«أزمة سداسية» تعصف بدمشق... وأفران تتوقف عن بيع الخبز لغياب الطحين

طوابير للسيارات أمام محطات الوقود في العاصمة السورية

حريق في أنبوب للغاز قرب دمشق الشهر الماضي (رويترز)
حريق في أنبوب للغاز قرب دمشق الشهر الماضي (رويترز)
TT

«أزمة سداسية» تعصف بدمشق... وأفران تتوقف عن بيع الخبز لغياب الطحين

حريق في أنبوب للغاز قرب دمشق الشهر الماضي (رويترز)
حريق في أنبوب للغاز قرب دمشق الشهر الماضي (رويترز)

عادت من جديد أزمة تأمين الخبز بالسعر الحكومي المدعوم لترهق المواطنين في دمشق مع إغلاق كثير من الأفران بسبب نقص مادة الطحين، وحصول ازدحام شديد أمام العاملة منها. وعادت معها أزمة توفر مادة البنزين، ومشاهد طوابير السيارات وهي مصطفة أمام محطات الوقود، بحيث بات بعض السوريين يتحدثون عن «أزمة سداسية» تعصف بالبلاد، بالتزامن مع حرائق غرب البلاد.
وباتت صعوبة تأمين الخبز بالسعر الحكومي المدعوم (50 ليرة للربطة الواحدة المؤلفة من 8 أرغفة) حديث عامة الناس المرهقين من الفقر، إذ تشهد الأفران منذ بدء عملها في ساعات الفجر حالات ازدحام غير مسبوقة منذ اندلاع الحرب في سوريا قبل أكثر من 9 سنوات.
ويوضح «أبو محمد»، وهو رجل في العقد الخامس، وهو يغادر من أمام الفرن من دون الحصول على الخبز، أنه رغم انتظاره لأكثر من 5 ساعات، فإنه لم يتمكن من الحصول على ربطتين بسبب الازدحام الشديد، ويضيف: «طوال فترة انتظاري، لم أتحرك من مكان وقوفي ولو لمتر واحد، والكل يشاهد كيف يحصل باعة الأرصفة على كميات كبيرة (من خارج الدور)، ومن ثم بيعها على الأرصفة بسعر ما بين 200 و250 ليرة للربطة».
أحد العاملين في مخبز يقع وسط العاصمة كشف لـ«الشرق الأوسط» أن السبب الرئيسي في اشتداد الأزمة هو إغلاق كثير من الأفران لعدم حصولها على مخصصاتها من مادة الدقيق التي توزعها الحكومة، ويضيف: «أيضاً، ما يتسبب بهذه الازدحام بيع القائمين على منافذ البيع كميات كبيرة من الخبز لباعة الأرصفة، كونهم يتقاضون منهم مبالغ كبيرة في صورة رشوة».
ويستغرب المواطنون كيفية بيع القائمين على منافذ البيع في الأفران كميات كبيرة من الخبز لباعة الأرصفة، مع حصر الحكومة البيع بما يسمى «البطاقة الذكية»، بمعدل 4 ربطات لكل عائلة في اليوم الواحد.
وقبل 2011، كانت سوريا تنتج 4 ملايين طن من القمح في العام، وكان بإمكانها تصدير 1.5 مليون طن، في وقت قدر فيه تقرير أممي إنتاج القمح فيها العام الماضي بنحو 1.2 مليون طن، وهو أدنى مستوى منذ 29 عاماً، وسط معلومات عن أنها تسلمت منه نحو 500 ألف طن فقط، وأن يتراجع الإنتاج أكثر هذا العام.
وتحتاج المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة ما بين مليون ومليون ونصف طن سنوياً لسد احتياجاتها من مادة الطحين، ولذلك تقوم «المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب» التابعة للحكومة منذ اندلاع الحرب في البلاد بطرح مناقصات عالمية للشراء.
وكانت محافظات الجزيرة (الحسكة ودير الزور والرقة) التي تسيطر على معظمها «قوات سوريا الديمقراطية» العربية - الكردية، إضافة إلى حلب، تشكل الخزان الاستراتيجي للقمح لأكثر من 23 مليون سوري.
وفي العام الحالي، أبدت الحكومة استعدادها لشراء كل القمح الذي يقدم لها عبر مراكز الشراء والتجميع، بينما أعلنت الأمم المتحدة العام الماضي أن هناك 13 مليون شخص من السكان في سوريا يحتاجون إلى مساعدات إنسانية.
وفي حين يقوم عدد من المزارعين في المناطق الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» ببيع محاصيل القمح لـ«الإدارة الذاتية»، يقوم مزارعون في مناطق الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا ببيع القمح لمراكز تابعة للحكومة المؤقتة المدعومة من تركيا.
وخلال الصيف الحالي، اندلعت حرائق غامضة في الأراضي المزروعة بمحصول القمح، سواء الأراضي الواقعة تحت سيطرة الحكومة أو «الإدارة الذاتية» أو مناطق الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، مع تبادل تلك الأطراف الاتهامات بالوقوف وراء تلك الحرائق.
وبالترافق مع أزمة تأمين الخبز بالسعر الحكومي المدعوم، وصلت إلى دمشق أزمة توفر مادة البنزين، حيث يشاهد طوابير طويلة من السيارات مصطفة أمام محطات الوقود، بعد أن كانت الأزمة الجديدة قد حدثت منذ أيام قليلة في عدد من المحافظات، منها السويداء (جنوب) وحلب (شمال) وحماة (وسط) ودرعا (جنوب).
وكانت دمشق قد شهدت في أبريل (نيسان) 2019 أزمة توفر البنزين، إذ انحسرت إلى حد كبير حركة السيارات في الشوارع، وارتفع مستوى التذمر الشعبي.
وتتقاسم الحكومة السورية و«قوات سوريا الديمقراطية» السيطرة على حقول النفط، لكن غالبية النفط السوري هو تحت سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، في محافظتي الحسكة ودير الزور، وتنحسر سيطرة الحكومة السورية على حقول النفط في مناطق غرب الفرات، في دير الزور وسلسلة الجبال التي تعرضت للتخريب خلال المعارك مع تنظيم داعش.
وبلغ إنتاج سوريا قبل اندلاع الحرب في عام 2011 نحو 400 ألف برميل نفط يومياً، أكثر من نصفها للاستهلاك المحلي، والباقي للتصدير. أما اليوم، فلا تتجاوز نسبة الإنتاج 14 ألف برميل يومياً، حسب مصادر حكومية.
ويأتي تجدد أزمتي توفر الخبز والبنزين في دمشق لتضاف إلى أزمات قائمة، تشمل أسطوانات الغاز المنزلي والكهرباء والماء والدواء، وسط عقوبات اقتصادية مشددة تفرضها الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية وإقليمية على الحكومة السورية.



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.