أورويل في كوبا

كيف تُرجِمت رواية «1984» بعد غروب كاسترو؟

فيدل كاسترو
فيدل كاسترو
TT

أورويل في كوبا

فيدل كاسترو
فيدل كاسترو

كان قيامي ببحث حول كوبا، أنا الكندية المقيمة في نيويورك، تجربة مربكة. حين أصف شغلي، يشعر معظم الناس بالدهشة، بالاستغراب، وحتى بالحسد: هل ذهبتِ إلى هناك فعلاً؟ أحياناً تبدو الآراء منقسمة انقسامها حول أي جدال إسرائيلي - فلسطيني. في ألبرتا، قلب كندا المحافظ (كما يوصف)، تقابَل دراستي باللامبالاة. حين خططت لرحلتي الأولى إلى هافانا، علق أحد الأصدقاء: «يمكنك الذهاب حين تكونين في الستين. الآن، لم لا تجربي مكاناً أكثر متعة، مثل الأرجنتين؟».
ردود فعل كتلك كانت تذكيراً مستمراً بأن كوبا تعني أشياء مختلفة لأناس مختلفين في أماكن مختلفة، وهي أيضاً نتائج مباشرة لسياسات خارجية مختلفة.
جاء فيديل كاسترو ومجموعته من المحاربين إلى السلطة عام 1959. وبدأت الولايات المتحدة حملتها لتغيير النظام هناك منذ 1960، حين ولدت المقاطعة الشهيرة. وتمنع واشنطن معظم مواطنيها من زيارة كوبا؛ حتى الإصلاحات التي أجراها باراك أوباما عام 2016 لم تسمح بسياحة غير مقيدة. في تلك الأثناء، كانت كندا تقريباً الدولة الوحيدة في القارة الأميركية التي احتفظت بعلاقات دبلوماسية واقتصادية ثابتة مع الجزيرة على مدى الستين عاماً الماضية (المكسيك هي الدولة الأخرى). في السنة الواحدة، يقوم الكنديون عادة بنحو مليون زيارة، معظمها في منتجعات الشواطئ. في مخيلتنا الشعبية، كوبا «فاكهة محرمة» بدرجة أقل، و«كانكون بسيارات قديمة وطعام سيء» بدرجة أكبر.
في كتاب فريدرك لافوا «أورويل في كوبا»، لا توجد شواطئ. لكن ذلك الصحافي من كيبيك يرسم إطاراً مختلفاً آخر: كوبا من حيث هي بقايا شيوعية متهدمة محاصرة بين الماضي والمستقبل. يقدم هذا الكتاب نفسه بصفته كبسولة زمنية، بعنوانه الأصلي معبراً عن الإحساس الحاد بحالة تعلق زمني: «Avant l’après» التي تعني حرفياً «قبل البَعد». بعد أن فاز بجائزة الحاكم العام عام 2018 للكتب غير الروائية، ترجم الآن إلى الإنجليزية على يد دونالد ونكلر.
كان لدى لافوا كل الأسباب التي تقنعه بأن كوبا كانت على شفا نقلة كبيرة حين زارها 3 مرات بين فبراير (شباط) 2016 وفبراير (شباط) 2017. زيارته الأولى سبقت وصول أوباما إلى هافانا بقليل؛ الزيارة التي مثلت نقلة دراماتيكية في علاقة الولايات المتحدة بكوبا على مدى خمسين عاماً. هاجم الرئيس المقاطعة، وبدا أن التحرك نحو المصالحة غير قابل للإيقاف (ملاحظة لافوا بأنه «مهما يكن الرئيس الذي سيخلف أوباما في نوفمبر (تشرين الثاني)، تبدو العودة إلى الماضي غير محتملة بشكل متزايد» تحمل الآن إيحاءات مأساوية). حين جاءت زيارة المؤلف الأخيرة، كان دونالد ترمب قد نُصب رئيساً وفيديل كاسترو قد مات عن تسعين عاماً. لم يلغ ترمب (حتى الآن) إصلاحات