بين الدولار والليرة ضاع الكتاب في لبنان

80 % من المطابع قد تغلق أبوابها خلال وقت قصير

الكتب في لبنان ليس هذا زمنها
الكتب في لبنان ليس هذا زمنها
TT

بين الدولار والليرة ضاع الكتاب في لبنان

الكتب في لبنان ليس هذا زمنها
الكتب في لبنان ليس هذا زمنها

فوضى تسود سوق الكتب في لبنان، التي ارتفعت أسعارها، حتى بات الاستغناء عن الكتاب أسهل من الحصول عليه. كل «دار نشر» تحاول أن تجد مخرجاً على طريقتها. هذا ما زاد الأمر تعقيداً، وفاقم الأزمة. السعر الوسطي للكتاب قفز من 10 أو 15 ألف ليرة إلى ما يقارب 70 ألفاً أو 100 ألف، في الوقت الذي لم ترتفع فيه المداخيل، بل حسم منها أحياناً، وتضاعف عدد العاطلين عن العمل، بفعل التداعي الاقتصادي الذي أضيفت إليه تعقيدات رافقت «كورونا». في بلد الكتاب عزّ الكتاب، والسبب هو انهيار الليرة مقابل سعر الدولار، فيما كل التكاليف تحتسب بالعملة الأميركية.
«نحن في لحظة ارتباك، وقلق واضطراب، كل طرف فيها، يبحث عن كيفية البقاء حياً. لكن ما هو مطلوب كي يبقى الجميع، هو أن نشكل سلسلة من التضامن والتعاون بين الكاتب والناشر والموزع وصاحب المطبعة، يتنازل كل منا، ويضحي قليلاً كي نبقى جميعنا، وننجو معاً»، يقول الإعلامي أنطوان سعد، صاحب دار نشر «سائر المشرق» الذي يعتبر أن الظرف استثنائي، يحتم على الناشر اعتبار نفسه صاحب رسالة. ويضيف: «دعنا نتصور اللبناني من دون كتاب. هذا أمر لا أستطيع أن أتخيله، لذلك علينا أن نجد الحلول».
ولكن كيف؟ كل التكاليف تحتسب بالدولار، من أسعار الورق إلى الحبر، وفاتورة الطباعة، لكن هذا الدولار الذي كان يساوي 1500 ليرة أصبح 7500 ليرة بالمعنى الفعلي المتداول، على أقل تقدير في الوقت الحالي. وجلّ ما تفعله غالبية الدور، أن تحتسب الدولار بأقل من السوق، فمنها ما تحتسبه بأربعة آلاف وبينها ما تحتفظ بحقها بالتسعير تبعاً لسعر الصرف اليومي المتداول. وهذا يعني أن سعر الكتاب بات يخضع لمتغيرات، وكأنه في بورصة.
بشارر شبارو صاحب «دار ضفاف» يشرح لنا أنه إذا كان سعر الكتاب عشرة دولارات مثلاً، فهو يبيعه في لبنان، بشكل استثنائي بحسم 50 في المائة ليصبح خمسة دولارات، ويحتسب الدولار تبعاً لسعر الصرف اليومي. ما يعني أن سعر الكتاب في هذه الحالة سيتراوح بين 30 و40 ألف ليرة. معتبراً أن هذا أقصى ما يمكنه فعله، خاصة أن المطابع تشترط أحياناً التسديد بالدولار ونقداً بسبب الصعوبات المصرفية. وبالتالي يقول شبارو: «نعم أعترف أن ثمة أزمة كبيرة، وهناك مشاكل، وعلينا أن نواجهها». ويضيف: «أنا لا أقول بأنني وجدت الخيار الصحيح، لكن ثمة منطقاً للأمور يفرض علينا خياراتنا».
مؤسس مشروع «بوك أوتليت» وموقع «كوتوبون دوت كوم» حسن باجوق، يعتبر أنه من المؤسف أن دور نشر كبيرة لها أسواقها الرابحة خارج لبنان، لا تراعي القارئ اللبناني ولا ظروفه الصعبة. وهي فوق سعر الصرف الذي تريده تبعاً لبورصة السوق، فإنها تشترط على المكتبات التسديد بالدولار الأميركي، وهو أمر مستعصٍ جداً، أن لم يكن مستحيلاً. ويتساءل باجوق: «كيف بمقدور (دار رياض الريس) التي تعاني مثلاً، أن تكون قادرة على احتساب سعر الدولار بثلاثة آلاف، وكذلك (شركة المطبوعات)، بينما لا تريد دور أخرى وازنة أن تتفهم وضع القارئ في لبنان؟» ويضيف: «ثمة سؤال آخر، هو كيف لي أن أسدد بالدولار لدور النشر، فيما أنا لا أستطيع أن أبيع الكتاب للقارئ اللبناني، إلا بالليرة اللبنانية؟ بالنتيجة بت اعتذر من القراء في لبنان عن بيع بعض الكتب، فيما أستطيع أن أرسلها إلى خارج لبنان، لأن ثمنها سيدفع بالدولار».
يعتبر باجوق، بحسب خبرته بأن التكلفة الوسطية لنسخة من كتاب يطبع منه ألف نسخة مثلاً هي دولار واحد، دون احتساب حقوق المؤلف أو تكاليف الترجمة وحقوقها في حال كان الكتاب في الأصل بلغة أخرى.
وبما أن المؤلفين حقوقهم غير مدفوعة في الغالب، ويستعاض عنها بإعطائهم نسخاً، فمعناه أن الناشر حين يسعر الكتاب بعشرة دولارات، فإن نسبة الربح هي عشرة أضعاف التكلفة. وإذا ما فكرنا بكمية المبيع خارج لبنان التي هي كبيرة، فعندها نعرف أن رفع الأسعار على القارئ اللبناني في الوضع الذي نحن فيه ليس عادلاً، وبعض التنازل من دور النشر ممكن جداً، ولا يشكل عبئاً عليهم».
بنتيجة هذا الوضع المستجد، انخفضت نسبة مبيع الكتب في لبنان إلى ما يقارب 80 في المائة في بعض المكتبات. وما يزعج أصحاب المكتبات، ليس التسعير المرتفع للكتب الجديدة فقط، بل رفع أسعار الكتب القديمة، والتي هي أصلاً طبعت قبل تدهور سعر صرف الليرة. «الكتب التي طبعت منذ مطلع هذا العام لا تتجاوز الألف عنوان، ونفهم أن تحتسب بأسعار مختلفة، لكن ما مدعاة رفع أسعار الكتب القديمة التي يعود عمرها لسنوات، والتي من مصلحة دار النشر بيعها بدل تكديسها؟»، يتساءل حسن باجوق.
«دار سائر المشرق» تتبع سياسة مختلفة، فقد ارتأى صاحبها الإعلامي أنطوان سعد أن يحمّل العبء للكاتب بدلاً من القارئ. ويقول: «لا باس أن يدفع الكاتب وهو شخص واحد، عبء دفع ألف دولار أو ألفين، تبعاً لتكلفة الكتاب، ويستفيد في المقابل كل القراء، ونشجعهم على القراءة. فالكاتب القادر على دفع التكلفة، يعنيه بشكل أساسي أن تصل كلمته. وهذا ما نحاول تحقيقه».
البيع في لبنان غالبيته بالمفرق، وعدد الكتب المبيعة ليس بالكثير نسبة إلى التسويق خارج لبنان. «ومن يريد لكتابه أن يباع في غياب المعارض واستحالة الربح أو حتى تغطية النفقات، لا يمكن أن يسعره بغير السعر القديم، لأن الأجور لم ترتفع بل انخفضت، أو اختفت» يقول سعد. ويضيف: «قناعتي أنه في الظروف الخاصة التي نعيشها، لا بد أن يكون الكتاب مدعوماً كما الدواء والغذاء، وبما أن هذا من المحال، يبقى العبء على الكاتب حين يستطيع، وعلى دار النشر حين تتمكن من ذلك. ونحن طبعنا أربعة كتب على نفقتنا، حين وجدنا أن المؤلف غير قادر. وكل أربعة كتب قوية يغطيها مؤلفوها، تمنحنا فرصة طباعة كتاب على نفقة الدار».
في ظل الوضع الحالي يقدر سعد أن 80 في المائة من المطابع في لبنان ستغلق أبوابها خلال سنة، ولن تبقى على قيد الحياة سوى أنواع محددة من الكتب. الكتاب الجيد، والكتاب المقرر في الجامعات، ونوع ثالث هو الذي وراءه جهة داعمة. وتبدو الأجواء متجهمة بما يتعلق بمعارض الكتب العربية المقبلة، إذ إن معرض الشارقة الذي كان يفترض أن يعقد في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، قد تم إلغاؤه من الآن. فيما لا تزال مواعيد المعارض الأخرى في مهب الريح، في ظل أزمة وباء كورونا، التي لا تزال بين مد وجزر.
يعدنا سعد بأن كتاب «سائر المشرق» سيحافظ على سعره المنخفض في لبنان لآخر السنة على الأقل، بانتظار ما سيحدث. وهو لم يقلل عدد الموظفين الثابتين، الذين لا يتجاوزون الأربعة، ويرى أن التضحيات الجماعية، في مجال النشر، بمقدورها أن تعين الجميع على تجاوز المحنة، وتسمح للقارئ اللبناني بالحصول على الكتاب.
بين من يعتقدون بأن إنصاف القارئ لا يمكن أن يكون على حساب أرباحهم كناشرين، ومن قرروا المضي بالبيع بأسعار منخفضة ولو بخسارة في لبنان يمكن تعويضها في مكان آخر، ومن يمسكون العصا من منتصفها كي لا يخسروا كل شيء، تعصف بالكتاب اللبناني أزمة غير مسبوقة، وهو سيبقى يتأرجح لمدة قد تطول، طالما أن الوضع المالي على ما هو عليه، والحلول لن تأتي غداً.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.