«الشرق الأوسط» في مهرجان «فنيسيا الدولي» (6): صُوَر فلسطينية ـ إسرائيلية صغيرة لقضايا كبيرة

فيلمان من طرفي النزاع.. كلاهما يعمد إلى البئر نفسه حتى ولو كان لكل منهما موضوعه المختلف

سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»
سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «فنيسيا الدولي» (6): صُوَر فلسطينية ـ إسرائيلية صغيرة لقضايا كبيرة

سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»
سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»

من الطبيعي أن يمسك كل مخرج بالصورة ذاتها لكن من الجانب الذي يراه مناسباً له. الصورة لا تتغير كواقع، لكن وجهات النظر تتباين كون الصورة ذاتها تستطيع أن تعني شيئاً محدداً ومختلفاً لكل من يتعامل معها.
تحدّث المخرج الفرنسي جان - لوك غودار حول هذا الوضع في مشهد من أحد أفلامه السابقة عندما أمسك بصورة لمركب محمّل بمهاجرين فلسطينيين، وهو على أهبة الإبحار شمالاً صوب لبنان خلال النزوح الكبير سنة 1948 وبصورة أخرى لمركب محمل بمهاجرين يهود وصلوا إلى الساحل الفلسطيني ذاته. غاية المخرج القول إن قوماً خلفوا قوماً آخرين بذلك تكمل كل صورة الأخرى.
في دورة مهرجان فينيسيا الـ77 وجود لهاتين الصورتين: فيلم فلسطيني عنوانه «غزة مونامور» وفيلم إسرائيلي عنوانه «ليلى في حيفا». كلاهما يعمدان إلى البئر نفسه حتى ولو كان لكل منهما موضوعه المختلف عن الآخر.
- تمثال برونزي
«غزة مونامور» [على وقع فيلم آلان رينيه «هيروشيما، مونامور» (1959) وفيلم فياشليساف روس «سايبيريا، مونامور» (2011)]، الفيلم الروائي الجديد من المخرجين الفلسطينيين عرب وطارزان ناصر اللذان كانا عرضا فيلمهما الروائي الأول «مرمى التدريب» في مهرجان «كان» سنة 2015. أحداث ذلك الفيلم وقعت في غزة حول مجموعة من النساء حوصرن في صالون للسيدات عندما بدأت الجولة الأخيرة من القتال بين القطاع وإسرائيل.
الفيلم الجديد ما زال يتّخذ من غزة موقعاً لسرد حكايته، لكن الموضوع الماثل يشغله الرجل في المقام الأول. رجل ليس غريباً عن المخرجين الشقيقين كونهما يتحدّثان (بطريقة أو بأخرى) عن أبيهما عيسى ناصر. والمشاهد لا يدري ذلك سريعاً. يلاحظ قربهما من تلك الشخصية لكنه لن يكتشف أنهما يتحدّثان عن أبيهما إلا عندما ينطلق عيسى (يؤديه سليم ضو) باسمه كاملاً في مشهد بعد بداية النصف الثاني من الفيلم.
عيسى رجل جاوز سن الشباب يعيش وحيداً يلجأ إلى البحر على مركبه حيث يصطاد السمك ويبيعه. ذات يوم يعلق تمثال برونزي في شباكه. يخبئه في سيّارته ويعود به إلى منزله حيث يضعه في الخزانة (في فينيسيا أيضاً شاهدنا الفيلم البريطاني «الدوق» حول رجل في العمر ذاته يخفي لوحة مسروقة في خزانة منزله). حين يُكتشف الأمر، وبحضور نساء كانت شقيقته جاءت بهن ليختار منهن زوجة له، يداهم البوليس الفلسطيني منزله ويكتشف التمثال ويسوقهما (هو والتمثال) إلى التحقيق.
يخصص المخرجان فصلاً لدرس طبيعة الضابط الفلسطيني الذي آل إليه التحقيق، ينتقد نموذجاً سلطوياً متداولاً هدفه إثبات تهمة ما على الصياد وإضافة «انتصار» آخر لمنجزاته الصغيرة. الأخوان ناصر يرسمان صورة كاريكاتيرية إنما واقعية وينسجان موقفاً من المسؤولين الذين لا يفعلون شيئاً حيال مشاكل الناس، بل يضيفون فوقها.
حال خروجه من المعتقل بريئاً من كل ذنب سوى أنه أخفى ثروة يحتار المسؤولين في تحديد قيمتها المادية في خزانته، يعود عيسى لهمّه الأول وهو حبه لأرملة (هيام عبّاس) تعمل خياطة في محل ملابس وأقمشة. يدبّر لنفسه صعود سيارة أجرة معها صوب عملهما في السوق. يخبرها عن مجموعة من السراويل التي تحتاج إلى تقصير ثم يزورها لاحقاً لتسليم تلك السراويل ثم مرّة أخرى لتسلمها ليجد أنها قصّت ما يجعل كل سروال أقصر مما كان مطلوباً. يُثير ذلك ضحكها (وضحك المشاهدين) لكنه لن يهتم. هو يحبها ويحاول جهده إعلامها بذلك لكنه يخجل من البوح صراحة.
الفيلم كوميديا سوداء تقع أحداثها في غزة اليوم. هذه الحقيقة تخالف اعتبار أن المخرجين إنما يسردان سيرة والدهما، كونهما راشدين اليوم، مما يعني أن والدهما لا بد أنه كان في أربعينات حياته عندما تزوّج وأنجب. كذلك لأن الأحداث تقع اليوم وليس على أيام والدهما الراحل. لكن ما ينجح الفيلم فيه هو تأطير المشكلة الخاصة التي يعرضها داخل مخاطر الحياة الغزّاوية: من ناحية لدينا المسلمون المتشددون، ومن ناحية أخرى هناك «حماس» وقبضتها السلطوية، ومن جهة المسؤولين المهيمنين، ومن ناحية رابعة هناك القذائف الإسرائيلية التي تُلقى على القطاع في أي وقت ومن دون إنذار.
وحدة عيسى العاطفية (لحين قراره بأن يتقرّب من الأرملة) تعكس وحدة أكبر في مجتمع خرج عن مسارات واعدة ودخل في زقاق من السعي للبقاء حيّاً رغم الظروف. لكن «غزة مونامور» يبتعد تماماً عن الإدلاء بحوار سياسي يكوّن خطابه ذاك. يلحظ ويعرض مكتفياً بذلك القدر وحسناً ما يفعل.
هناك ضعف في المعالجة. لا هو واقعي كفاية ولا فانتازي كفاية ولا كوميدي كفاية أيضاً. بذلك لا يجتاز المسافة كاملة في أي اتجاه فيتوقف عند حد دون سقف الطموحات التي كان ينشدها.
- أمّا في حيفا
في حين تم عرض «غزة مونامور» في مسابقة «آفاق» دخل الفيلم الإسرائيلي «ليلى في حيفا» لعاموس غيتاي مسابقة الفيلم الروائي. يستعرض المخرج ذي التاريخ المعروف الذي تناول فيه مسائل العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين جنباً إلى جنب، البحث عن هوية متبادلة لكل منهما، عدة شخصيات في ليلة واحدة داخل ملهى (اسمه فتّوش) يؤمه فلسطينيون وإسرائيليون حيث يشعرون هناك بحرية الانسجام وسواسية العلاقات. هناك المصوّر الفوتوغرافي غيل (تساحي هاليفي) الذي يحضر معرضاً أقيم له في قاعة ملحقة بالملهى وهو على علاقة بفلسطينية اسمها ليلى (ماريا زريق) متزوّجة من فلسطيني يكبرها سناً (مكرم خوري). حسب الفيلم، يملك الزوج نصف حيفا لكنه لا يملك قلب زوجته.
على أن الفيلم لا يدور في رحى هذا الثلاثي من الشخصيات، بل ينتقل بين شخصيات أخرى تؤم الملهى ذاته من بينها شخصية ثائرة سياسية فلسطينية وشخصية امرأة يهودية تعترف لها بقضيتها لكنها تعتبر الماضي قد انتهى وعلى الشعبين أن يتعايشا. المخرج لا ينتظر أن تبوح شخصيات الفيلم بذلك التعايش، بل يعرضه ويوحي به، معتبراً أن الملهى يستطيع أن يكون نموذجاً للعلاقة خارجه. هذا قبل انتقال المخرج إلى شخصيات عربية وغير عربية تتحدث وترقص.
بصرف النظر عن موقف غيتاي ورغبته، يخفق الفيلم في تحميله غاياته. يبدو ساذج الطرح ومحصوراً في نيّاته وهو بالتأكيد ليس على مستوى أفلام مميّزة سابقة له.
باستثناء مكرم خوري، فإن التمثيل من العرب واليهود يبدو أقرب إلى التمارين المسرحية. بلا حياة ولا حيوية ولا ينقص الممثلين سوى حمل الحوار مكتوباً على ورق وقراءته.


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).