فتحي باشاغا... «الرقم الصعب» في معادلة حكم ليبيا

«تجاوز الصلاحيات» يُعرقل مسيرة الوزير «الطيار»

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب»  في معادلة حكم ليبيا
TT

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب» في معادلة حكم ليبيا

فتحي باشاغا... «الرقم الصعب»  في معادلة حكم ليبيا

من لم يشاهد الموكب المهيب لفتحي باشاغا، وزير الداخلية في «حكومة الوفاق» الليبية، وهو يتنقل بين شوارع ومناطق العاصمة طرابلس، فلن يدرك حقيقة ما يُحيط بهذا الرجل ذي الهندام البسيط؛ إلا أن الاستماع إليه ومتابعة أحاديثه المتلفزة يرسخ اليقين بأنه شخص يعرف ما يريد، ويخطط إلى حيث يريد الوصول.
ولأن باشاغا مُغرم بالتخطيط، فهو يجيد رسم المشهد المحيط به، ومنذ تفجر الخلاف العلني الذي اشتعل بينه وبين رئيس «المجلس الرئاسي» فائز السراج، الأسبوع الماضي، على خلفية وقف الأول عن العمل الوزاري قبل العودة عن القرار، أظهر باشاغا، ما يؤكد أنه بات «رقماً صعباً» في معادلة الحكم في ليبيا. ولعل مشهداً آخر كان هو بطله لدى عودته قبل أسبوع من أنقرة في خضم التباين مع السراج، يعزّز من صورته، إذ كان في استقبال الوزير المعلّق عمله، فرقة موسيقية عسكرية وضباط وحشد من المناصرين، بل إن عشرات الآليات المسلحة رافقته حتى منزله لحمايته.
ما أصبح عليه الآن فتحي باشاغا، وهو القريب من تركيا، والمتهم بـ«القفز على صلاحيات السراج» يختلف كثيراً عن بداياته. ذلك أن وزير الداخلية والمنتمي إلى مدينة مصراتة (بشمال غربي ليبيا) صعدت به «انتفاضة» 17 فبراير ككثيرين من أبناء جيله، وأدخلته عالم السياسة من باب الاندماج في «المجلس العسكري» الذي تشكَّل في مصراتة، عقب إسقاط نظام الرئيس الراحل معمّر القذافي عام 2011 ومنذ ذلك الوقت، وباشاغا يواصل الصعود بدأب نحو تحقيق حلمه، وإن كان بحذر شديد.
وفي مصراتة التي تقع على بعد 200 كيلومتر شرق طرابلس، وتعدّ مقراً للجماعات المسلحة النافذة، نما الفتى فتحي علي عبد السلام باشاغا (58 سنة) في المدينة التي سيقيّض لها لعب دور مهم في الأيام المقبلة بإسقاط نظام حَكَم ليبيا قرابة 42 سنة.
ومن ثم، فور إتمامه شهادة الثانوية العامة التحق بالكلية الجوية، وتخرّج فيها برتبة مُلازم طيار عام 1984؛ لكنه سرعان ما استقال عام 1993 واتجه للأعمال الحرة، ليصبح مفوضاً لـ«الشركة العالمية للاستيراد».
من نقطة التجارة الخاصة انطلق باشاغا، المولود يوم 20 أغسطس (آب) عام 1962 لبناء قاعدة جماهيرية بين أبناء مدينته الساحلية التي تعد ثالث كبرى مدن ليبيا من حيث عدد السكان بعد طرابلس وبنغازي. وطوال 18 سنة ظل منكفئاً على ذاته، مكتفياً بالاتجار في إطارات السيارات التي يستوردها من الخارج؛ وهو ما عبر عنه المتظاهرون فيما بعد بوسط طرابلس، عندما هتفوا ضده: «يسقط العجلاتي». غير أن ثمة من يرى أن باشاغا اتقى شرّ نظام القذافي، وفضل «تجارة الإطارات عن العمل في السياسة التي كانت من المحرمات، وتستوجب السجن أو الإعدام آنذاك». غير أن هذه «التقيّة» التي مارسها الطيار الشاب، واشترك فيها مع تنظيم «الإخوان» بمدينته، لم تظل كثيراً، بعد سقوط القذافي أصبح «الإخوان» وباشاغا أشبه بـ«ماردين خرجا من القمقم»، لكل منهما أهدافه وخططه المستقبلية، وهو ما عكسته غالبية التيارات السياسية والتشكيلات المسلحة التي تشكلت تباعاً.

