تمرّد النيل... خسائر ومكاسب

الفيضانات هذا الموسم هي الأعلى منذ 1912

تمرّد النيل... خسائر ومكاسب
TT

تمرّد النيل... خسائر ومكاسب

تمرّد النيل... خسائر ومكاسب

تنفس السودانيون الصعداء بهدوء «تمرد النيل»، وانخفاض مناسيب مياه الفيضان بشكل تدريجي، التي ضربت البلاد خلال الأسابيع الماضية، مخلفة عشرات الضحايا وآلاف المشردين. غير أنه، رغم التداعيات السلبية الفادحة بشرياً واجتماعياً واقتصادياً، التي أضافت لمعاناة السودان المضطرب سياسياً وأمنياً، يرى البعض أن الأزمة لم تخلُ بعد من منافع ودروس إيجابية، يمكن تطويرها لمكاسب مستقبلاً، بحيث يجري ترويض النهر ليصبح جسراً للتنمية، ومدخلاً لتعضيد العلاقات بين دوله، في ظل نزاعات تاريخية بشأن تقاسم مياه أطول أنهار العالم.
للعلم، يظل السودان على موعد سنوي مع فيضان النيل في فصل الصيف، بفعل الأمطار الغزيرة بين شهري يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول)، لكن وفق تصريحات رسمية، فإن هذا العام شهد ارتفاعاً قياسياً لمنسوب مياه النيل الأزرق الذي يلتقي مع النيل الأبيض في الخرطوم لتشكيل نهر النيل. ويقول ياسر عباس، وزير الري السوداني، إن نسبة الفيضانات هذا الموسم، هي الأعلى منذ فيضان النيل عام 1912، فقد تخطت في بعض الأيام حاجز 17 متراً (57 قدماً).

يتميز السودان، وهو دولة ذات مساحة كبيرة نحو 1.9 مليون كيلومتر مربع مقسمة إلى 18 ولاية، بمعدلات أمطار مرتفعة تتسبب سنوياً في حدوث فيضانات وسيول، خاصة عندما يرتفع منسوب النيلين الأبيض والأزرق. وتعد مناطق شرق السودان، مثل القضارف وكسلا والنيل الأزرق والجنينة وجنوب كردفان، ذات معدلات عالية للأمطار، وأهم المناطق التي تشهد فيضانات سنوية هي ضفاف النيل الأبيض وكثير من الأراضي الزراعية في العاصمة الخرطوم، خاصة جزيرة توتي.
هذا، ولا يمكن منع وقوع الفيضانات، بحسب خبراء المياه، لكن على الأقل يمكن الحد من مخاطرها، والاستفادة من هذه الكمية الكبيرة للمياه، خاصة مع الزيادة السكانية في السودان وباقي دول حوض النيل، والتي أصبحت في أمس الحاجة إلى كل قطرة مياه ووقف إهدار تلك المياه.

