«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني
TT

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

مشكلة العنصرية في الولايات المتحدة «لن تحل بين ليلة وضحاها. إنها تراث أجيال وأجيال. لكن، يقدر الجيل الجديد، جيل الشباب، على النضال ضدها. وفي كل الحالات، يتحقق التقدم على مراحل. يتحقق التقدم تدريجيا». هذا ليس رأي خبير أبيض، أو خبير أسود.. هذا ما قاله الرئيس باراك أوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
لم يقل أوباما حديثه هذا خلال الأسبوع الماضي، بعد أن قتل أسود اثنين من رجال الشرطة في نيويورك.. ولم يقله الشهر الماضي، بعد أن برأت هيئة محلفين شرطيا أبيض قتل أسود في نيويورك.. قاله الصيف الماضي، عندما اندلعت أول مواجهات جديدة بين السود والشرطة في فيرغسون، ضواحي مدينة سانت لويس (ولاية ميسوري)، بعد أن قتل شرطي أبيض أسود. وطبعا، يمكن أن يقول أوباما ما قال اليوم أيضا، وغدا أيضا، وبعد غد أيضا.. فالمواجهة العنصرية بين البيض والسود في الولايات المتحدة «تراث أجيال وأجيال»، كما قال هو، رغم أنها تقل عددا ونوعا، مرة بعد مرة، حسب رأي ريتشارد كوهين، (اليهودي) في صحيفة «واشنطن بوست» مبررا ذلك بقوله إن الكلمة المتداولة في الوقت الحاضر هي «كونفرنتيشن» أي «مواجهة»، وكان يقال قبل 50 عاما، «كلاشيز» أي «اشتباكات»، ودموية أحيانا، وقبل مائة عام، كانت «ديسكريمنيشن» أي «تفرقة وتمييز»، وقبل مائتي عام، كانت «سلافيري» أي «عبد رقيق».

* نوعان من التفرقة

* طبعا، انتهت إلى غير رجعة سنوات الرقيق، وسنوات التفرقة العنصرية العلنية والرسمية. لكن، لم ينته (ولن ينتهي) نوعان من التفرقة، حسب خبراء وسياسيين أميركيين: أولا: التفرقة بسبب الاختلاف.. تفرق الاختلافات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بين الأغلبية البيضاء والأقلية السوداء، بصرف النظر عن الجانب العنصري، تفرق هذه الاختلافات بين البيض أنفسهم، وبين السود أنفسهم.
ثانيا: التفرقة الخفية: بسبب الجانب العنصري، أو من دونه، يظل البيض، ليس فقط الأكثر عددا، ولكن، أيضا، الأكثر مالا، وقوة، ونفوذا، وتعليما.. ومثلما يحدث في الدول الأخرى، تظل «الطيور على أشكالها تقع» (مثل أميركي، وعربي أيضا).
وكما صار واضحا، ورغم أن أوباما يريد أن يكون رئيسا لكل الأميركيين، كما انتخب، فإنه كلما تهب عاصفة عرقية، يجد نفسه يميل نحو «أشكاله». وفي الأسبوع الماضي، خصّ تلفزيون «بلاك إنترتينمنت» («الترفية للسود»، اسم قناة كبيرة متخصصة في شؤون السود، ويملكها ملياردير أسود) بمقابلة عن هذا الموضوع، وقال فيها العبارات السابقة. وقال أيضا، وهو يخاطب السود، وليس البيض: «حين تتعلق المسألة بأمر مترسخ مثل العنصرية أو التفرقة في أي مجتمع، يجب التيقظ. لكن، يجب الإقرار أيضا بأن هذا الأمر مستمر منذ فترة طويلة.. إذا تحدثتم عن هذا الموضوع مع الأهل، والأجداد، والأعمام، سيقولون إن الأمور تحسنت. سيقولون إنها ليست مثالية في بعض الحالات، لكنها أفضل».

* السبب هو أوباما
* من المفارقات أن ترتفع درجة حرارة هذه المواجهات في عهد أوباما.
* حدثت مواجهات قليلة في عهد رؤساء قبله، بسبب حوادث قتل فردية مثل التي حدثت خلال الشهور القليلة الماضية. لكن، صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة.. وذلك لأكثر من سبب:
أولا: وضع كثير من السود آمالا كبيرة جدا فيه. ظنوا أنه سيقضي على بقايا التفرقة العنصرية العلنية (مثل هذه المواجهات بين السود والشرطة)، وسيقضي، ربما، على التفرقة الخفية (استعلاء البيض بسبب قوتهم العرقية والاقتصادية، والسياسية، إلخ..).
ثانيا: تململ كثير من البيض بسبب وجود رئيس أسود عليهم (هذه تفرقة خفية أكثر منها تفرقة علنية)، رغم أنه فاز مرتين، ورغم أنه معتدل، ورغم أن والدته بيضاء.. لا يمكن وصفهم بأنهم عنصريون.. لكن، يظل الاستعلاء، خفيا، إن لم يكن علنا.
> هل كان يمكن غير ذلك؟
كتب عن هذا الموضوع جيفري هافينسون، في معهد «هيرتدج» اليميني في واشنطن. وكعادة الخبراء والسياسيين البيض كان حذرا، وتحاشي انتقاد أوباما بوصف أوباما أسود.. انتقده بصفته رئيس. وقال إن أوباما «يجب أن يكون رئيسا لكل الأميركيين». هذه إشارة إلى تصريحات أوباما عن «تصرف الشرطة» و«الشرطة صديقة الشعب».. وهي نفسها تصريحات حذرة، لأن أوباما لا يريد أن يقول: «الشرطة البيضاء تقتل الشباب السود».
لكن، صرح مسؤولون بيض آخرون تصريحات أكثر مباشرة، مثل فيل براينت، حاكم ولاية ميسيسيبي، وهو جمهوري، مثل كل حكام الولايات الجنوبية. ومن المفارقات أن الحزب الجمهوري في القرن التاسع عشر (حزب الرئيس أبراهام لينكولن) قاد الحملة ضد تجارة الرقيق، التي كان يؤيدها الحزب الديمقراطي. الآن، مع بداية القرن الحادي والعشرين، حدث العكس: صار الحزب الجمهوري هو الأبعد من السود، وصار الحزب الديمقراطي هو الأقرب إليهم. لكن، لهذا السبب نفسه، تحولت الولايات الجنوبية من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري.
قال حاكم ولاية ميسيسيبي: «يجب عدم السكوت عن المظاهرات القبيحة (مظاهرات السود) ضد الشرطة». وعلى الوتيرة نفسها، نشرت صحيفة «ويكلي ستاندارد» اليمينية موضوع غلاف عنوانه: «نو لو، نو أوردر» (لا قانون، لا نظام). يشير هذا إلى الشعار التقليدي «لو آند أور» (القانون والنظام). ويشير إلى أن السود الذين يسرقون (مثل براون في فيرغسون)، والذين يرفضون أوامر الشرطة باعتقالهم (مثل غارنر في نيويورك)، هم الذين يتحملون المسؤولية.
وكتبت الصحيفة: «إذا لم يسرق براون، ما كانت الشرطة ستتعقبه، وإذا لم يقاوم غارنر، ما كانت الشرطة ستستعمل القوة معه. أضف إلى هذا أن براون كان سرق من محل لبيع الخمور، وأن غارنر كان يبيع سجائر في الشارع خرقا للقانون. الذي يخرق القانون لا يلوم إلا نفسه».

* لاعبو كرة القدم
* كتب ريتشارد كوهين أن مظاهرات السود (وبعض البيض المؤيدين لهم)، التي ظلت مستمرة من الصيف، منذ أن قتل شرطي أبيض الشاب الأسود براون في فيرغسون، ربما وراء زيادة غضب بعض السود، وزاد غضب السود حتى وصل إلى قتل شرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي. لا يوجد دليل مباشر، لكن، الحقيقة هي أن المظاهرات المستمرة، والاشتباكات مع الشرطة، زادت التوتر.
مثل الذي حدث في مدينتي بيركلي وأوكلاند (ولاية كاليفورنيا)..حطم بعض المتظاهرين واجهات المتاجر، ونهبوا عددا من المحلات التجارية.
واعتقلت الشرطة عددا من المتظاهرين، وقطع المحتجون طريقا سريعا رئيسيا، وألقوا زجاجات، وقلبوا صناديق النفايات وأحرقوها. استمرت هذه المظاهرات لأيام، وتطورت أكثر عندما استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع.
وانطلقت مظاهرات واشتباكات مماثلة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ورفع المتظاهرون لافتات تقول: «شرطة قتلة»، و«فيرغسون في كل مكان»، و«أوقفوا عنف الشرطة». غير أن أكثر شعار يقال إنه ساهم في زيادة العنف، خصوصا قتل الشرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي، هو: «ماذا نريد؟»، ويردد المتظاهرون: «مواجهة الشرطة؟» و«متى نريد ذلك؟» ويردد المتظاهرون «الآن».
وانضم نجوم رياضيون سود إلى الحملة، وارتدى بعضهم قمصانا مكتوبا عليها: «لا أستطيع التنفس» (الكلمات الأخيرة التي يقال إن غارنر قالها بينما كان الشرطي يلقيه أرضا، ويمسكه من رقبته).

