«قصيدة النثر» شكلاً متمرداً... وملتبساً

يتناول كتاب «قصيدة النثر في مديح اللَّبْس»، من إعداد وترجمة الناقد والمترجم المغربي محمد آيت العميم، مجموعة من القضايا التي تهم «قصيدة النثر باعتبارها شكلاً متمرداً ومتمنعاً وملتبساً».
ويقف القارئ، في هذا الكتاب، الصادر عن دار «خطوط» الأردنية، الذي عمد فيه آيت العميم إلى ترجمة مقالات وفصول من كتب تعرضت بالبحث والتنقيب والتوضيح والاستدراك لإشكالية تحديد قصيدة النثر، وما حف بها من غموض والتباس، على استمرار النقاش حول قصيدة النثر، رغم أنها «أصبحت واقعاً وشكلاً شعرياً مكرساً».وتتعرض المقالة الأولى لنتالي فانسون مونيا، لقصائد النثر الأولى، مركزة على سأم الشعر، حيث ترى أن «السأم الميتافيزيقي يجعل الكائن مزدوجاً. وأن قصيدة النثر تترجم بداخلها هذا السأم، فهي في الآن نفسه، تدفق وانقطاع، ولعب على هذه الانكسارات، وهي في الآن نفسه تصوير ولا تصوير، وتشويه، تقول سأم شعر لم يعد يقال أبداً إلا في صيغة السخرية».
أما الفصل الثاني، تحت عنوان «قصيدة النثر وصعوبة التعريف» لميشيل ساندرا، المقتطف من كتابه «قراءة قصيدة النثر»، فاختاره الكاتب لأنه فصل تعريفي، يفصل القول في «تحديد القصيدة وعلاقتها بالأجناس القريبة منها»، كما يميط اللثام عن الكثير من الغموض الذي يحف بهذه القصيدة.
وجاء الفصل الثالث، تحت عنوان «تركيب الأجناس وقصيدة النثر» من كتاب «الشعر والحكي» للناقدة دومينيك كومب، وهو يحاول أن يفسر أسباب ظهور قصيدة النثر في علاقتها بالتركيب الأجناسي. فيما خصص الفصل الأخير، تحت عنوان «التأثيرات الشرقية في شعر بورخيس طبيعة الهايكو والأدب الغربي»، لتجليات أشكال أدبية أخرى في علاقتها بقصيدة النثر، خصوصاً «الهايكو» الياباني، الذي بالرغم من أن له وزنه الخاص، فإنه، يبقى حسب آيت العميم، من الأشكال التي استهوت كتاب قصيدة النثر، لكثافته وتوهجه والوحدة التي ينطوي عليها، والدقة في الإمساك باللحظة. وقد اختار المترجم، في هذا الصدد، فصلاً كتبته الناقدة اليابانية ماريا قداما، زوجة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، حول تأثير شكل «الهايكو» على قصيدة النثر التي كتبها زوجها في مرحلة من مراحل كتاباته الشعرية.
وجواباً على سؤال تواصل الجدل والنقاش حول هذا الشكل الشعري، قال آيت العميم لـ«الشرق الأوسط»، إن «التفكير في الشعر هو فعالية مستمرة ومتجددة، وكل مرحلة أو عصر أو لحظة راهنة تفكر فيه انطلاقاً من ذاكرة تحققه وإنجازاته، وقد ارتبط الشعر زمناً ممتداً بالوزن وصرامته، غير أن تحولات كبرى حصلت في بنية الشعر بعدما سئم من طغيان الوزن والبيت الذي كبل تلك التموجات الروحية والشعورية، إضافة للتطورات الموسيقية وتعقداتها، بدأ الشعر يتخفف من الصرامة الوزنية، لبعضها بالإيقاع الذي هو أشمل وأعم من الوزن المطرد والمتكرر، وظلت الشعرية تبحث عن تخوم وأراضٍ مجهولة، فجربت التخلص من كل إكراهات البيت، مستثمرة الطاقة الممكنة في النثر الذي كان يشكل المقابل للنظم، وليس للشعر، لأن الشعر هو تلك الطاقة السارية في كل قول يأتي بجديد في اللغة والصور والأخيلة من دون أن يلتزم بأوزان معيارية».
وأضاف آيت العميم أن «ترجمة الشعر أسهمت، بعد تفكيك هيكله الوزني والحفاظ على طاقته الشعرية نثراً، في إثارة الانتباه لإمكانية توليد الشعر من النثر، وبذلك اهتدى شعراء جربوا الوزن والقافية إلى إمكانية كتابة شعر بمواد النثر، كما هو الشأن عند بودلير، وقد سبقه آليسيوس برتراند الذي كتب هذا النمط من الشعر دون أن يكون على علم أنه يفتح قارة شعرية جديدة، وقد ظل الحديث يتنامى حول هذا الشكل وما زال الحديث إلى اليوم يثار حول شعرية القصيدة بمواد النثر».ويقول العميم إن كتابه «جاء ليفتح نقاشاً حول هذه القصيدة، ويقدم بعض الإجابات والتوضيحات حول الغموض الذي اكتنف النقاشات حول هذه القصيدة من خلال مجموعة من المقالات الرصينة التي كتبها نقاد غربيون انطلاقاً من أسئلة جديدة تناقش ما توصلت إليه سوزان برنار في أطروحتها، بالنقد والاستدراك والإضافة». ويعود بنا آيت العميم إلى بدايات تجربة الكتابة تحت سقف قصيدة النثر، مشيراً إلى أن «التسمية أطلقها الشاعر بودلير عنواناً فرعياً لديوانه (سأم باريس) قصائد نثر صغيرة. أما التنظير لقصيدة النثر، فستدشنه الناقدة سوزان برنار بالأطروحة التي أنجزتها في باريس تحت عنوان (قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الراهن) (1958). وظل كتابها هو المرجع الأساس رغم أنه لم يترجم إلى العربية إلا عام 1993 ترجمة جزئية وصدر في دار المأمون ببغداد، وترجم ترجمة كاملة عام 1998 في دار (شرقيات) من قبل راوية صادق. وقبل هذه الترجمة، كان أدونيس في بداية الستينيات قد عمد إلى اختزال الكتاب وسلخ الخصائص التي كشفت عنها سوزان برنار لهذه القصيدة، وتبعه في ذلك أنسي الحاج في مقدمة (لن)»، ليظل النقاش حول هذه القصيدة «مرتهناً إلى تلخيصات كل من أدونيس وأنسي الحاج، إلى درجة أن أدونيس «سيؤمم - لعشرين عاماً - مصطلحات سوزان برنار حول الشعر، الكشف، الرؤية، الهدم، الشاعر النبي، لتشكل مرتكزات خطابه الكتابي»، كما نقرأ على لسان رفعت سلام في مقدمة ترجمة كتاب «قصيدة النثر».
يستعيد آيت العميم تجربة سوزان برنار، مشيراً إلى أنها حددت ثوابت هذه القصيدة الملتبسة أجناسياً في ثلاثة عناصر جوهرية، أولها معيار الوحدة العضوية، وثانيها معيار المجانية، ثم الإيجاز، مشدداً على أن هذه المعايير قد ظلت بمثابة «عروض جديد لقصيدة النثر»، لتتالى الدراسات والأبحاث حول موضوع قصيدة النثر، بشكل أسفر عن «مجموعة من الانتقادات والاستدراكات على ما أسست له سوزان برنار في أطروحتها».
وينتهي آيت العميم إلى أن قصيدة النثر قد ظلت تكتب وبقوة غير مقيدة بهذه الثوابت، حيث إن سوزان برنار نفسها تؤكد أن موضوع دراستها هو قصيدة النثر الصغيرة التي أبدعها برتران، في شكل أناشيد غنائية، واستعادها بودلير، وجعلها أكثر مرونة، لتنتقل إلى الأجيال التالية باعتبارها «أداة لغنائية حديثة».