خسائر فادحة

البداية كانت مع تساقط غزير للأمطار على السودان بدءاً من أوائل أغسطس (آب) الماضي؛ ما أدى إلى فيضانات وسيول مدمرة في 17 ولاية سودانية. ولقد نتج من هذه الفيضانات، بحسب إحصاءات أممية وسودانية، وفاة 114 مواطناً، وإصابة 54 آخرين، وتضرر أكثر من نصف مليون شخص، وانهيار كلي 35157 منزلاً، وجزئي لأكثر من 50616 منزلاً، ونفوق 5482 من المواشي، وغرق 43612 فداناً.
كذلك، أصاب الضرر 79 قطاعاً تعليمياً، و9 قطاعات صحية، 3 قطاعات خدمية، و694 مسجداً؛ الأمر الذي دعا مجلس الأمن والدفاع المدني السوداني حالة الطوارئ في كل أنحاء البلاد لمدة 3 أشهر، كما قرر اعتبار السودان منطقة كوارث طبيعية.
وذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أن العواصف والفيضانات غير المسبوقة أثرت بشكل خاص على ولايات الخرطوم وشمال دارفور وسنار، كما فجّر نهر النيل ضفافه في مناطق عدة في البحر الأحمر وولايات الشمال؛ ما أدى إلى النزوح وزيادة الاحتياجات الإنسانية.
ويشير المكتب الأممي إلى أن أكثر من 506 آلاف شخص تضرروا منذ بدء هطول الأمطار، منهم أكثر من 110 آلاف خلال الأسبوع الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي. كما أن تداعيات الفيضان، هددت منطقة البجراوية الأثرية، في سابقة هي الأولى من نوعها للمنطقة التي تبعد 500 متر عن مجرى نهر النيل، وتقع على بعد 200 كيلومتر إلى الشمال من الخرطوم.
وللعلم، تضم منطقة البجراوية الأثرية أهرام مروى الشهيرة، والمدينة الملكية لهذه الإمبراطورية المركزية التي حكمت من سنة 350 قبل الميلاد إلى سنة 350 ميلادية.
وما زاد من خطورة الفيضانات هو انهيار بعض الجسور والمنشآت المائية، مثل سد بوط بولاية النيل الأزرق في 29 يوليو (تموز) الماضي. ويقع هذا السد على بعد 23 كم شرق الحدود مع جنوب السودان، ويبلغ طوله نحو 2 كم، ويخزن نحو 5 ملايين متر مكعب على مساحة 4 كيلومترات مربعة بمتوسط عمق نحو 1.25 متر. ويستفيد من السد نحو 40 ألف نسمة، ولقد أدت الأمطار الغزيرة إلى انهياره وتدمير أكثر من 600 منزل بأحياء مدينة بوط وتشريد المئات.

المتهم الرئيسي

رغم معارضة السودان ملء إثيوبيا خزان «سد النهضة» من جانب واحد، في يوليو الماضي، ووقوفه إلى جانب مصر في ضرورة إلزام إثيوبيا بتوقيع اتفاق ينظم ملء وتشغيل السد، الجاري تدشينه على نهر النيل الأزرق والمقام على الحدود السودانية، للحد من تداعياته السلبية. غير أن السودان برّأ السد الإثيوبي من الفيضانات، بل على النقيض قال عباس «لو اكتمل سد النهضة، لما تعرّضت الخرطوم لموجة من الفيضانات». كذلك، رفض مزاعم إغلاق مصر السد العالي لمنع تمرير المياه، مؤكداً أن السبب الأساسي هو غزارة الأمطار الغزيرة التي هطلت في الهضبة الإثيوبية.
وحقاً أرجع المسؤولون والخبراء فيضانات السودان، إلى معدل الأمطار العالي في السودان، وكذلك الهضبة الإثيوبية، بسبب التغيرات المناخية التي تشهدها المنطقة والكرة الأرضية بشكل عام. إذ قال الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بكلية الدراسات الأفريقية العليا جامعة القاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، في لقاء معه «كانت شدة الأمطار هذا العام هي العامل الرئيسي في حدوث الفيضانات والسيول في السودان، حيث فاضت الأنهار الأزرق والسوباط وعطبرة نتيجة الأمطار الإثيوبية والسودانية، بالإضافة إلى الأنهار والروافد ومخرات السيول في السودان نتيجة شدة الأمطار الداخلية التي بلغت نحو 800 مليار متر مكعب خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وهي تعادل ضعف التساقط السنوي على السودان».
من جهة ثانية، بلغت كمية الأمطار التي سقطت على إثيوبيا في تلك الفترة نحو 700 مليار متر مكعب، وهي تشكل 75 في المائة من جملة الأمطار السنوية على الهضبة الإثيوبية. كما ساعد على خطورة هذه الفيضانات الإشغالات العشوائية لبعض السكان سواء للزراعة أو السكن على السهول الفيضية في حرم الأنهار الكبرى ومخرات السيول.
وبحسب شراقي، فإن «منطقة شرق أفريقيا تتأثر بالظاهرة المناخية لا نينيا (La Niña) التي حدثت هذا العام حيث برودة سطح الماء في المحيط الهادي وتكوين كتل هوائية بارد مسببة أمطار غزيرة في معظم الأحيان على المنطقة الاستوائية والهضبة الإثيوبية. ويعتبر عام 2020 مرتفع الأمطار في منابع النيل الاستوائية والإثيوبية، فقد سجلت بحيرة فيكتوريا أعلى مستوى لها في التاريخ 1036.81 متر فوق سطح البحر محطمة الرقم السابق 1136.5 متر في 17 يونيو 1998، كما سجلت أيضاً بحيرة تانا 1789.73 متر فوق سطح البحر في 12 سبتمبر 2020 متخطية الرقم المسجل 1789.16 في 15 سبتمبر 1996».
توزع الفيضانات
شهدت 17 ولاية سودانية فيضانات وسيولاً مدمرة هذا العام، ولم تسلم سوى الولاية الشمالية التي لا تسقط عليها أمطار غزيرة ولم يفض النيل بها بسبب سد مروى الذي يخزن 12.5 مليار متر مكعب. في المقابل، كانت ولاية سنار أكثر الولايات السودانية عرضة للفيضانات والسيول هذا العام نظراً لشدة الأمطار وفيضانها من النيل الأزرق ورافدي الدندر والرهد ومخرات السيول الكثيرة في الولاية.
فيضانات النيل الأزرق تشكل أقل من 10 في المائة من جملة الفيضانات السودانية. وبالتالي لن يمنع «سد النهضة» عند تشغيله سوى فيضانات النيل الأزرق، وتظل معظم الولايات السودانية معرضة لمخاطر الفيضان، ويشكل سد النهضة خطراً جسيماً في حالة انهياره جزئياً أو كلياً على ولايات النيل الأزرق وسنار والجزيرة والخرطوم.