أوباما، لكنه خفضها بشكل حاد، ولم يعد إنهاء المقاطعة متوقعاً في القريب. في تلك الأثناء، كانت وفاة كاسترو عام 2016 ذات تأثير محدود على سير العمل في دولة كان يديرها أخو كاسترو (راؤول) على مدى عشر سنوات، ولم تؤدِّ إلى ما تمناه بعضهم من أزمة في الشرعية. العام الماضي، تنازل راؤول عن الرئاسة لميغيل دياز - كانيل، وهو بيروقراطي من جيل أصغر، بينما ظل هو على رأس الحزب الشيوعي. مرة أخرى، التغير الضخم لم يحدث. ربما أن الـ«بعد» ما يزال بعيداً إلى حد ما.
أحد أسباب زيار لافوا للجزيرة سعيه لحل مسألة غامضة. في عام 2016، أعلنت دار نشر كوبية أنها ستشرع في ترجمة جديدة لرواية جورج أورويل «1984» في معرض هافانا الدولي للكتاب. كان الاختيار محيراً؛ دولة حزب واحد بتاريخ طويل من الرقابة، كانت لا تفعل أكثر من مجرد السماح بنشر نقد كلاسيكي للتوتاليتارية، تنتجه على نطاق واسع وتشجعه في مناسبة كبرى. هل كان هذا مؤشراً على مدى التغير، أم أنه محاولة ساخرة تجعل كوبا تبدو كما لو كانت أكثر ليبرالية مما هي، أم أن ذلك كان مجرد أمل للناشر بأن يكون لديه عمل رائج، لا سيما أن الحكومة كانت تقترب من إصلاحات تنحو باتجاه اقتصاد السوق، وليس لديها الوقت للتفكير بالنقاء الآيديولوجي؟ أسئلة كتلك، وكذلك القراءة المكثفة لأعمال أورويل، تهيمن على كتاب لافوا.
«أورويل في كوبا» كتاب معني بظلال الدلالات، آسر من حيث هو تحقيق في الكيفية التي تؤثر فيها الرقابة على الأدب. التحدي الرئيس في مواجهة الرقابة الكوبية هو في غموضها؛ إلقاء القبض بشكل واضح على الفنانَين إل سيكستو وتانيا بروغويرا حالة استثنائية في عملية تتسم غالباً بالسرية. لا توجد قائمة رسمية بالكتب الممنوعة، مثلاً: العناوين غير المرغوب بها لا توزع ببساطة. مع أن كل المطابع جرى تأميمها في الستينيات، تظل آليات صنع القرار غامضة. يسعى الأفراد إلى توسيع هامش المسموح به بتقديم طلب يتضمن مقترحات بطبعات جديدة لمواد يفترض أنها غير مسموح بها. الخط الأحمر الوحيد هو التهجم الواضح بالاسم على الأخوين كاسترو. وحتى في تلك الحالات، تختلف القواعد بالنسبة للأجانب، ويستطيع لافوا أن يعبر الخط دون أن يكون لذلك سوى القليل من النتائج.
في محاولته للكشف عن خفايا نشر «1984»، يواجه لافوا باستمرار هذه الحالات الرمادية. ربما أن بعض من يحاورهم يكذبون. الأكثرية ليس لديهم سوى فكرة محدودة حول ما يجري. أحياناً، يكون حتى هو في حالة من الارتياب الشديد -يفترض وجود حالات من المقاومة حين لا يكون شيء من ذلك مقصوداً، أو يستغرب حين ينتقد النظام بعض مرافقيه بشكل معلن. وبالفعل، فإنه من المعتاد أن يناقش دارسو الأدب في كوبا ويهاجمون الرقابة في أثناء السبعينيات، بعد أن أعيد الاعتبار بعد ذلك لكثير من الكتاب الذين كانوا ممنوعين في تلك الفترة. لكن الغموض المستمر حيال ما هو مسموح به حالياً هو أيضاً جزء من الطريقة التي تعمل بها الرقابة. يخفف الناس من حدة مواقفهم، في محاولة لتفادي اجتياز حدود باهتة، الأمر الذي يجعل من النادر أن يضطر النظام لفرض تلك الحدود.
