مكاتب نيويورك خالية رغم تراجع الوباء

شركات فضّلت إرجاء التوقيع على عقود إيجار أو تجديدها لفترات طويلة

تراجع الإقبال على مكاتب نيويورك بشكل كبير رغم السيطرة على الوباء (نيويورك تايمز)
تراجع الإقبال على مكاتب نيويورك بشكل كبير رغم السيطرة على الوباء (نيويورك تايمز)
TT

مكاتب نيويورك خالية رغم تراجع الوباء

تراجع الإقبال على مكاتب نيويورك بشكل كبير رغم السيطرة على الوباء (نيويورك تايمز)
تراجع الإقبال على مكاتب نيويورك بشكل كبير رغم السيطرة على الوباء (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي دخل فيه وباء «كورونا» في حالة انحسار بنيويورك، أبدت شركات ترددها حيال دعوة عامليها للعودة للعمل من مكاتبهم في ناطحات السحاب الشاهقة، فيما تظهر أخرى تردداً أكبر إزاء الالتزام بترتيبات طويلة الأمد داخل المدينة.
فبحلول الشهر الماضي، كان أقل عن 10 في المائة من العاملين في مكاتب في نيويورك قد عادوا إلى مكاتبهم، في الوقت الذي يتوقع ما يزيد قليلاً على ربع الشركات الكبرى إعادة موظفيها إلى العمل داخل المكاتب بحلول نهاية العام، تبعاً لما كشفه مسح أجري حديثاً. وذكرت 54 في المائة فقط من تلك الشركات أنها ستعاود العمل من المكاتب بحلول يوليو (تموز) 2021.
تراجع الطلب على المساحات المكتبية في نيويورك بدرجة كبيرة. وبلغ عدد عقود توقيع إيجارات مكتبية جديدة خلال الشهور الثمانية الأولى من العام الحالي قرابة نصف ما كان عليه منذ عام سابق. ومن المنتظر أن يشكل العام الحالي أكبر تراجع في سوق إيجارات المساحات المكتبية منذ 20 عاماً. اللافت أنه حتى الشركات التي توقع عقود إيجارات مكتبية، تفضل العقود قصيرة الأجل التي كان غالبية أصحاب العقارات يرفضونها حتى شهر فبراير (شباط).
- توقعات بتعاف بطيء
ويحمل هذا الوضع مخاطر واضحة على الصحة المالية لنيويورك، ومكانتها باعتبارها المقر الرئيسي لكبريات شركات العالم. وتبعاً لما أفادته شركة «كوشمان آند ويكفيلد» العاملة بمجال سمسرة العقارات، فإن نيويورك تضم عددا أكبر من الأقدام المربعة من المساحات المكتبية عن تلك المتاحة في لندن وسان فرنسيسكو مجتمعتين. وتشكل المساحات المكتبية حجر الزاوية في اقتصاد نيويورك، في الوقت الذي تشكل الضرائب العقارية التي يجري تحصيلها من المباني المكتبية قرابة 10 في المائة من إجمالي الدخل السنوي للمدينة من الضرائب.
أما ما يثير القلق بدرجة أكبر فهو أن التعافي ربما تظهر آثاره بوتيرة أبطأ بكثير عما حدث في أعقاب هجمات 11 سبتمبر والأزمة المالية التي وقعت عام 2008 ويعود السبب الأكبر وراء ذلك في أن الوباء الراهن دفع الشركات إلى إعادة التفكير بصورة جوهرية في احتياجاتها العقارية.
في هذا الصدد، قال روبرت إيفانهو، المحامي المعني بمجال العقارات لدى شركة «غرينبرغ تروريغ» إن لديه حوالي 20 عميلاً أرجأوا البحث عن مكاتب جديدة. وأضاف «يعكفون حالياً في التفكير ملياً في صياغة نموذج عمل جديد ـ مثلاً، ما حجم قوة العمل التي ستعمل من المنزل وكم من الوقت ستعمل؟ لم يسبق أن انقلبت الأمور رأساً على عقب على هذا النحو من قبل».
وتؤكد البيانات المتعلقة بسوق العقارات هذا الأمر، ذلك أنها تشير إلى أن عدد عقود تأجير مكاتب التي جرى توقيعها من يناير (كانون الثاني) حتى أغسطس (آب) غطت في مجملها 13.7 مليون قدم مربعة، ما يقل عن نصف المساحة التي جرى استئجارها خلال الشهور الثمانية الأولى من العام الماضي، حسب ما كشفته شركة «كولييرز إنترناشونال» المعنية بالسمسرة في مجال العقارات. على النقيض، بلغت المساحات التي تغطيها عقود الإيجارات أعلى مستوى لها منذ 18 عاماً في نهاية العام الماضي ببلوغها ما يقرب من 43 مليون قدم مربعة من تعاقدات الإيجارات الجديدة وتجديد عقود إيجارات قائمة بالفعل.