مكاسب الفيضان
رغم الخسائر الكبيرة التي شهدتها السودان، فإن لشدة الأمطار وزيارة إيراد النيلين الأبيض والأزرق، منافع كبيرة على السودان وكذلك مصر، نتيجة زيادة إيراد نهر النيل هذا العام عن الأعوام السابقة وتعويض ما تم تخزينه في إثيوبيا هذا العام (5 مليارات متر مكعب) رغم عدم التوافق على قواع الملء الأولى والتشغيل حتى اليوم. ويشير شراقي، فإن الفيضانات الحالية قدمت تحذيراً قوياً للسودان ومصر من خطورة «سد النهضة» سواء من ناحية التشغيل الأولى أو انهياره جزئيا أو كلياً، وأدى ذلك إلى تقارب وجهات النظر المصرية والسودانية خاصة من ناحية التعاون في الملء وإدارة السد ووجود اتفاق ملزم. ولفت خبير المياه إلى أن الفيضانات الواسعة «ساهمت في تحديد المواقع الأكثر تعرضاً للفيضانات، وألزمت الحكومة السودانية بالبدء بها في تطوير وإنشاء السدود الصغير ومخرات السيول التي تصب في الأنهار الكبرى».
وتدور الاتهامات في السودان إلى سنين الإهمال السابقة، وعدم وجود بنية تحتية لتصريف مياه الأمطار أو للتعامل مع السيول الموسمية، وتساهل النظام السابق مع المشاريع التي تضييق مجرى نهر النيل. وأيضاً، فتحت خسائر الفيضان الحالية الحديث عن إنشاء بحيرات صناعية وقنوات لتصريف المياه الزائدة في فترة الفيضان؛ ما يدرأ المخاطر عن الناس أو يخفف من حدتها، وفي الوقت ذاته يسخّر هذه المياه المهدرة لري وتخصيب أراضٍ بعيدة نسبياً عن مجرى النيل.

تعاون مصري ـ سوداني

في الواقع، تسعى مصر إلى تحقيق «استفادة مُثلى» من مياه الفيضانات التي تنحدر عبر الهضبة الإثيوبية والأراضي السودانية إلى نهر النيل. ويشير المهندس محمد السباعي، المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والري، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «يمكن الاستفادة من المياه الزائدة في السودان أو إثيوبيا، عبر تخزين المياه وزيادة إيراد نهر النيل، عبر مشاريع تنموية مشتركة تجري بالتعاون بين الدول الثلاث».
وأوضح المتحدث، أن السد العالي في مصر جاهز لتحقيق الاستفادة المُثلى من المياه الواردة.
وتشير بيانات الرصد والتنبؤ المصرية إلى أن فيضان هذا العام «أعلى من المتوسط»، وأن الوارد خلال أغسطس وسبتمبر حتى الآن أعلى من نظيره في العام الماضي. لكن اللجنة قالت، إنه من المبكر الحُكم بشكل نهائي على نوع وحجم الفيضان هذا العام، انتظاراً لشهر أكتوبر.
وفي سياق متصل، يأتي الحديث عن الرصد المصري لإيراد النهر في وقت تشهد فيه المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان، برعاية الاتحاد الأفريقي، إخفاقاً متواصلاً في الوصول إلى اتفاق نهائي ينظم قواعد ملء وتشغيل «سد النهضة» الذي تبنيه أديس أبابا على الرافد الرئيسي لنهر النيل، وتخشى القاهرة والخرطوم أضراره على الإيراد السنوي لنهر النيل، فضلاً عن تأثيرات أمنية وبيئية أخرى. ولقد أنجزت أديس أبابا نحو 75 في المائة من عملية بناء السد، في حين انتهت في يوليو الماضي من المرحلة الأولى لملء الخزان؛ تمهيداً لتشغيله.
وراهناً، تجري السلطات المصرية تنسيقاً مع نظيرتها السودانية، في ظل ارتفاع معدلات سقوط الأمطار بالعاصمة السودانية الخرطوم بشكل غير مسبوق، وارتفاع منسوب المياه بالمجري المائي. ووجه الوزير عبد العاطي بضرورة «العمل على استمرار تنفيذ إزالة التعديات على المجاري المائية، خصوصاً مجرى نهر النيل، لاستيعاب المياه الزائدة وقت الطوارئ أو في أثناء فترة السيول». كما شدد على متابعة اللجنة العليا «إيراد النهر لاتخاذ ما يلزم من إجراءات للتعامل مع الفيضان هذا العام».

السد العالي

تاريخياً، دشنت مصر السد العالي 1960 في جنوب البلاد لحمايتها من خطر الفيضان، ويقول خبراء، إن السد ساهم في حماية مصر خلال العقود الماضية من خطورة ارتفاع منسوب مياه النيل، نتيجة لتزايد معدلات الأمطار على منابع النيل.
وأظهر تقرير للهيئة المصرية العامة للسد العالي وخزان أسوان، أن القطاع يقوم حالياً بتنفيذ عملية إعادة تأهيل خزان أسوان القديم من خلال اتحاد مكاتب استشارية عالمية ليعمل لمدة 50 - 70 سنة آتية، حيث إن زيادة عمر خزان أسوان يساعد على زيادة عمر عمل السد العالي.
ويشير الخبراء إلى إمكانية التعاون بين كل دول حوض لنيل لوقف الهدر في المياه وزيادة إيراد النهر. ويقول الدكتور شراقي «إن الأزمة أظهرت ضرورة التعاون المصري السوداني لتنفيذ مشاريع مائية بالسودان وجنوب السودان عبر الاستفادة من خبرة وقدرة مصر، وتطوير النيل الأبيض لاستيعاب أكبر قدر من المياه وتأهيله لاستقبال مياه إضافية بعد إتمام مشروع قناة جونجلى بجنوب السودان».
وطالب خبير المياه الدولي بإجراء السودان دراسات هيدرولوجية على نهرى الدندر والرهد تمهيداً لشق قناة جديدة تصب في النيل الأزرق لنقل أكثر من مليارَي متر مكعب مياه إضافية. يضاف إلى ذلك مع تطبيق تشريعات وتنظيم التوسع العمراني والزراعي بالنسبة للمجاري المائية في السودان، وتجنب الزراعة والبناء على حرم النيل، فضلاً عن بناء سدود صغيرة وتطوير القديم منها طبقا للأسس الهندسية العالمية، ورفع الأدوار الأرضية في المناطق الأكثر عرضة للفيضان.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

