تمرّد النيل... خسائر ومكاسب

الفيضانات هذا الموسم هي الأعلى منذ 1912

تمرّد النيل... خسائر ومكاسب
TT

تمرّد النيل... خسائر ومكاسب

تمرّد النيل... خسائر ومكاسب

تنفس السودانيون الصعداء بهدوء «تمرد النيل»، وانخفاض مناسيب مياه الفيضان بشكل تدريجي، التي ضربت البلاد خلال الأسابيع الماضية، مخلفة عشرات الضحايا وآلاف المشردين. غير أنه، رغم التداعيات السلبية الفادحة بشرياً واجتماعياً واقتصادياً، التي أضافت لمعاناة السودان المضطرب سياسياً وأمنياً، يرى البعض أن الأزمة لم تخلُ بعد من منافع ودروس إيجابية، يمكن تطويرها لمكاسب مستقبلاً، بحيث يجري ترويض النهر ليصبح جسراً للتنمية، ومدخلاً لتعضيد العلاقات بين دوله، في ظل نزاعات تاريخية بشأن تقاسم مياه أطول أنهار العالم.
للعلم، يظل السودان على موعد سنوي مع فيضان النيل في فصل الصيف، بفعل الأمطار الغزيرة بين شهري يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول)، لكن وفق تصريحات رسمية، فإن هذا العام شهد ارتفاعاً قياسياً لمنسوب مياه النيل الأزرق الذي يلتقي مع النيل الأبيض في الخرطوم لتشكيل نهر النيل. ويقول ياسر عباس، وزير الري السوداني، إن نسبة الفيضانات هذا الموسم، هي الأعلى منذ فيضان النيل عام 1912، فقد تخطت في بعض الأيام حاجز 17 متراً (57 قدماً).

يتميز السودان، وهو دولة ذات مساحة كبيرة نحو 1.9 مليون كيلومتر مربع مقسمة إلى 18 ولاية، بمعدلات أمطار مرتفعة تتسبب سنوياً في حدوث فيضانات وسيول، خاصة عندما يرتفع منسوب النيلين الأبيض والأزرق. وتعد مناطق شرق السودان، مثل القضارف وكسلا والنيل الأزرق والجنينة وجنوب كردفان، ذات معدلات عالية للأمطار، وأهم المناطق التي تشهد فيضانات سنوية هي ضفاف النيل الأبيض وكثير من الأراضي الزراعية في العاصمة الخرطوم، خاصة جزيرة توتي.
هذا، ولا يمكن منع وقوع الفيضانات، بحسب خبراء المياه، لكن على الأقل يمكن الحد من مخاطرها، والاستفادة من هذه الكمية الكبيرة للمياه، خاصة مع الزيادة السكانية في السودان وباقي دول حوض النيل، والتي أصبحت في أمس الحاجة إلى كل قطرة مياه ووقف إهدار تلك المياه.

