يد على الزناد وعين على المفاوضات... هجوم «طالبان» على قندوز يكشف استراتيجيتها

وفد «طالبان» يصل الدوحة لإجراء محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية (أ.ب)
وفد «طالبان» يصل الدوحة لإجراء محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية (أ.ب)
TT

يد على الزناد وعين على المفاوضات... هجوم «طالبان» على قندوز يكشف استراتيجيتها

وفد «طالبان» يصل الدوحة لإجراء محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية (أ.ب)
وفد «طالبان» يصل الدوحة لإجراء محادثات السلام مع الحكومة الأفغانية (أ.ب)

ظل خان أغا صابراً يتحمل العنف في قندوز على مدى سنوات، لكن ما أثار انزعاجه كان الهجوم الذي شنته حركة «طالبان» على المدينة الاستراتيجية بشمال شرقي أفغانستان، في وقت تستعد فيه الحكومة والمتمردون لدخول محادثات سلام تاريخية.
قال أغا، وهو سائق يبلغ من العمر 46 عاماً، لوكالة «رويترز» للأنباء «يعيش معظم سكان قندوز في خوف مثلي... عندما ننظر إلى ما يجري، يمكن (استنتاج) أن أي شيء قد يحدث في أي لحظة».
جاء هجوم «طالبان»، التي طوقت قندوز وأوشكت على الاستيلاء عليها أواخر الشهر الماضي، قبل أسابيع فقط من جلوس حكومة كابل مع أعدائها الألداء في الدوحة، يوم السبت الماضي، لبدء محادثات تحمل وصف «التاريخية» بهدف إنهاء الحرب الدائرة منذ 19 عاماً والتي قُتل وأصيب فيها أكثر من 100 ألف مدني.
كانت مراسم الافتتاح في فندق كبير في الدوحة والتي تخللتها دعوات السلام من وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو ونداءات وقف إطلاق النار من عدد من الشخصيات المرموقة عبر رابط فيديو، تتناقض بشكل صارخ مع أعمال العنف الأخيرة على الأرض في قندوز.
وبعد ساعات فحسب من بدء المحادثات، اندلعت الاشتباكات بين القوات الحكومية و«طالبان» بمختلف أنحاء البلاد، حسبما قال مسؤولون، في حين يسلط الضوء على صعوبة التحدي المتمثل في إنهاء الحرب الطويلة.
كانت أعنف تلك الاشتباكات وقعت (السبت) في قندوز، عندما اشتبكت «طالبان» مرة أخرى مع قوات الأمن بهدف السيطرة على الطرق السريعة الرئيسية، في حين شن الجيش الأفغاني ضربات جوية ومدفعية.
كان أغا قد تقطعت به السبل لمدة أربعة أيام خارج المدينة، التي يبلغ عدد سكانها 270 ألف نسمة، في الهجوم الأكبر الشهر الماضي عندما عجز عن الوصول إلى أسرته في طريق عودته من عملية تسليم. ومنذ ذلك الحين قام بتخزين ما يكفي من الطعام لمدة ثلاثة أشهر في منزله الصغير.
ولم يحظ هجوم أغسطس (آب) بتغطية تذكر رغم أنه الأسوأ منذ عام 2015 عندما سقطت قندوز لفترة وجيزة في أيدي «طالبان».
ويكشف تدقيق وكالة «رويترز» في هذا الهجوم كيف كثف المتمردون الضغط في الآونة الأخيرة على هذا المركز الحضري الاستراتيجي، الذي يمثل بوابة في الشمال للأقاليم الغنية بالمعادن ولوسط آسيا، ومركز نقل وتهريب المخدرات.
وتنفي «طالبان» هجوم قندوز وتقول، إن مقاتليها لم يهاجموا سوى قواعد عسكرية رداً على قيام القوات بإطلاق النار على مناطق قريبة.
وقال ذبيح الله مجاهد، المتحدث باسم «طالبان»، «منذ بداية العام لم نخطط لشن هجمات ضخمة على أي مدينة كبيرة لسبب وحيد، هو عملية السلام... الهجوم على المدن الكبيرة يمكن أن يلحق الضرر بهذه العملية».