كاتس
كاتس
TT

يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

كاتس
كاتس

راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قدرة وزير دفاعه الجديد يسرائيل كاتس، الذي يصفه بـ«البلدوزر»، في تحقيق ما يراه «انتصاراً حاسماً» في غزة، واستعادة المحتجزين في قطاع غزة، منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وذلك بعد أشهر من صراع نتنياهو الشخصي مع الوزير السابق يوآف غالانت، انتهى إلى إقالة الأخير. ما يلفت اهتمام المراقبين أن كاتس، الذي هو الحليف الأقرب لنتنياهو في معسكر «الصقور» الليكودي، لا يتمتع برصيد خبرة عسكرية سابقة، ولكن عليه أن يكمل حرباً مستمرة ضد حركة «حماس»، للرد على هجومها في 7 أكتوبر، الذي تسبب في مقتل 1206 أشخاص وأسر 251 شخصاً، لا يزال 97 منهم محتجزين في غزة، ويقول الجيش إن 34 منهم ماتوا.

لم يشغل يسرائيل كاتس أي منصب قيادي كبير في الجيش الإسرائيلي، بعكس سلفه يوآف غالانت، الذي كان جنرالاً قبل أن يصبح وزيراً للدفاع في 2022. إلا أن بنيامين نتنياهو أظهر ثقة في خبرته الواسعة وقيادته، قائلاً إنه «مجهز جيداً لقيادة الجهود الدفاعية خلال هذه الفترة الحرجة»، وفق ما نقلته صحيفة «يديعوت أحرونوت».

في المقابل، حرص وزير الدفاع الإسرائيلي المعيّن في تصريحات أولية على إظهار الولاء لأهداف نتنياهو التي لم يعد يثق في إدارة غالانت للعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة ولبنان.

وفق هذا التقدير، جاءت أول تصريحات كاتس لتعطي الأولوية لإعادة المحتجزين الإسرائيليين في قطاع غزة و«تدمير» حركة «حماس» الفلسطينية، و«حزب الله» اللبناني.

خلفية شخصية

لا تتوفر تفاصيل كثيرة عن نشأة وزير الدفاع الجديد، بيد أن المتداول إعلامياً هو أنه وُلد عام 1955 في مدينة عسقلان الساحلية، بإسرائيل لوالدين من منطقة ماراموريش في رومانيا، هما مئير كاتس ومالكا نيدويتش. وهو حاصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من الجامعة العبرية في القدس المحتلة، ثم نال دبلوم الدراسات العليا من الجامعة نفسها.

اجتماعياً، فإن كاتس الذي يقيم في مستوطنة «موشاف كفار أحيم» متزوج ولديه ولدان، ويجيد العمل في الزراعة، وفق موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية.

التحق كاتس بالجيش عام 1973، لكن الملاحظ أن علاقته مع المؤسسة العسكرية توقفت عند عام 1977؛ إذ خدم في صفوف قوات المظلات قبل هذا التاريخ بـ4 سنوات، ثم تطوّع في لواء المظليين وتدرّج في المناصب العسكرية ليصبح ضابط مشاه في عام 1976، قبل أن يترك الخدمة عام 1977.