* عودة إلى فيرغسون
* من المفارقات أن ما حدث في نيويورك، والمظاهرات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، أعادت التوتر في فيرغسون، حيث كان الحادث الأول في الصيف الماضي. ونقل تلفزيون «سي إن إن» (ظل يعسكر هناك منذ الصيف، وكأنه يعرف أن التوتر سيعود) مناظر جديدة لمظاهرات واشتباكات مع الشرطة.
وقال بنجامين كرمب، محامي عائلة براون، إن العائلة لا تريد أعمال عنف جديدة. بينما أكد شهود تعرض محل لبيع المشروبات الكحولية للنهب
) وهو المحل نفسه الذي قالت الشرطة إن براون كان دخله لسرقة سجائر منه، مما دفع الضابط ويسلون إلى إطلاق النار عليه، في الصيف الماضي).
ورمى عدد من المتظاهرين الحجارة على رجال الشرطة، وسمعت طلقات نارية، وأُضرمت النار في سيارة تابعة للشرطة.
في فيرغسون، كان الشرطي ويسلون أطلق النار على براون في أغسطس (آب) الماضي. وبعد 3 شهور، قررت هيئة المحلفين عدم توجيه اتهامات إلى الشرطي. في ذلك الوقت، عادت المظاهرات والاشتباكات إلى فيرغسون.. ثم، في الأسبوع الماضي، عادت مرة ثالثة بعد ما حدث في نيويورك.

* التكنولوجيا
* حسب رأي ريتشارد كوهين، وهو رأي معتدل، «لا أنتقد السود، ولا أنتقد البيض»، لعبت التكنولوجيا دورا في تسخين المواجهات، خصوصا انتشار الصور والفيديوهات في المواقع الاجتماعية:
أولا: صورة براون في فيرغسون، ملقى على الأرض (قيل إنه ظل كذلك 3 ساعات).
ثانيا: فيديو شرطة فيرغسون في ملابس عسكرية ومعدات «حرب الإرهاب» (منذ سنوات، يهدي البنتاغون شرطة الولايات معدات عسكرية).
ثالثا: فيديو قتل غارنر، حيث يمسك الشرطي به من رقبته لطرحه أرضا، وهو يصيح بأنه لا يقدر على التنفس.
رابعا: فيديو أوباما وهو يقول: «غالبا، يعتقد الناس أن البعض يعاملون بإنصاف. في بعض الحالات يكون هناك سوء فهم. لكنه أحيانا الواقع». قال كثير من البيض في المواقع الاجتماعية إن هذا كلام دبلوماسي يؤيد فيه أوباما «إخوانه».

* عمدة نيويورك
* وإذ حمل بعض البيض أوباما مسؤولية ما حدث (لأنه الرئيس، ولأنه أسود، ولأن تصريحاته فيها غمز ولمز)، حملوا عمدة نيويورك المسؤولية أيضا، عندما بدأت المظاهرات بعد تبرئة قاتل غارنر، وقال العمدة، بيل دي بلازيو: «إنه يوم مؤثر ومؤلم جدا للمدينة. لا بد من إيجاد سبيل للمضي قدما». ومثل تصريحات أوباما، فهم بعض الناس أنه يدافع عن غارنر، ويعارض الشرطة، شرطة المدينة التي تعمل تحت أوامره، وتساعده على حفظ النظام.
وأشار بعض الناس إلى أن زوجته سوداء، وأنها من قادة النشطاء السود في المدينة. وأشاروا إلى قول العمدة عن ابنه الأسود بأنه دائما يحذره.. «على مدى سنوات، من المخاطر التي يمكن أن يواجهها». وكان يمكن أن يحذره من ألا يخرق القانون، أي إن العمدة نوه بعداء الشرطة، ولم يركز على أهمية إطاعة القانون.
وهكذا، تحول حادثان مؤسفان، قتل فيهما صبيان، إلى سلسلة مواجهات تاريخية بين البيض والسود.. هي تاريخ الولايات المتحدة من قبل أن تكون هناك الولايات المتحدة. اليوم، توجد مواجهتان: علنية (وهذه يمكن أن تهدأ)، وخفية (وهذه ربما لن تنتهي).



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.