في هذا الصدد، قالت روث كولب هابر، الرئيسة التنفيذية لشركة «وورتون بروبرتي أدفيزرز» للسمسرة بمجال العقارات: «فيما يتعلق باتخاذ القرارات بمجال استئجار مساحات مكتبية، فإن أكثر الكلمات شيوعاً هي الإرجاء والإلغاء والتأخير».
من جهتهم، كان المسؤولون التنفيذيون بشركة «فريشلي» العاملة بمجال توصيل الوجبات، يستعدون في مارس (آذار) لتوقيع عقد استئجار 50 ألف قدم مربعة من المساحات المكتبية في «2 بارك أفنيو»، المؤلف من 29 طابقاً، وهو عبارة عن برج يتميز بطراز «آرت ديكو» المعماري». إلا أن تفشي جائحة فيروس «كورونا» تسبب في فرض حالة إغلاق على نيويورك لعدة شهور، ما اضطر الشركة إلى إرجاء إجراءاتها التوسعية، حسبما ذكر مايكل ويستراك، مؤسس شركة «فريشلي» ورئيسها التنفيذي. اليوم، لا تزال الشركة تفكر في الاستعانة بمساحات مكتبية جديدة، لكن ويستراك ليس واثقا من أنه سيوقع عقد إيجار جديدا. وعن ذلك، قال: «إننا نؤمن بالإمكانات طويلة الأمد داخل مدينة نيويورك».
- شوارع «خالية»
من ناحية أخرى، من اللافت أن أرصفة منطقة «ميدتاون» ما زالت شبه خالية خلال أيام الأسبوع مثلما هي الحال أيام الأحد، الأمر الذي يشير إلى مدى ضآلة أعداد الموظفين الذين استأنفوا أعمالهم من المكاتب.
ففي أغسطس، خلصت دراسة مسحية بين كبريات جهات التوظيف أجرتها مؤسسة «بارتنرشيب فور نيويورك» إلى أن 8 في المائة فقط من الموظفين عادوا إلى مكاتبهم، وتوقعت غالبية جهات التوظيف إعادة موظفيها إلى العمل من المكاتب بحلول الصيف المقبل، بينما لم تتخذ ربع الشركات قراراً بخصوص موعد العودة إلى العمل من المكاتب.
جدير بالذكر أن مسؤولين منتخبين وعاملين بمجال العقارات، بل وحتى الممثل الكوميدي جيري سينفيلد، أغدقوا قصائد الثناء على صمود نيويورك، مؤكدين أن المدينة تتميز بتاريخ طويل يثبت قدرتها على التعافي من كل عثرة تلم بها. وأشاروا إلى أن المدينة ستعج قريباً بحركة الأفراد من جديد. بيد أنه على الجهة المقابلة، يتوقع متشائمون ومنهم مديرو صندوق نيويورك للتحوط، أياماً مظلمة في الطريق. ويعتقد هذا الفريق أن الشركات ستصدر توجيهات لموظفيها بالبقاء بعيداً عن المكاتب حتى يجري توزيع لقاح على نطاق واسع، بل وربما لفترة أبعد من ذلك بكثير.
وسيعتمد معدل تعافي نيويورك واستعادتها طاقتها وصحتها الاقتصادية وعوائدها الضريبية على مسألة أي من هاتين الرؤيتين أقرب إلى الواقع.
من جهتهم، لا يتوقع المستثمرون تعافياً سريعاً في نيويورك. واللافت أن أسهم الشركات التي تملك مساحات مكتبية واسعة داخل نيويورك، مثل «إمباير ستيت ريالتي ترست» التي تملك مبنى «إمباير ستيت»، و«إس إل غرين ريالتي» التي تملك برج «وان فاندربيلت» الجديد الضخم القائم إلى جوار «غران سنترال ترمينال»، تعرضت لتراجع حاد هذا العام.
في هذا الصدد، قال جوناثان ليت، مؤسس صندوق التحوط «لاند آند بيلدينغز»: «أعتقد أن سوق المساحات المكتبية في نيويورك ستتعرض لمصاعب بوجه عام خلال الأعوام الثلاثة إلى الخمسة المقبلة». وقد نشر الصندوق الذي يترأسه تقريراً في مايو (أيار) يشرح خلاله السبب وراء اعتقاده بأن أسهم «إمباير ستيت ريالتي ترست» مبالغ في قيمتها. ويكمن جزء كبير من المشكلة في أن الكثير من الشركات أحجمت عن توقيع عقود إيجارات جديدة.
- محفزات مالية ونوعية
خلال السنوات الأخيرة، كانت تعاقدات استئجار المساحات المكتبية الأكبر من نصيب شركات العمل المشترك مثل «وي وورك»، التي تعتبر أكبر مستأجر خاص على مستوى نيويورك. وقد وقعت مثل هذه الشركات قرابة 8 في المائة من مجمل عقود الإيجار الجديدة في مانهاتن العام الماضي، و12 في المائة عام 2018 تبعاً لما أوضحته شركة «كوشمان آند ويكفيلد». أما اليوم، فتواجه شركات العمل المشترك ظروفاً عصيبة، وبعضها قد لا ينجو من الأزمة الحالية.