مع مسيرته السياسية

على الصعيد السياسي، كان تيار الصقور المتشددين هو الاختيار المبكر لكاتس؛ إذ التحق بحزب الليكود اليميني الذي يرأسه نتنياهو، كما أن الصدفة قادته إلى عضوية الكنيست منذ عام 1998 بديلاً لإيهود أولمرت، وبالفعل عمل كاتس في عدد من لجانه، قبل أن يشغل مناصب وزارية عدة خلال العقدين الماضيين، منها وزير الزراعة، والنقل، والمخابرات، والمالية والطاقة.

بدأ مسار كاتس الوزاري مع الوزارات السيادية في عام 2019؛ إذ دشن ولايته الأولى وزيراً للخارجية، وشغل في الوقت نفسه منصب وزير الاستخبارات، كما شغل منصب وزير المالية وأدار السياسة الاقتصادية إبّان جائحة «كوفيد - 19» التي ضربت العالم.

متطرف استيطاني...في وزارة الخارجية

ووفق تسوية سياسية لتداول المناصب، جرى تعيين كاتس وزيراً للطاقة والبنية التحتية في يناير (كانون الثاني) 2023، ليتبادل المنصب مع وزير الخارجية إيلي كوهين، ومن ثم يبدأ كاتس بعد سنة واحدة فترة ولايته الثانية وزيراً للخارجية.

ما يُذكر هنا أن رؤية كاتس المتطرفة حيال «حرب غزة،» - التي لا يستبعد محللون أن تنعكس على أدائه العسكري - تنطلق من القول إن إسرائيل «كانت في ذروة الحرب العالمية الثالثة ضد إيران». وهو يتمسك في الوقت ذاته «بالتأكيد على أولوية إعادة المحتجزين لدى (حماس) في غزة»، وفق تصريحات أطلقها عبر منصة «إكس» في يناير الماضي.

وفي الحقيقة، عُرف كاتس بشخصيته الصدامية منذ وقت مبكّر، حين أُوقف عن رئاسة الاتحاد في الجامعة لمدة سنة في مارس (آذار) 1981، إثر مشاركته في أنشطة عنيفة احتجاجاً على وجود طلاب أراضي 48 بالحرم الجامعي. وفي مارس 2007 لاحقته تهم الاحتيال وخيانة الأمانة، بعدما أقدم على تعيينات في وزارة الزراعة بُنيت على محاباة سياسية وعائلية.

انعكس السلوك العدواني هذا - حسب مراقبين - على نهج كاتس الدبلوماسي مع الفاعلين الدوليين؛ إذ أثار أزمة دبلوماسية بعد وقت قصير من تعيينه لأول مرة وزيراً للخارجية، عندما قال إن البولنديين «يرضعون معاداة السامية».

غوتيريش وبلينكن

وكان مفاجئاً، إعلانه وبصفته وزيراً للخارجية، أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش «شخص غير مرغوب» فيه بسبب امتناع غوتيريش عن التنديد بالهجوم الصاروخي الإيراني في أكتوبر (تشرين الأول).

وأيضاً، في الشهر عينه، صدرت أوامر كاتس القاطعة لمسؤولين في وزارة الخارجية «ببدء إجراءات قانونية ضد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعدما حظرت باريس مشاركة الشركات الإسرائيلية في معرض تجاري بحري عسكري».

لكن البارز في «مشوار» وزير الدفاع الجديد مع حقيبة الخارجية، هو أنه لم يكن ضمن الشخصيات البارزة في المباحثات الإسرائيلية - الأميركية خلال 11 زيارة أجراها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023؛ إذ لم يعقد بلينكن سوى اجتماعات قليلة مع كاتس.