سيكون من الإهمال في مناقشة كتاب يتمحور حول الترجمة، ويبرز إلى حد كبير مترجمين كوبيين، ألا تكون الترجمة موضوعاً للنقاش. المترجم دونالد ونكلر حصل على ثلاث من جوائز حاكمه العام، ومعالجته لكتاب «أورويل في كوبا» معبرة باستمرار، حاملة نغمة مثقفة ميسورة للقارئ في الوقت نفسه. لديه الفرصة ليظهر لمساته حين يقطع لافوا صيغة الريبورتاج، ليضمن الكتاب مسرحية هجائية مصغرة وقصيدة طويلة. لكن الأسلوب في الغالب يظل مع ذلك مباشراً بشكل مقصود، بليغاً لكن ليس إلى درجة الاستعراض؛ يتذكر المرء الخطوط العامة التي رسمها أورويل نفسه في مقالته «السياسة واللغة الإنجليزية».
أحياناً، يبالغ لافوا في اعتماده على أورويل، حين يوحي بأن الرقابة دليل قاطع على وجود الأشكال الأخرى من قمع الدولة. مقارناته تدعونا لتخيل فيديل وراؤول كاسترو من حيث هم قادة لأوقيانوس في العالم الحقيقي يستهدون في إدارة جهاز توتاليتاري بـ«أخ أكبر». ما يتضمنه ذلك هو أن أي دولة تسعى للسيطرة على مصادر المعلومات، للحد من تعدد الرؤى حول الحاضر والماضي، لا بد أن لديها جرائم أخرى تخفيها. هذا التأطير يخفي ملمحاً رئيساً لكوبا بين الديكتاتوريات الشيوعية في القرن العشرين: انخفاض عدد الجثث فيها. الملايين التي هلكت في أرخبيلات ستالين، والمجاعات الجماعية في «القفزة الصينية إلى الأمام»، والتطهير الذي صاحب الثورة الثقافية، وحقول القتل التي مارسها الخمير الحمر -هذه الأمثلة من سفك الدماء لا يكاد يشبهها شيء على الجزيرة. تاريخياً، الغالبية العظمى من معارضي كاسترو جرى ترحيلهم إلى الولايات المتحدة، بدلاً من تصفيتهم. «منظمة العفو الدولية» ذكرت 120 سجيناً سياسياً في كوبا عام 2018، وهو رقم كبير مقارنة بسجون خالية، وأقل بكثير مما يفترضه كثيرون. في رواية أورويل «1984»، يُعذب البطل. في كتاب لافوا، الوصف المؤلم الوحيد حقيقة لعنف الدولة يعود إلى أوائل الستينيات.
من نواحٍ أخرى، يسعى لافوا جاهداً إلى تحقيق التوازن، متفادياً الشجب الشامل مستكشفاً التناقضات لدى بعض الكوبيين المقيمين في ميامي الذين أجرى لقاءات معهم. أجد ما يغريني بعزو هذا الموقف إلى الحياد الكندي، لكنه كما يتضح أكثر نتيجة لعمله الصحافي في الاتحاد السوفياتي السابق. هناك، شاهد نتائج الانتقال «الفاشل» للرأسمالية الذي أفاد القليل من الأوليغاركيين وفتت الحماية الاجتماعية. يأمل لافوا أن تتفادى كوبا هذا المصير، وأن تتحرك بدلاً من ذلك إلى شكل من الديمقراطية الاجتماعية. إنه يكرس مساحة كبيرة للتناقضات في النظام الاقتصادي للجزيرة، حيث تتجاور عملتان، والأطباء الذين تدفع لهم الدولة يحصلون على مداخيل أقل بكثير مما يحصل عليه سقاة البارات إذ يجمعون الإكراميات من السياح.