وتبدو جهات استئجار أخرى محتملة غير واثقة مما يتعين عليها عمله أو ما إذا كان يتعين عليها الانتظار لحين خفض أصحاب العقارات لأسعار الاستئجار، وتنتظر الحصول على حوافز مثل شهور مجانية دون إيجار أو أموال نقدية مقابل إدخال تحسينات على المكاتب. في هذا الجانب، تساءل مايكل كولاسينو، رئيس شركة «سكويرفوت» للسمسرة: «ما الحكمة من توقيع عقد إيجار بتخفيض بنسبة 15 في المائة في قيمة الإيجار إذا كنت تعتقد أن الأسعار ستزداد انخفاضا؟»
من جهتها، تعمد بعض الشركات إلى إرجاء قراراتها المتعلقة بالإيجارات حتى نهاية العام الحالي أو العام المقبل، وذلك من خلال توقيع عقود تمديد لفترات الإيجار قصيرة الأجل، بدلاً عن الالتزام بالتعاقدات التقليدية التي تستمر لسنوات طويلة. على سبيل المثال، خلال الأسابيع الأخيرة، قررت شركة «إن بي سي يونيفرسال» تمديد أمد إيجار مكتبها الثانوي في «1221 أفنيو أوف أميريكاز». وأقدمت شركة «ستروك آند ستروك آند لافان» للمحاماة على الأمر ذاته فيما يخص مكتبها بقلب المدينة. إلا أن قرار التمديد كان لعام واحد فقط، حسبما أوضحت شركة «كولييرز إنترناشونال». ورفضت متحدثة رسمية باسم «إن بي سي يونيفرسال» التعليق على الأمر، بينما لم ترد «ستروك آند ستروك آند لافان» على اتصالاتنا ورسائل البريد الإلكتروني.
في ظل الظروف الطبيعية، نادرا ما يقبل مُلّاك المباني المكتبية الضخمة تجديد عقود الإيجار عاماً أو عامين فيما يخص كبار المستأجرين، حسبما ذكر فرنكلين والاك، المدير الإداري لـ«نيويورك ريسرتش غروب» التابعة لـ«كولييرز إنترناشونال». وأضاف «أنهم يعاينون تراجعاً في نشاط الإيجارات الجديدة في الوقت الذي تزداد المساحات المستأجرة من الباطن التي تنضم إلى السوق. وبالتالي، يرغب صاحب العقار في الإبقاء على المستأجر داخل البناية التي يملكها».
ومن أكبر المخاوف إمكانية أن تشرع شركات قريباً في تأجير مئات الآلاف من الأقدام المربعة من المساحات المكتبية من الباطن لا تنوي استغلالها في أي وقت قريب. وفيما يخص الشركات التي تسعى لاستئجار مكاتب، فإن الاستئجار من الباطن عادة ما يوفر فترات استئجار أقصر بخصم كبير عن أسعار السوق.
جدير بالذكر أن «ستار إنشورانس كمبانيز» التي يقودها موريس آ. غرينبرغ، تسعى لتأجير 190 ألف قدم مربعة من الباطن تتولى هي استئجارها حالياً في «399 بارك أفنيو»، تبعاً لما ذكرته «كولييرز إنترناشيونال». كما يعرض «فيرست رببليك بانك»، الذي وقع عقداً لاستئجار 211 ألفا و521 قدماً مربعة في أبريل (نيسان) الماضي في «410 تنث أفنيو»، 151 ألف قدم مربعة للتأجير من الباطن، حسبما ذكر تقرير وضعته شركة «سافيلز» للسمسرة بمجال العقارات. ورفض المتحدثان الرسميان لكل من «ستار إنشورانس كمبانيز» و«فيرست رببليك بانك» التعليق.
الملاحظ أن المساحات المؤجرة من الباطن شكلت قرابة ربع إجمالي المساحات المكتبية المتاحة في نيويورك بحلول نهاية الربع الثاني، تبعاً لما أفادته «سافيلز». وقال الكثير من سماسرة العقارات إنهم يتوقعون زيادة هذه النسبة خلال الشهور المقبلة.
ومع ذلك، أكد ملاك عقارات إنهم لا يشعرون بالقلق لأن غالبية المستأجرين لا يزالون ملتزمين بسداد الإيجارات. وأوضحوا أن عقود استئجار المساحات المكتبية مستمرة لسنوات قادمة ومن الصعب للغاية إنهاؤها مبكراً. كما أن غالبية الشركات المالية الكبرى، والتي تعتبر من بين كبار المستأجرين في نيويورك، لا تعاني من ضغوط كبرى على خلاف ما سبق وأن عانته خلال فترة الركود الأخيرة.
أما أكثر المؤشرات التي تبعث على الشعور بالتفاؤل حيال قدرة المساحات المكتبية في نيويورك على التعافي سريعاً، فهي أن شركات تكنولوجية كبرى تقدم على التهام مساحات مكتبية واسعة.
على سبيل المثال، استأجرت «فيسبوك» مطلع أغسطس جميع المساحات المكتبية المتاحة في «فارلي بوست أوفيس»، والتي تقدر بـ730 ألف قدم مربعة، بجوار محطة بين. كما استحوذت «أمازون» على مبنى «لورد آند تايلور» سابقاً في فيفث أفنيو في مارس من «وي وورك».

- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
أوروبا الطبيب البريطاني توماس كوان (رويترز)

سجن طبيب بريطاني 31 عاماً لمحاولته قتل صديق والدته بلقاح كوفيد مزيف

حكم على طبيب بريطاني بالسجن لأكثر من 31 عاماً بتهمة التخطيط لقتل صديق والدته بلقاح مزيف لكوفيد - 19.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد السعودية تصدرت قائمة دول «العشرين» في أعداد الزوار الدوليين بـ 73 % (واس)

السعودية الـ12 عالمياً في إنفاق السياح الدوليين

واصلت السعودية ريادتها العالمية بقطاع السياحة؛ إذ صعدت 15 مركزاً ضمن ترتيب الدول في إنفاق السيّاح الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
صحتك تم تسجيل إصابات طويلة بـ«كوفيد- 19» لدى أشخاص مناعتهم كانت غير قادرة على محاربة الفيروس بشكل كافٍ (رويترز)

قرار يمنع وزارة الصحة في ولاية إيداهو الأميركية من تقديم لقاح «كوفيد»

قرر قسم الصحة العامة الإقليمي في ولاية إيداهو الأميركية، بأغلبية ضئيلة، التوقف عن تقديم لقاحات فيروس «كوفيد-19» للسكان في ست مقاطعات.

«الشرق الأوسط» (أيداهو)
أوروبا أحد العاملين في المجال الطبي يحمل جرعة من لقاح «كورونا» في نيويورك (أ.ب)

انتشر في 29 دولة... ماذا نعرف عن متحوّر «كورونا» الجديد «XEC»؟

اكتشف خبراء الصحة في المملكة المتحدة سلالة جديدة من فيروس «كورونا» المستجد، تُعرف باسم «إكس إي سي»، وذلك استعداداً لفصل الشتاء، حيث تميل الحالات إلى الزيادة.

يسرا سلامة (القاهرة)

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».