكشف كتاب «بوادر التجديد في شعرنا المعاصر»، للدكتور يوسف بكار، عن جوانب تجديدية في المضمون الشعري وتشكيلاته الفنية، متناولاً قصيدتين لخليل مطران وإبراهيم طوقان

«الشرق الأوسط» (عمّان)
صحتك التعاطف مع الذات والوعي بما يحتاج إليه جسمكم هما المفتاح لنوم أفضل (متداولة)

8 نصائح بسيطة لنوم أفضل

هل تواجهون صعوبة في النوم؟ إليكم 8 نصائح رئيسية عملية لمساعدتكم على الاسترخاء والاستغراق في النوم.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود
TT
20

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً. من حينها بقي اسم هذا الأكاديمي مرتبطاً بقراءته المبكرة للأحداث. هذه المرة أطلق من خلال كتابه «هزيمة الغرب»، الذي صدر في فرنسا، منذ ما يقارب السنة، نبوءةً جديدةً، وهي أن «روسيا لن تُهزم» في حربها مع أوكرانيا، عكس كل ما كان يتردد في الإعلام، وشرح أن الغرب في مرحلة انحدار سريع، ونكران، لا بل في طور «العدمية» وفقدان القيادة، مما ينذر بالأفول.

هذه الآراء الجريئة، جعلت مؤلّف تود «هزيمة الغرب» يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً، ويثير نقاشاً واهتماماً في أوروبا وأميركا، حيث ترجم إلى مختلف اللغات، وجلب لصاحبه من القراء والمعجبين بقدر ما حصد من عداوات. وصفته «نيويورك تايمز» بأنه «الأكاديمي الرؤيوي»، وكتابه «فريد من نوعه»، فيما رأت مجلة «لوبوان» الفرنسية أنه «كتاب يهزّ اليقينيات».

حسناً فعلت «دار الساقي» أن ترجمت الكتاب إلى العربية، في وقت تطالب فيه أميركا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأن يوقع اتفاقاً يقر بالهزيمة. فهل بدأت توقعات تود بالتحقق من جديد؟

الكتاب ليس تحليلاً سياسياً، ولا قراءة لخبير عسكري، بل بحث أكاديمي علمي صرف، كما يصرّ صاحبه، رافضاً تسميتها بالتوقعات، لأنها مبنية على دراسة وتحليل لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. ومن بين ما يأخذه بعين الاعتبار بيانات الخصوبة في كل بلد، والتعليم، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، ومستوى الخدمات الصحية، وحركة المجتمع التي تشكل المحرك الحقيقي للشعوب ولسياساستها بعد ذلك.

وتود مؤرخ وأنثروبولوجي من أصل يهودي مجري، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين ماكس فيبر وإيميل دوركهايم، لا يدعي الإصلاح ولا إعطاء النصح، بل تطبيق مناهج أساتذته القديمة المعروفة، بشكل صارم وجدي، ومن ثم قراءة النتائج.

وقد وصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة. وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها. وهو ما بدأنا نرى الكثير من تجلياته في أوروبا أيضاً.

ويعتقد الكاتب أن الإصلاح صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، بسبب عمق الأزمة. وهو يعلن باستمرار أنه رجل لا ديني، لكنه لا يستطيع أن يهمل كدارس اجتماعي الدور الذي لعبه الدين، خصوصاً البروتستانتية في التأسيس لنهضة الحضارة الغربية. ويفرد لذلك مساحة شارحاً أن حرص البروتستانتية على قراءة الإنجيل والتفقه الديني من قبل أتباعها، كان وراء انتشار التعليم في أوروبا وتشييد المؤسسات المعرفية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته ألمانيا وإنجلترا وأميركا في بناء النهضة الصناعية الغربية. ويلفت إلى أن ماكس فيبر عدَّ أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. بالتالي فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه اليوم.