ومن ناحية ثانية، يلاحظ محللون مشاريع سياسية مثيرة للجدل والغضب العربي تبناها كاتس؛ إذ إنه صاحِب «خطة» زيادة عدد المستوطنين في مرتفعات الجولان بشكل كبير، التي قدّمها للكنيست في يناير 2004. وكذلك كان كاتس قد لوّح بالاستقالة من الحكومة احتجاجاً على خطة رئيس الوزراء السابق آرييل شارون للانسحاب من قطاع غزة من طرف واحد في مارس 2004.

لا لافتات عربية

من بين المواقف الأخرى لوزير الدفاع الجديد التي رصدتها تقارير إعلامية عربية، هي قرار تغيير لافتات الطرق الموجودة بحيث تكون جميع الأسماء التي تظهر عليها بالعبرية، خلال فترة عمله وزيراً للمواصلات في حكومة نتنياهو عام 2009، وبعدها بـ7 سنوات حثّ على «استخدام عمليات التصفية المدنية المستهدفة أو الاغتيالات» ضد قادة الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل «حركة بي دي إس».

وبالتوازي، لا يخفي مراقبون فلسطينيون وعرب مخاوفهم من إحياء مشروع قديم جديد سبق أن طرحه كاتس لبناء «جزيرة صناعية»، وأعاد الحديث عنه بعد توليه حقيبة الخارجية في يناير الماضي. وتعود التفاصيل الأولى لهذا المشروع إلى عام 2011. ووفق مقطع فيديو نشره كاتس عندما طرح الفكرة آنذاك، فإن الجزيرة يفترض أن تقام على بعد 4.5 كيلومتر قبالة سواحل قطاع غزة، وستكون بطول 4 كيلومترات وعرض كيلومترين، وبمساحة تصل إلى 5400 دونم (الدونم 1000 متر مربع). وهي ستضم، حسب المخطط الإسرائيلي، ميناءً للسفر ونقل البضائع، ومخازن، ومحطة تحلية مياه، ومحطات للكهرباء والغاز، ومراكز لوجيستية.

فيما يخص الإجراءات الأمنية، يوضح الفيديو أن إسرائيل ستبقى مسيطرة على محيط الجزيرة، وعلى إجراءات الأمن والتفتيش في موانئها، بينما ستتولى قوة شرطة دولية مسؤولية الأمن على الجزيرة وعلى نقطة تفتيش ستقام على الجسر الذي سيربط قطاع غزة بالجزيرة، بالإضافة إلى إنشاء جسر متحرك يمكن تفكيكه بحيث يقطع التواصل بين الجزيرة وقطاع غزة.

 

 

لا يخفي مراقبون فلسطينيون مخاوفهم من إحياء مشروع قديم سبق أن طرحه كاتس لبناء «جزيرة صناعية» قبالة ساحل غزة

تهجير غزة... وغيرها

الخطير أن هذا المقترح حظي آنذاك بتأييد نتنياهو ودعم قادة في أجهزة الأمن الإسرائيلية؛ ما يطرح تساؤلات متابعين حول سيناريوهات التمهيد لهذا المشروع مع وزير الدفاع الإسرائيلي الجديد بالمضي قدماً فيما يوصف بـ«مخطط تهجير الفلسطينيين»، لكن إلى البحر هذه المرة.

وإلى جانب رفضه وقف الحرب على غزة، يُعرف يسرائيل كاتس بتأييده لتوسيع السيطرة الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية، ودعمه القوي للاستيطان، ورفضه حل الدولتين. فهو يفضّل إنشاء كيان فلسطيني مستقل يرتبط مدنياً وسياسياً بالأردن، ويدعو إلى ربط قطاع غزة بمصر، ويبدو كاتس أكثر تشدداً من نتنياهو في بعض المواقف، مثل رفض إخلاء المستوطنات، الذي «سيؤدي إلى تحوّل المستوطنين لاجئين»، وفق صحيفة «إسرائيل هيوم».