خسائر فادحة

البداية كانت مع تساقط غزير للأمطار على السودان بدءاً من أوائل أغسطس (آب) الماضي؛ ما أدى إلى فيضانات وسيول مدمرة في 17 ولاية سودانية. ولقد نتج من هذه الفيضانات، بحسب إحصاءات أممية وسودانية، وفاة 114 مواطناً، وإصابة 54 آخرين، وتضرر أكثر من نصف مليون شخص، وانهيار كلي 35157 منزلاً، وجزئي لأكثر من 50616 منزلاً، ونفوق 5482 من المواشي، وغرق 43612 فداناً.
كذلك، أصاب الضرر 79 قطاعاً تعليمياً، و9 قطاعات صحية، 3 قطاعات خدمية، و694 مسجداً؛ الأمر الذي دعا مجلس الأمن والدفاع المدني السوداني حالة الطوارئ في كل أنحاء البلاد لمدة 3 أشهر، كما قرر اعتبار السودان منطقة كوارث طبيعية.
وذكر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أن العواصف والفيضانات غير المسبوقة أثرت بشكل خاص على ولايات الخرطوم وشمال دارفور وسنار، كما فجّر نهر النيل ضفافه في مناطق عدة في البحر الأحمر وولايات الشمال؛ ما أدى إلى النزوح وزيادة الاحتياجات الإنسانية.
ويشير المكتب الأممي إلى أن أكثر من 506 آلاف شخص تضرروا منذ بدء هطول الأمطار، منهم أكثر من 110 آلاف خلال الأسبوع الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي. كما أن تداعيات الفيضان، هددت منطقة البجراوية الأثرية، في سابقة هي الأولى من نوعها للمنطقة التي تبعد 500 متر عن مجرى نهر النيل، وتقع على بعد 200 كيلومتر إلى الشمال من الخرطوم.
وللعلم، تضم منطقة البجراوية الأثرية أهرام مروى الشهيرة، والمدينة الملكية لهذه الإمبراطورية المركزية التي حكمت من سنة 350 قبل الميلاد إلى سنة 350 ميلادية.
وما زاد من خطورة الفيضانات هو انهيار بعض الجسور والمنشآت المائية، مثل سد بوط بولاية النيل الأزرق في 29 يوليو (تموز) الماضي. ويقع هذا السد على بعد 23 كم شرق الحدود مع جنوب السودان، ويبلغ طوله نحو 2 كم، ويخزن نحو 5 ملايين متر مكعب على مساحة 4 كيلومترات مربعة بمتوسط عمق نحو 1.25 متر. ويستفيد من السد نحو 40 ألف نسمة، ولقد أدت الأمطار الغزيرة إلى انهياره وتدمير أكثر من 600 منزل بأحياء مدينة بوط وتشريد المئات.

المتهم الرئيسي

رغم معارضة السودان ملء إثيوبيا خزان «سد النهضة» من جانب واحد، في يوليو الماضي، ووقوفه إلى جانب مصر في ضرورة إلزام إثيوبيا بتوقيع اتفاق ينظم ملء وتشغيل السد، الجاري تدشينه على نهر النيل الأزرق والمقام على الحدود السودانية، للحد من تداعياته السلبية. غير أن السودان برّأ السد الإثيوبي من الفيضانات، بل على النقيض قال عباس «لو اكتمل سد النهضة، لما تعرّضت الخرطوم لموجة من الفيضانات». كذلك، رفض مزاعم إغلاق مصر السد العالي لمنع تمرير المياه، مؤكداً أن السبب الأساسي هو غزارة الأمطار الغزيرة التي هطلت في الهضبة الإثيوبية.
وحقاً أرجع المسؤولون والخبراء فيضانات السودان، إلى معدل الأمطار العالي في السودان، وكذلك الهضبة الإثيوبية، بسبب التغيرات المناخية التي تشهدها المنطقة والكرة الأرضية بشكل عام. إذ قال الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بكلية الدراسات الأفريقية العليا جامعة القاهرة، لـ«الشرق الأوسط»، في لقاء معه «كانت شدة الأمطار هذا العام هي العامل الرئيسي في حدوث الفيضانات والسيول في السودان، حيث فاضت الأنهار الأزرق والسوباط وعطبرة نتيجة الأمطار الإثيوبية والسودانية، بالإضافة إلى الأنهار والروافد ومخرات السيول في السودان نتيجة شدة الأمطار الداخلية التي بلغت نحو 800 مليار متر مكعب خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وهي تعادل ضعف التساقط السنوي على السودان».
من جهة ثانية، بلغت كمية الأمطار التي سقطت على إثيوبيا في تلك الفترة نحو 700 مليار متر مكعب، وهي تشكل 75 في المائة من جملة الأمطار السنوية على الهضبة الإثيوبية. كما ساعد على خطورة هذه الفيضانات الإشغالات العشوائية لبعض السكان سواء للزراعة أو السكن على السهول الفيضية في حرم الأنهار الكبرى ومخرات السيول.
وبحسب شراقي، فإن «منطقة شرق أفريقيا تتأثر بالظاهرة المناخية لا نينيا (La Niña) التي حدثت هذا العام حيث برودة سطح الماء في المحيط الهادي وتكوين كتل هوائية بارد مسببة أمطار غزيرة في معظم الأحيان على المنطقة الاستوائية والهضبة الإثيوبية. ويعتبر عام 2020 مرتفع الأمطار في منابع النيل الاستوائية والإثيوبية، فقد سجلت بحيرة فيكتوريا أعلى مستوى لها في التاريخ 1036.81 متر فوق سطح البحر محطمة الرقم السابق 1136.5 متر في 17 يونيو 1998، كما سجلت أيضاً بحيرة تانا 1789.73 متر فوق سطح البحر في 12 سبتمبر 2020 متخطية الرقم المسجل 1789.16 في 15 سبتمبر 1996».
توزع الفيضانات
شهدت 17 ولاية سودانية فيضانات وسيولاً مدمرة هذا العام، ولم تسلم سوى الولاية الشمالية التي لا تسقط عليها أمطار غزيرة ولم يفض النيل بها بسبب سد مروى الذي يخزن 12.5 مليار متر مكعب. في المقابل، كانت ولاية سنار أكثر الولايات السودانية عرضة للفيضانات والسيول هذا العام نظراً لشدة الأمطار وفيضانها من النيل الأزرق ورافدي الدندر والرهد ومخرات السيول الكثيرة في الولاية.
فيضانات النيل الأزرق تشكل أقل من 10 في المائة من جملة الفيضانات السودانية. وبالتالي لن يمنع «سد النهضة» عند تشغيله سوى فيضانات النيل الأزرق، وتظل معظم الولايات السودانية معرضة لمخاطر الفيضان، ويشكل سد النهضة خطراً جسيماً في حالة انهياره جزئياً أو كلياً على ولايات النيل الأزرق وسنار والجزيرة والخرطوم.

مكاسب الفيضان
رغم الخسائر الكبيرة التي شهدتها السودان، فإن لشدة الأمطار وزيارة إيراد النيلين الأبيض والأزرق، منافع كبيرة على السودان وكذلك مصر، نتيجة زيادة إيراد نهر النيل هذا العام عن الأعوام السابقة وتعويض ما تم تخزينه في إثيوبيا هذا العام (5 مليارات متر مكعب) رغم عدم التوافق على قواع الملء الأولى والتشغيل حتى اليوم. ويشير شراقي، فإن الفيضانات الحالية قدمت تحذيراً قوياً للسودان ومصر من خطورة «سد النهضة» سواء من ناحية التشغيل الأولى أو انهياره جزئيا أو كلياً، وأدى ذلك إلى تقارب وجهات النظر المصرية والسودانية خاصة من ناحية التعاون في الملء وإدارة السد ووجود اتفاق ملزم. ولفت خبير المياه إلى أن الفيضانات الواسعة «ساهمت في تحديد المواقع الأكثر تعرضاً للفيضانات، وألزمت الحكومة السودانية بالبدء بها في تطوير وإنشاء السدود الصغير ومخرات السيول التي تصب في الأنهار الكبرى».
وتدور الاتهامات في السودان إلى سنين الإهمال السابقة، وعدم وجود بنية تحتية لتصريف مياه الأمطار أو للتعامل مع السيول الموسمية، وتساهل النظام السابق مع المشاريع التي تضييق مجرى نهر النيل. وأيضاً، فتحت خسائر الفيضان الحالية الحديث عن إنشاء بحيرات صناعية وقنوات لتصريف المياه الزائدة في فترة الفيضان؛ ما يدرأ المخاطر عن الناس أو يخفف من حدتها، وفي الوقت ذاته يسخّر هذه المياه المهدرة لري وتخصيب أراضٍ بعيدة نسبياً عن مجرى النيل.

تعاون مصري ـ سوداني

في الواقع، تسعى مصر إلى تحقيق «استفادة مُثلى» من مياه الفيضانات التي تنحدر عبر الهضبة الإثيوبية والأراضي السودانية إلى نهر النيل. ويشير المهندس محمد السباعي، المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والري، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «يمكن الاستفادة من المياه الزائدة في السودان أو إثيوبيا، عبر تخزين المياه وزيادة إيراد نهر النيل، عبر مشاريع تنموية مشتركة تجري بالتعاون بين الدول الثلاث».
وأوضح المتحدث، أن السد العالي في مصر جاهز لتحقيق الاستفادة المُثلى من المياه الواردة.
وتشير بيانات الرصد والتنبؤ المصرية إلى أن فيضان هذا العام «أعلى من المتوسط»، وأن الوارد خلال أغسطس وسبتمبر حتى الآن أعلى من نظيره في العام الماضي. لكن اللجنة قالت، إنه من المبكر الحُكم بشكل نهائي على نوع وحجم الفيضان هذا العام، انتظاراً لشهر أكتوبر.
وفي سياق متصل، يأتي الحديث عن الرصد المصري لإيراد النهر في وقت تشهد فيه المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان، برعاية الاتحاد الأفريقي، إخفاقاً متواصلاً في الوصول إلى اتفاق نهائي ينظم قواعد ملء وتشغيل «سد النهضة» الذي تبنيه أديس أبابا على الرافد الرئيسي لنهر النيل، وتخشى القاهرة والخرطوم أضراره على الإيراد السنوي لنهر النيل، فضلاً عن تأثيرات أمنية وبيئية أخرى. ولقد أنجزت أديس أبابا نحو 75 في المائة من عملية بناء السد، في حين انتهت في يوليو الماضي من المرحلة الأولى لملء الخزان؛ تمهيداً لتشغيله.
وراهناً، تجري السلطات المصرية تنسيقاً مع نظيرتها السودانية، في ظل ارتفاع معدلات سقوط الأمطار بالعاصمة السودانية الخرطوم بشكل غير مسبوق، وارتفاع منسوب المياه بالمجري المائي. ووجه الوزير عبد العاطي بضرورة «العمل على استمرار تنفيذ إزالة التعديات على المجاري المائية، خصوصاً مجرى نهر النيل، لاستيعاب المياه الزائدة وقت الطوارئ أو في أثناء فترة السيول». كما شدد على متابعة اللجنة العليا «إيراد النهر لاتخاذ ما يلزم من إجراءات للتعامل مع الفيضان هذا العام».

السد العالي

تاريخياً، دشنت مصر السد العالي 1960 في جنوب البلاد لحمايتها من خطر الفيضان، ويقول خبراء، إن السد ساهم في حماية مصر خلال العقود الماضية من خطورة ارتفاع منسوب مياه النيل، نتيجة لتزايد معدلات الأمطار على منابع النيل.
وأظهر تقرير للهيئة المصرية العامة للسد العالي وخزان أسوان، أن القطاع يقوم حالياً بتنفيذ عملية إعادة تأهيل خزان أسوان القديم من خلال اتحاد مكاتب استشارية عالمية ليعمل لمدة 50 - 70 سنة آتية، حيث إن زيادة عمر خزان أسوان يساعد على زيادة عمر عمل السد العالي.
ويشير الخبراء إلى إمكانية التعاون بين كل دول حوض لنيل لوقف الهدر في المياه وزيادة إيراد النهر. ويقول الدكتور شراقي «إن الأزمة أظهرت ضرورة التعاون المصري السوداني لتنفيذ مشاريع مائية بالسودان وجنوب السودان عبر الاستفادة من خبرة وقدرة مصر، وتطوير النيل الأبيض لاستيعاب أكبر قدر من المياه وتأهيله لاستقبال مياه إضافية بعد إتمام مشروع قناة جونجلى بجنوب السودان».
وطالب خبير المياه الدولي بإجراء السودان دراسات هيدرولوجية على نهرى الدندر والرهد تمهيداً لشق قناة جديدة تصب في النيل الأزرق لنقل أكثر من مليارَي متر مكعب مياه إضافية. يضاف إلى ذلك مع تطبيق تشريعات وتنظيم التوسع العمراني والزراعي بالنسبة للمجاري المائية في السودان، وتجنب الزراعة والبناء على حرم النيل، فضلاً عن بناء سدود صغيرة وتطوير القديم منها طبقا للأسس الهندسية العالمية، ورفع الأدوار الأرضية في المناطق الأكثر عرضة للفيضان.


مقالات ذات صلة

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع غالانت (رويترز)

أبرز «وزراء الحرب» في تاريخ إسرائيل

برزت طوال تاريخ إسرائيل، منذ تأسيسها عام 1948، أسماء عدد من وزراء الدفاع؛ لارتباطهم بحروب كبيرة في المنطقة، لعلّ أشهرهم في الشارع العربي موشيه ديان

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

يسرائيل كاتس... «البلدوزر» المدني المولج بمهمة استعادة «محتجزي» غزة

راهن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قدرة وزير دفاعه الجديد يسرائيل كاتس، الذي يصفه بـ«البلدوزر»، في تحقيق ما يراه «انتصاراً حاسماً» في غزة

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر