«أهلاً سمسم» يفتح أبوابه لأطفال اللاجئين ويتناول تأثير الجائحة

يهدف لمساعدتهم على مواجهة المشاعر مثل الإحباط والحزن

شخصيات «أهلا سمسم»
شخصيات «أهلا سمسم»
TT

«أهلاً سمسم» يفتح أبوابه لأطفال اللاجئين ويتناول تأثير الجائحة

شخصيات «أهلا سمسم»
شخصيات «أهلا سمسم»

يذكر أطفال العالم العربي برنامج «افتح يا سمسم» ويرتبط بذكريات جميلة لدى الكثير منهم حيث اختلط التعليم باللعب والمعلومة والموسيقى. ومن رحم البرنامج خرج برنامج آخر يتوجه للأطفال وأسلوبه في التعلم الممتع السهل يحمل اسم «أهلا سمسم» يتوجه للأطفال في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعاد للشاشة منذ أسبوعين في موسمه الثاني.
غير أن الموسم الثاني جاء في وقت تغيرت فيه الحياة في جميع أنحاء العالم، فجائحة «كوفيد 19» غيرت حياة الكبار والأطفال، وبالتالي أصبح أمام معدي البرنامج مهمة إضافية وهي التعامل مع تأثير الجائحة على الأطفال وتعليمهم وأيضا تأثيرها على فريق عمل المسلسل وكيفية إعداده. «أهلا سمسم» كانت أمامه مهمة التوجه للأطفال اللاجئين، وأضيف لها هذا العام تأثير «كوفيد 19» على الأطفال.
يعود البرنامج بشخصيات طورها للتعامل مع واقع مختلف، حيث يتابع الأطفال كلا من بسمة وجاد ومعزوزة وهادي فيما هم يلعبون ويغنون ويتعلمون مع أصدقائهم إلمو، وكعكي وغرغور. ويعكس الموسم الثاني طريقة التواصل التي تستخدمها العديد من العائلات في وقت الجائحة، كما يطبق نماذج لأنشطة مرحة من شأنها بناء المهارات الاجتماعية والعاطفية التي يحتاجها الأطفال للوصول إلى قدراتهم الكاملة. في الوقت ذاته يتعلم أصدقاء «أهلاً سمسم» تقنيات جديدة لمواجهة المشاعر الكبيرة والقوية مثل الإحباط والحزن وطرق التعامل مع حالة عدم اليقين التي يعاني منها العديد من الأطفال في الوقت الحالي.
خلال مقابلة لـ«الشرق الأوسط» مع خالد حداد المنتج المنفذ للبرنامج يتحدث عن الموضوعات التي تتناولها الحلقات من خلال قصص صغيرة تتناول مشاعر معينة مثل القلق والإحباط والحزن، يقول: «تعبر الشخصيات الموجودة عن هذا الشعور، وفي نفس الوقت هناك استراتيجية للتعامل مع هذا الشعور قائمة على منهاج تعليمي موثق». يشير إلى أن الموسم الثاني يضم فقرتين جديدتين هما «رقم اليوم» و«كلمة اليوم»، وهما مصممتان لتلبية احتياجات الأطفال في وقت تتعطل فيه العديد من المدارس وبرامج الطفولة المبكرة.
الشخصيات الجديدة تدخل ضيفة على الأطفال إلى جانب شخصيات أساسية في البرنامج عرفها الأطفال على امتداد أعوام طويلة مثل «كعكي» و«إلمو»، أسأله عن كيفية تصميم الشخصيات الجديدة والتحدي في ذلك خاصة بالمقارنة مع شعبية الشخصيات الأصلية يقول حداد: «كما تعرفين ورشة سمسم موجودة في العالم منذ أكثر من 50 سنة وعند العاملين بها خبرة طويلة في تكوين الشخصيات والإضافة لها. فخلال تطوير شخصيات جديدة هناك منهاج قائم على البحث طورنا الشخصيات الجديدة بناء على احتياجات الأطفال وقمنا بدراسة الشخصيات في الميدان قبل طرحها على الشاشة مع أطفال ومع أهاليهم».
تم تطوير الشخصيات بعد دراسات أجريت في الشرق الأوسط عن الدول التي تأثرت بالجائحة أو تأثرت بالوضع السياسي في المنطقة وعن الدول المستقبلة لأطفال اللاجئين «الشخصيات طورت بعد لقاءات وتشاور مع المختصين».
في حلقة من «أهلا سمسم» بعنوان «هادي حزين» نرى شخصية هادي تتفاعل مع سفر بسمة وجاد، وتحاول الشخصيات الأخرى التخفيف من حزن هادي لسفر أصدقائه بطريقة بسيطة جدا. أسأل حداد عن القصص التي طرحت في الحلقات وهل طورت لمقابلة أشياء في هذه المرحلة التي نعيشها؟ يجيب: «طبعا، كل القصص كتبت حسب المنهاج التعليمي، وهو قائم على تعريف الأطفال بالجائحة الموجودة وحقيقة أنهم غير موجودين داخل المدرسة، فالطفل يعيش في حالة عدم يقين. ورشة سمسم التزمت منهاجا بالتعليم من خلال اللعب وليس التعليم المباشر، بالتالي نطرح قصة معينة بحبكة درامية معينة وتؤدي لمغزى معين وهو طرح المشكلة، تتعامل الحلقات مع الجانب العاطفي للطفل في هذه المرحلة من خلال السرد الدرامي». بالنسبة لتطوير القصص المختلفة فقد قام بها «مجموعة كبيرة من الكتاب بالشرق الأوسط، منهم كتاب من مصر، والشام والخليج والعراق جلسوا مع بعض في الورشة وطوروا الخط الدرامي للقصص كلها لخدمة الهدف التعليمي للبرنامج».