أما من يصلون إلى السلطة في أميركا، فهم وإن كانوا بروتستانت، فإنهم فقدوا جذور القيم البروتستانتية. ويصل تود إلى حد اعتبار أن «البروتستانتية أصبحت بمستوى صفر». صحيح أن أميركا تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، لكنها بلا قيادة مركزية وقيم توجهها، وتلك هي المشكلة. أي أنها قوة ضاربة فقدت بوصلتها.

ومن بين الأمور الرئيسية التي يعدُّها سبباً في تقهقر الغرب غروب الأخلاقيات ذات الجذور الدينية، وهو ما تسبب بحالة من الضياع القيمي عند الناس. الإحساس بالفراغ لم يُملأ، وأحدث خلخلة اجتماعية. ويلفت كأنثروبولوجي متعمق إلى أن التركيز على مسألة التحول الجنسي، واعتبار أنه يمكن تحويل الرجال إلى نساء والعكس، خلق حالة غير واقعية، وشكل نهاية للمسيحية محركاً أخلاقياً في المجتمعات الغربية، بعد أن كانت جميعها بحلول عام 2015 قد شرعت زواج المثليين بقوانينها.

«أؤمن بالبرغماتية الأنجلوساكسونية، وكنت أظن أن هذه المجتمعات ستصحح مسارها ولكن بالعكس الأمر يتفاقم»، يقول تود: «لفتني ليس فقط وضع الغرب ككل. ولكن ما حدث في ولاية ترمب الأولى التي لم تكن ناجحة، كذلك (بريكست)، وقد تأتت عنه نتائج سيئة. بلدان غربيان رئيسيان يعانيان أزمات كبرى، وهناك في المجتمعين انتصار ساحق للعموم على النخب».

عناصر كثيرة، يوضح من خلالها تود أن الأزمة هي في الغرب وليست عند روسيا التي تلقى عليها الاتهامات في حربها مع أوكرانيا. «الغرب ليس مستقراً، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعاً مركزياً فيها. فوزنه، سواء الديموغرافي أو الاقتصادي يفوق وزن روسيا، من سبع إلى عشر مرات، كما أن تقدمه التكنولوجي، وسيطرته الآيديولوجية والمالية الممتدة من عام 1700 يقودنا نحو افتراض أن أزمة الغرب هي أزمة العالم».

أما روسيا، في المقابل، فهي دولة استرجعت توازنها، وتبذل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليه. الغرب وقع في فخ هذه الحرب وخسرها ليس بفعل قوة روسيا، بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل. على عكس الدول الغربية في روسيا زاد معدل الأعمار، كذلك ارتفعت نسبة الخصوبة، بعد أزمة التسعينات، هناك تحسن واضح في كل المؤشرات الروسية.

فمنذ بداية حكم بوتين إلى عام 2000، انخفض معدل الوفيات بسبب الكحول من 25 في المائة إلى 8 في المائة، والانتحار من 39 إلى 13، والقتل من 28 إلى 6. أما بالنسبة لمعدل وفيات الرضع، فقد انخفض من 19 في الألف إلى 4.4. وهو أفضل من المعدل الأميركي. ومع أن عدد سكان روسيا هو نصف عدد سكان الولايات المتحدة، فإنها تنتج ضعف كمية القمح، فيما أميركا، تعتمد على الخارج في معظم قدرتها الإنتاجية. ومن الأرقام اللافتة أن 23 في المائة من الروس في التعليم العالي يدرسون الهندسة، مقابل 7 في المائة في الولايات المتحدة، وهو ما ساعد الأولى على تحقيق تطور مذهل في مجالي الزراعة والصناعة.

يرفض الكاتب فكرة أن روسيا لها أطماع توسعية خارج حدودها التاريخية، ويعتبر أن الشعب الروسي سيادي، وهمه استقلاله، والحفاظ على حدوده. فكيف لشعب لا تتجاوز نسبة الخصوبة لديه 1.5 لكل امرأة أن يكون غازياً وطامعاً في التمدد؟ وكيف لبلد عدد سكانه 144 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 17 مليون كم مربع، أن يفكروا بالتوسع، ولديهم كل هذه الأراضي الشاسعة، التي يحتاجون حمايتها والحفاظ عليها. لذا فإن كل الكلام الغربي الذي يضخه الإعلام للتخويف من روسيا هو نوع من الفانتازيا لا بل فكرة سخيفة ، ليس أكثر. وللتدليل على ذلك يشرح كيف أن روسيا هي التي أرادت التخفف من الدول التي التحقت بالاتحاد السوفياتي، وأن التخلص منها ومنحها استقلالها كان إحدى الغايات الروسية، خصوصاً بولندا التي شكلت حملاً ثقيلاً.

يرى تود أن الغرب وقع في فخ حرب أوكرانيا وخسرها ليس بفعل قوة روسيا بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل

في مطلع الكتاب يتحدث تود عن مفاجآت عديدة للحرب الأوكرانية - الروسية، بينها أن أوروبا التي اعتبرت نفسها بعيدة عن الحرب أصبحت جزءاً منها، ثم أن الصمود العسكري الأوكراني أذهل الروس فعلاً. لكن الذي أذهل العالم أجمع هو الصمود الاقتصادي الروسي، في مواجهة عقوبات كان يفترض أن تركّع الروس، لكنهم عكس ذلك استطاعوا أن يتكيفوا مع العقوبات بشكل كبير، واستعدوا سلفاً للاستقلالية في المجال التكنولوجي وحتى المالي، بحيث إن العقوبات المصرفية الكبيرة لم تنل منها كما كان متوقعاً. أما إحدى أهم المفاجآت فجاءت من أميركا حين ظهرت تقارير مصدرها البنتاغون عام 2023 تقول إن الصناعة العسكرية الأميركية تعاني عجزاً، وأنها لا تتمكن من تأمين القذائف لحماية حليفتها. أما الصدمة الكبرى للغرب، فكانت عدم تجاوب دول الجنوب مع مطالب أميركا لخنق روسيا. بل على العكس فإن الغرب وجد نفسه في عزلة عن العالم، الذي لم ير بارتياح كل الإجراءات العدائية التي اتخذت ضد روسيا.

أما في نهاية الكتاب، فيشرح بالتفصيل كيف سيقت أميركا، ووقعت في الفخ الأوكراني. ويعدُّ أن سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 على عكس الادعاء الغربي لم يكن بسبب هزيمة روسيا فقط، بل لأن أميركا كانت لم تعد قادرة على المواجهة. وبما أن الجميع صدق الكذبة، خصوصاً الغرب، فقد استمرت أميركا في مغامراتها التوسعية من العراق إلى أفغانستان، فيما كان الفقر والوفيات يتفاقمان في الداخل. وبينما كانت الولايات المتحدة تتخبط في حروبها، تركت الصين تُنهك الصناعة الأميركية، وكانت روسيا تتعافى.

ويرى الكتاب أن الحمائية الأميركية لا يمكن أن تنجح، «لأن أميركا ضعيفة جداً صناعياً. فهي لا تنجح في تطوير صناعة بديلة للواردات. ولم تعد العمالة الماهرة موجودةً لديها». وحتى نوعية الأسلحة الأميركية إذا ما دخلت حرباً حقيقيةً مع الصين مثلاً، فلربما لا تصمد طويلاً. إذ ماذا تفعل حاملات الطائرات الأميركية التي تستعرض في المتوسط أمام الصواريخ الصينية الفرط صوتية، ألم تجعلها بالية وغير قادرة على الدفاع عن تايوان؟

حرب غزة التي ينتهي بها الكتاب، يعتقد تود أنها «كانت مفيدة لأميركا كي ينسى العالم أنها تخسر في أوكرانيا، ولكي تنسى هي نفسها ذلك».

أما الخلاصة السوداء التي يوصلنا إليها، فيتركها مفتوحةً بوسع ضبابية المشهد لأن «الحالة السوسيولوجية صفر لأميركا، تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها». لذلك ينصحنا تود بالتالي: «دعونا نبقى يقظين، لأن العدمية تجعل كل شيء، كل شيء على الإطلاق ممكناً».