فوق ذلك كله، يسعى لافوا إلى تفادي مصيدة النظرة الرومانسية إلى البلد، وإنتاج دعاية حكومية في أثناء ذلك دون أن ينتبه. يتضح هذا بشكل خاص في تصويره جان - غي ألار، وهو صحافي متقاعد من كيبيك انتقل للعيش في هافانا، ووجد نفسه محل حفاوة لأنه كتب ما يعجب الحكومة. يصور لافوا ألار بصفته «أحمقاً مفيداً» في القرن الحادي والعشرين، عبارة سبق استعمالها لوصف جان بول سارتر، وهو معجب آخر من معجبي كوبا.
كانت صحة ألار تسوء حين لقيه لافوا لأول مرة، ووفاته بعد ذلك تصبح رمزية تقريباً -مؤشراً إلى أن النظر إلى الثورة الكوبية نصر مذهل لستينيات القرن الماضي لم يعد ممكناً.لكن ثمة وجهاً آخر لتناول لافوا لكوبا مدفوناً في هذه الصفحات. بعد أن يقدم قراءة تحريضية في معرض هافانا الدولي للكتاب، يتحدث إلى الجمهور كاتب لم يُسمَّ من بورتوريكو، قائلاً: على لافوا أن يأخذ في الاعتبار «التوتاليتارية الرأسمالية» لكي يفهم الوضع في كوبا وبقية أميركا اللاتينية. استناداً إلى خلفية ألار، يمكن بسهولة عدم الالتفات إلى الكاتب غير المعروف على أنه أحمق مفيد آخر، لكن التعليق تذكير أيضاً بأن إطارنا المرجعي يحدد الأسئلة التي نطرح.
ضمن أميركا اللاتينية، حققت كوبا شرعيتها منذ أمد طويل ليس على أساس الشيوعية، وإنما على أساس معاداة الإمبريالية. وجوه الشبه بينها وبين الاتحاد السوفياتي كانت أقل أهمية من وجوه اختلافها عن الديكتاتوريات العسكرية المؤيدة للرأسمالية في المنطقة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التي كانت تحصل باستمرار على الدعم الأميركي. في هذه الأثناء، كان المحللون الكاريبيون والأفارقة الأميركيون غالباً ما يحللون كوبا من حيث هي اقتصاد زراعي سابق، متسائلين عن الكيفية التي واجهت بها ثورة 1959 الآثار المتبقية من العبودية واللامساواة العرقية.
لكن ليس لدى لافوا الكثير مما يقوله عن العرق، وهو موضوع بارز في زيارة أوباما، أو عن تاريخ التدخل الأميركي في الأميركتين. إطاره المرجعي يظل شمال أطلسي بشكل راسخ؛ إنه يسافر مع جورج أورويل، الإنجليزي في نهاية المطاف.
إن هذا ليس نقداً بقدر ما هو تذكير بالطرق الكثيرة التي ما تزال فيها كوبا «تُكسَب المعنى» بالنسبة للزوار. تعلَّقَ ألار بالثورة الرومانسية، حيث يرى معظم الكنديين بقعة عادية لقضاء الإجازة. أما لافوا، فرأى فرصة لتفادي الاستسلام الكارثي في شرق أوروبا للرأسمالية، حيث يبحث آخرون عن معركة ضد العنصرية أو التخلف. وماذا عن الكوبيين أنفسهم؟ مما يحسب للافوا أنه يختم كتابه بوضع المستقبل -والأمل المتردد بأن يكون مستقبلاً أفضل- في أيديهم.

- المصدر: «ليتراري ريفيو أوف كندا» (يوليو (تموز) / أغسطس (آب) 2020)



في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب