«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني
TT

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

مشكلة العنصرية في الولايات المتحدة «لن تحل بين ليلة وضحاها. إنها تراث أجيال وأجيال. لكن، يقدر الجيل الجديد، جيل الشباب، على النضال ضدها. وفي كل الحالات، يتحقق التقدم على مراحل. يتحقق التقدم تدريجيا». هذا ليس رأي خبير أبيض، أو خبير أسود.. هذا ما قاله الرئيس باراك أوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
لم يقل أوباما حديثه هذا خلال الأسبوع الماضي، بعد أن قتل أسود اثنين من رجال الشرطة في نيويورك.. ولم يقله الشهر الماضي، بعد أن برأت هيئة محلفين شرطيا أبيض قتل أسود في نيويورك.. قاله الصيف الماضي، عندما اندلعت أول مواجهات جديدة بين السود والشرطة في فيرغسون، ضواحي مدينة سانت لويس (ولاية ميسوري)، بعد أن قتل شرطي أبيض أسود. وطبعا، يمكن أن يقول أوباما ما قال اليوم أيضا، وغدا أيضا، وبعد غد أيضا.. فالمواجهة العنصرية بين البيض والسود في الولايات المتحدة «تراث أجيال وأجيال»، كما قال هو، رغم أنها تقل عددا ونوعا، مرة بعد مرة، حسب رأي ريتشارد كوهين، (اليهودي) في صحيفة «واشنطن بوست» مبررا ذلك بقوله إن الكلمة المتداولة في الوقت الحاضر هي «كونفرنتيشن» أي «مواجهة»، وكان يقال قبل 50 عاما، «كلاشيز» أي «اشتباكات»، ودموية أحيانا، وقبل مائة عام، كانت «ديسكريمنيشن» أي «تفرقة وتمييز»، وقبل مائتي عام، كانت «سلافيري» أي «عبد رقيق».

* نوعان من التفرقة

* طبعا، انتهت إلى غير رجعة سنوات الرقيق، وسنوات التفرقة العنصرية العلنية والرسمية. لكن، لم ينته (ولن ينتهي) نوعان من التفرقة، حسب خبراء وسياسيين أميركيين: أولا: التفرقة بسبب الاختلاف.. تفرق الاختلافات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بين الأغلبية البيضاء والأقلية السوداء، بصرف النظر عن الجانب العنصري، تفرق هذه الاختلافات بين البيض أنفسهم، وبين السود أنفسهم.
ثانيا: التفرقة الخفية: بسبب الجانب العنصري، أو من دونه، يظل البيض، ليس فقط الأكثر عددا، ولكن، أيضا، الأكثر مالا، وقوة، ونفوذا، وتعليما.. ومثلما يحدث في الدول الأخرى، تظل «الطيور على أشكالها تقع» (مثل أميركي، وعربي أيضا).
وكما صار واضحا، ورغم أن أوباما يريد أن يكون رئيسا لكل الأميركيين، كما انتخب، فإنه كلما تهب عاصفة عرقية، يجد نفسه يميل نحو «أشكاله». وفي الأسبوع الماضي، خصّ تلفزيون «بلاك إنترتينمنت» («الترفية للسود»، اسم قناة كبيرة متخصصة في شؤون السود، ويملكها ملياردير أسود) بمقابلة عن هذا الموضوع، وقال فيها العبارات السابقة. وقال أيضا، وهو يخاطب السود، وليس البيض: «حين تتعلق المسألة بأمر مترسخ مثل العنصرية أو التفرقة في أي مجتمع، يجب التيقظ. لكن، يجب الإقرار أيضا بأن هذا الأمر مستمر منذ فترة طويلة.. إذا تحدثتم عن هذا الموضوع مع الأهل، والأجداد، والأعمام، سيقولون إن الأمور تحسنت. سيقولون إنها ليست مثالية في بعض الحالات، لكنها أفضل».

* السبب هو أوباما
* من المفارقات أن ترتفع درجة حرارة هذه المواجهات في عهد أوباما.
* حدثت مواجهات قليلة في عهد رؤساء قبله، بسبب حوادث قتل فردية مثل التي حدثت خلال الشهور القليلة الماضية. لكن، صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة.. وذلك لأكثر من سبب:
أولا: وضع كثير من السود آمالا كبيرة جدا فيه. ظنوا أنه سيقضي على بقايا التفرقة العنصرية العلنية (مثل هذه المواجهات بين السود والشرطة)، وسيقضي، ربما، على التفرقة الخفية (استعلاء البيض بسبب قوتهم العرقية والاقتصادية، والسياسية، إلخ..).
ثانيا: تململ كثير من البيض بسبب وجود رئيس أسود عليهم (هذه تفرقة خفية أكثر منها تفرقة علنية)، رغم أنه فاز مرتين، ورغم أنه معتدل، ورغم أن والدته بيضاء.. لا يمكن وصفهم بأنهم عنصريون.. لكن، يظل الاستعلاء، خفيا، إن لم يكن علنا.
> هل كان يمكن غير ذلك؟
كتب عن هذا الموضوع جيفري هافينسون، في معهد «هيرتدج» اليميني في واشنطن. وكعادة الخبراء والسياسيين البيض كان حذرا، وتحاشي انتقاد أوباما بوصف أوباما أسود.. انتقده بصفته رئيس. وقال إن أوباما «يجب أن يكون رئيسا لكل الأميركيين». هذه إشارة إلى تصريحات أوباما عن «تصرف الشرطة» و«الشرطة صديقة الشعب».. وهي نفسها تصريحات حذرة، لأن أوباما لا يريد أن يقول: «الشرطة البيضاء تقتل الشباب السود».
لكن، صرح مسؤولون بيض آخرون تصريحات أكثر مباشرة، مثل فيل براينت، حاكم ولاية ميسيسيبي، وهو جمهوري، مثل كل حكام الولايات الجنوبية. ومن المفارقات أن الحزب الجمهوري في القرن التاسع عشر (حزب الرئيس أبراهام لينكولن) قاد الحملة ضد تجارة الرقيق، التي كان يؤيدها الحزب الديمقراطي. الآن، مع بداية القرن الحادي والعشرين، حدث العكس: صار الحزب الجمهوري هو الأبعد من السود، وصار الحزب الديمقراطي هو الأقرب إليهم. لكن، لهذا السبب نفسه، تحولت الولايات الجنوبية من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري.
قال حاكم ولاية ميسيسيبي: «يجب عدم السكوت عن المظاهرات القبيحة (مظاهرات السود) ضد الشرطة». وعلى الوتيرة نفسها، نشرت صحيفة «ويكلي ستاندارد» اليمينية موضوع غلاف عنوانه: «نو لو، نو أوردر» (لا قانون، لا نظام). يشير هذا إلى الشعار التقليدي «لو آند أور» (القانون والنظام). ويشير إلى أن السود الذين يسرقون (مثل براون في فيرغسون)، والذين يرفضون أوامر الشرطة باعتقالهم (مثل غارنر في نيويورك)، هم الذين يتحملون المسؤولية.
وكتبت الصحيفة: «إذا لم يسرق براون، ما كانت الشرطة ستتعقبه، وإذا لم يقاوم غارنر، ما كانت الشرطة ستستعمل القوة معه. أضف إلى هذا أن براون كان سرق من محل لبيع الخمور، وأن غارنر كان يبيع سجائر في الشارع خرقا للقانون. الذي يخرق القانون لا يلوم إلا نفسه».

* لاعبو كرة القدم
* كتب ريتشارد كوهين أن مظاهرات السود (وبعض البيض المؤيدين لهم)، التي ظلت مستمرة من الصيف، منذ أن قتل شرطي أبيض الشاب الأسود براون في فيرغسون، ربما وراء زيادة غضب بعض السود، وزاد غضب السود حتى وصل إلى قتل شرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي. لا يوجد دليل مباشر، لكن، الحقيقة هي أن المظاهرات المستمرة، والاشتباكات مع الشرطة، زادت التوتر.
مثل الذي حدث في مدينتي بيركلي وأوكلاند (ولاية كاليفورنيا)..حطم بعض المتظاهرين واجهات المتاجر، ونهبوا عددا من المحلات التجارية.
واعتقلت الشرطة عددا من المتظاهرين، وقطع المحتجون طريقا سريعا رئيسيا، وألقوا زجاجات، وقلبوا صناديق النفايات وأحرقوها. استمرت هذه المظاهرات لأيام، وتطورت أكثر عندما استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع.
وانطلقت مظاهرات واشتباكات مماثلة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ورفع المتظاهرون لافتات تقول: «شرطة قتلة»، و«فيرغسون في كل مكان»، و«أوقفوا عنف الشرطة». غير أن أكثر شعار يقال إنه ساهم في زيادة العنف، خصوصا قتل الشرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي، هو: «ماذا نريد؟»، ويردد المتظاهرون: «مواجهة الشرطة؟» و«متى نريد ذلك؟» ويردد المتظاهرون «الآن».
وانضم نجوم رياضيون سود إلى الحملة، وارتدى بعضهم قمصانا مكتوبا عليها: «لا أستطيع التنفس» (الكلمات الأخيرة التي يقال إن غارنر قالها بينما كان الشرطي يلقيه أرضا، ويمسكه من رقبته).

* عودة إلى فيرغسون
* من المفارقات أن ما حدث في نيويورك، والمظاهرات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، أعادت التوتر في فيرغسون، حيث كان الحادث الأول في الصيف الماضي. ونقل تلفزيون «سي إن إن» (ظل يعسكر هناك منذ الصيف، وكأنه يعرف أن التوتر سيعود) مناظر جديدة لمظاهرات واشتباكات مع الشرطة.
وقال بنجامين كرمب، محامي عائلة براون، إن العائلة لا تريد أعمال عنف جديدة. بينما أكد شهود تعرض محل لبيع المشروبات الكحولية للنهب
) وهو المحل نفسه الذي قالت الشرطة إن براون كان دخله لسرقة سجائر منه، مما دفع الضابط ويسلون إلى إطلاق النار عليه، في الصيف الماضي).
ورمى عدد من المتظاهرين الحجارة على رجال الشرطة، وسمعت طلقات نارية، وأُضرمت النار في سيارة تابعة للشرطة.
في فيرغسون، كان الشرطي ويسلون أطلق النار على براون في أغسطس (آب) الماضي. وبعد 3 شهور، قررت هيئة المحلفين عدم توجيه اتهامات إلى الشرطي. في ذلك الوقت، عادت المظاهرات والاشتباكات إلى فيرغسون.. ثم، في الأسبوع الماضي، عادت مرة ثالثة بعد ما حدث في نيويورك.

* التكنولوجيا
* حسب رأي ريتشارد كوهين، وهو رأي معتدل، «لا أنتقد السود، ولا أنتقد البيض»، لعبت التكنولوجيا دورا في تسخين المواجهات، خصوصا انتشار الصور والفيديوهات في المواقع الاجتماعية:
أولا: صورة براون في فيرغسون، ملقى على الأرض (قيل إنه ظل كذلك 3 ساعات).
ثانيا: فيديو شرطة فيرغسون في ملابس عسكرية ومعدات «حرب الإرهاب» (منذ سنوات، يهدي البنتاغون شرطة الولايات معدات عسكرية).
ثالثا: فيديو قتل غارنر، حيث يمسك الشرطي به من رقبته لطرحه أرضا، وهو يصيح بأنه لا يقدر على التنفس.
رابعا: فيديو أوباما وهو يقول: «غالبا، يعتقد الناس أن البعض يعاملون بإنصاف. في بعض الحالات يكون هناك سوء فهم. لكنه أحيانا الواقع». قال كثير من البيض في المواقع الاجتماعية إن هذا كلام دبلوماسي يؤيد فيه أوباما «إخوانه».

* عمدة نيويورك
* وإذ حمل بعض البيض أوباما مسؤولية ما حدث (لأنه الرئيس، ولأنه أسود، ولأن تصريحاته فيها غمز ولمز)، حملوا عمدة نيويورك المسؤولية أيضا، عندما بدأت المظاهرات بعد تبرئة قاتل غارنر، وقال العمدة، بيل دي بلازيو: «إنه يوم مؤثر ومؤلم جدا للمدينة. لا بد من إيجاد سبيل للمضي قدما». ومثل تصريحات أوباما، فهم بعض الناس أنه يدافع عن غارنر، ويعارض الشرطة، شرطة المدينة التي تعمل تحت أوامره، وتساعده على حفظ النظام.
وأشار بعض الناس إلى أن زوجته سوداء، وأنها من قادة النشطاء السود في المدينة. وأشاروا إلى قول العمدة عن ابنه الأسود بأنه دائما يحذره.. «على مدى سنوات، من المخاطر التي يمكن أن يواجهها». وكان يمكن أن يحذره من ألا يخرق القانون، أي إن العمدة نوه بعداء الشرطة، ولم يركز على أهمية إطاعة القانون.
وهكذا، تحول حادثان مؤسفان، قتل فيهما صبيان، إلى سلسلة مواجهات تاريخية بين البيض والسود.. هي تاريخ الولايات المتحدة من قبل أن تكون هناك الولايات المتحدة. اليوم، توجد مواجهتان: علنية (وهذه يمكن أن تهدأ)، وخفية (وهذه ربما لن تنتهي).



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.