ورغم فشلها في نهاية المطاف، فإن المحاولة الجريئة للسيطرة على مركز حضري استراتيجي والضغط المتواصل يكشفان أن «طالبان» تطبق استراتيجية القتال مع المحادثات، وتتجاهل إلى حد كبير النداءات والمطالب الدولية الداعية إلى تخفيف حدة العنف والاتفاق على وقف إطلاق النار.
وقال دبلوماسي غربي كبير «شعلة الطموح لتوسيع السيطرة على الأراضي لم تنطفئ... يريدون أن يظل مقاتلوهم نشطين على الأرض، وهذا مبعث قلق كبير قبل المحادثات؛ لأن أساس الثقة وبناء الثقة يعتمدان على خفض العنف».
يأتي استعراض «طالبان» قوتها في وقت تسحب فيه الولايات المتحدة قواتها على عجل من أفغانستان؛ تنفيذاً لوعود الرئيس دونالد ترمب بإنهاء أطول حرب أميركية. وحدد اتفاق أُبرم في فبراير (شباط) بين واشنطن و«طالبان» موعداً للانسحاب النهائي في مايو (أيار) 2021، على أن يكون ذلك رهناً بضمانات أمنية معينة.
ومن المتوقع خفض قوام القوات الأميركية بأفغانستان إلى 4500 بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) نزولاً من أكثر من 100 ألف في 2011.
وقالت إليزابيث ثريلكيلد، نائبة مدير برنامج جنوب آسيا في مركز «ستيمسون» ومقره واشنطن، إن «هجوماً خطيراً شنّته (طالبان) على مدينة قندوز، مخالف، في روحه على الأقل، لاتفاق الولايات المتحدة و(طالبان) ونذير شؤم قبل المفاوضات بين الأفغان».
وشنّت «طالبان» هجومها في الفترة من 20 إلى 26 أغسطس، بعد إحكام قبضتها تدريجياً على المناطق الريفية المحيطة بقندوز، واستولت على نقاط تفتيش عدة وقاعدتين على الطرق الرئيسية المؤدية إلى المدينة.
وقال ثلاثة من أعضاء المجلس الإقليمي، إن هذه الخطوات أشعلت المخاوف من أن المتمردين أصبحوا في طريقهم لفرض سيطرتهم. وقال عضو المجلس، أسد الله سعدات «اقتربوا من المدينة لدرجة أن أسلحتهم الصغيرة كان يمكنها الوصول بسهولة إلى مقر الشرطة ومجمع الحاكم».
وشرد القتال أكثر من 60 ألفاً، حسبما قال مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.
والآن بعد أن جلست الحكومة و«طالبان» معاً لإجراء محادثات سلام، بعد أشهر من التأخير، يقول مسؤولون، إن الأولوية القصوى هي للتفاوض على وقف شامل لإطلاق النار، وهو ما طلبته الحكومة الأفغانية مرات عدة، لكن «طالبان» ترفضه.
وقالت ثريلكيلد «تمثل قدراتهم العسكرية تهديداً للحكومة الأفغانية، ومن المرجح أن يواصلوا الهجمات في الأشهر المقبلة مع بدء المفاوضات».
وقال فؤاد أمان، المتحدث باسم وزارة الدفاع، إن القوات الأفغانية صدت مقاتلي «طالبان» بضربات جوية عدة. وأضاف، أنه في واحد من أشد أيام القتال ضراوة، لاقى 34 من مقاتلي «طالبان» حتفهم وأصيب 24.
وقال عضو في المجلس المحلي، إن أكثر من 100 من «طالبان» قُتلوا وأصيب 100 آخرون.
وعلى الرغم من انتهاء التهديد المباشر للمدينة، يقول أفراد من قوات الأمن المحلية لـ«رويترز»، إن المنطقة ما زالت تحت ضغط.
وقال رجل، طلب عدم نشره اسمه، إنه خلال سبعة أعوام قضاها في قوات الأمن الأفغانية، في بعض من أشد المناطق صعوبة، لم يتعرض قط لمثل هذا الضغط الذي تعرض له في قندوز عندما ظلت وحدته في مرمى النيران على نحو متواصل ولم يكن بإمكانهم ترك عرباتهم في مكان مكشوف ولو لبضع ساعات دون أن تنطلق عليها الصواريخ.
وأضاف «نظرية شائعة هنا... كلما زادت المكاسب بساحة القتال، زادت المكاسب على طاولة المفاوضات... لقد عشت أسوأ أيام عمري هنا».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