اعتاد برنامج «شارع السمسم» والجزء الأول من «أهلا سمسم» على الاستعانة بالمشاهير لزيارة البرنامج والتفاعل مع الأطفال، ولكن ظروف تصوير الجزء الثاني من «أهلا سمسم» غيرت كل هذا. فالبرنامج الذي ركز على موضوع الجائحة لم يستطع استقبال الضيوف أو التصوير بشكل عادي، ومع اتجاه العالم كله لوسائل التواصل الاجتماعي لجأ معدو البرنامج لذات الوسيلة لاستقطاب المشاهير. يرسم لنا حداد صورة لأجواء إعداد وتصوير حلقات الجزء الثاني قائلا: «في ضوء الظروف التي واجهتنا أثناء تطوير الجزء الثاني كنا نريد أن نحققه بأسرع وقت ممكن ولكن مع وجود الحظر التام تم إنتاج جزء كبير من هذا البرنامج من خلال برامج زووم أو سكايب. كثير من الأطفال كانوا يتفاعلون معنا عبر البرامج، فالطفل يصور فقرته ويرسلها لنا. أما الشخصيات الرئيسية فاستطعنا أن نصورهم في الاستديو ولكن كان فيه عندنا نوع من البروتوكول والتباعد».
أشير إلى أن الظروف التي أحاطت بالتصوير هذا العام ستكون نقطة فاصلة وقد يكون لها تأثير على المستقبل، يوافقني ويضيف: «طبعا، لاحظي كيف تغير كل شيء خلال الجائحة، شركات كبيرة تعمل من خلال هذه الطرق، أنتجنا الجزء الثاني من خلال هذه الطريقة وتكيفنا معها، في اعتقادي المستقبل سيركز على وسائل التواصل وأعمال كثيرة ستقوم على هذا الموضوع». ينهي حداد حديثه قائلا: «نهتم أن يكون البرنامج يصل لكل طفل في الشرق الأوسط، نساعد الأطفال من خلال المحتوى التعليمي من خلال سفرائنا، بسمة وجاد ومعزوزة الذين أعتبرهم سفراء للتعليم».
وللحديث عن الجانب الإنساني لبرنامج «أهلا سمسم» أتوجه إلى رينيه سالايا المدير الإداري للبرنامج الذي يحدثنا عن الشراكة بين مؤسسة «ورشة سمسم» (Sesame Workshop) ولجنة الإنقاذ الدولية (IRC)، والتي تهدف لتوفير التعليم المبكر والرعاية للأطفال ومقدمي الرعاية المتضررين من النزاع في سوريا.
يقول سالايا إن مركز الإغاثة الدولية يوفر مراكز للتعليم المبكر والتدريب في مجتمعات النازحين، حيث تقدم المراكز منهجا تعليميا يضم القراءة والحساب، ويركز على التعلم العاطفي والاجتماعي. المحتوى تم تطويره بالشراكة مع ورشة سمسم ومستشارين محليين. فعلى سبيل المثال تقدم الدروس مقاطع من البرنامج للأطفال إضافة إلى الكتب التي أنتجناها وأي محتوى يناسب الخطة الدراسية.
بالنسبة للأبحاث التي أجريت هل شملت عينات من مجتمعات النازحين ووقفت على حاجات هؤلاء الأطفال؟ يقول سالايا: «نعم. قبل أن ينتج (أهلا سمسم) قامت لجنة الإنقاذ الدولية وورشة سمسم بالعمل سويا على مشروعات اعتمدت على دمج محتوى منتج من مؤسسة سمسم في مناهج مراكز التعليم المبكر. وكان هناك تقييم مستمر لما يصلح وما لا يصلح».
بالنسبة لردود الفعل من الأهالي ومن الأطفال يشير سالايا: «لدينا مستويات مختلفة من التفاعل وردود الفعل فعلى سبيل المثال فلجنة الإنقاذ الدولية تقيم أبحاثا مستمرة في ردود الفعل من الأطفال ومن الأهالي، وهذا البحث يتم الاستفادة منه في إعداد خريطة للدروس التعليمية. أيضا تقوم مؤسسة سمسم بإجراء تقييم لنتائج وردود فعل المشاهدين في المنطقة، فعلى سبيل المثال أجرينا تقييما مؤخرا حول الجزء الأول من البرنامج لمعرفة أكثر من عامل، الأول هل يشاهد الأطفال البرنامج؟ وجاءت النتائج إيجابية، حيث نال البرنامج شعبية واضحة لدى الأطفال. الجانب الثاني من التقييم كان عن رد فعل الأهل وصدى البرنامج عندهم، ما أعجبهم وما لم يعجبهم».
أسأله عن الشخصيات في البرنامج وهل ضمت شخصية تمثل شريحة اللاجئين؟ يجيب قائلا: «طريقة تقديم قصص يفهمها الأطفال وتلمس تجاربهم الشخصية، أمر أجده مميزا في البرنامج الذي يعتمد البساطة في الطرح فعلى سبيل المثال هناك شخصية في البرنامج نعرف أنها (ليست من هنا) وأنها آتيه من (مكان آخر)، عبر ذلك الوصف الحاذق نتفاعل مع الشخص الآتي من مكان آخر والتحديات التي تواجهه فهو سيفتقد عائلته وأصدقاءه الذين تركهم خلفه، أعتقد أن ذلك أمر يستطيع الأطفال التفاعل معه من دون الحاجة للتوصيفات التي يلجأ لها البالغون».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)