الدخول من «باب الثورة»
ما كانت أرض مدينة سرت قد رويت بعد من دماء القذافي التي سُفكت هناك بعد.
في تلك الأثناء تحوّرت ملامح ليبيا، وبدت أكثر قسوة عما كانت عليه.
تبدّدت معها كل سمات الدولة ومقوماتها على يد التشكيلات المسلحة؛ و«المجالس العسكرية» المُستحدثة. وكانت هناك مصراتة تعيش حالة متّقدة من الزهو، برّرها أحد أبنائها في حديث إلى «الشرق الأوسط» قائلاً: «نحن الذين صنعنا الثورة، ونقدّم الشهداء دفاعاً عن طرابلس (...) أليس هذا بكافٍ لتتصدر مصراتة المشهد، بدلاً من الذين يأتون من مؤخرة الصفوف؟».
على أثر هذه الحالة «المزهوّة» التي تواكبت من تفكك الجيش الليبي آنذاك، واستحواذ المدينة على كثير من مخازن السلاح الذي جمعه أبناء القذافي في مناطق عديدة بالبلاد، تشكلت لجنة قضائية، فاستدعت الضباط العاملين والمُستقيلين لتشكيل «مجالس عسكرية». وهنا تخلى تاجر الإطارات عن «تقيته»، والتحق سريعاً بالمجلس الذي شُكِّل في مصراتة لكونه «مدرب طيران مُستقيلا»، وهكذا بدأ نجم فتحي باشاغا يلوح في الأفق؛ لا سيما مع بداية التدخلات الخارجية في ليبيا.

الـ«ناتو» والفتى الطيار
وبشكل أسرع مما رسمه باشاغا، بدأت أسهمه تتصاعد؛ لا سيما، مع بداية ضربات حلف شمال الأطلسي الـ«ناتو» على ليبيا، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي يوم 17 مارس عام 2011 بفرض حظر جوي على البلاد، ثم تنظيم هجمات مُسلحة ضد قوات القذافي الجوية لإعاقة حركتها، ومنعها من التحليق في الأجواء الليبية.
هنا برز دور الفتى الطيار باشاغا، بوصفه رئيس قسم «المعلومات والإحداثيات» في المجلس العسكري بمصراتة، وتقرب بما يكفي من أطراف دولية، أبرزها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وهي المرحلة التي يرى أقرانه أنها كانت «بداية طريق» باشاغا الحقيقية؛ إذ إنه كان المسؤول عن منح الـ«ناتو» الإحداثيات اللازمة لضرب قوات القذافي، وفعلاً تيسر لها الإجهاز عليه وعليها.
في تلك المرحلة، بدا باشاغا الذي كان يستهل عقده الخمسين، يتقدم الصفوف على أنه «رجل المهام الصعبة». وأضحى نقطة ارتكاز في مدينته التي تتأهب هي الأخرى لمعركة جديدة تقودها غالبية ميليشياتها المنضوية تحت راية عملية ما عرف بـ«فجر ليبيا». وكان باشاغا، الذي انتخب عضواً بمجلس الشورى في مصراتة، أحد داعمي هذه المعركة التي أتت فيما بعد على المطار الدولي بالعاصمة. ووقف يومذاك صلاح بادي قائد «لواء الصمود» يهتف ويكرّر: «الله أكبر ولله الحمد»، عندما كانت النيران تلتهم الطائرات الرابضة في مدارجه.
وعقب إخماد نيران عملية «فجر ليبيا»، أجريت الانتخابات البرلمانية في 25 يونيو (حزيران) عام 2014 وانتخب فيها باشاغا نائباً عن مصراتة. إلا أنه سرعان ما قرر المقاطعة ضمن مجموعة من نواب المدينة، على خلفية إلغاء المحكمة العليا في طرابلس التعديل الدستوري الذي نتج عنه قانون الانتخابات؛ ولم يعتدّ به برلمان طبرق.
وكأي شيء يحدث في ليبيا، انقلبت الأوضاع في هذا البلد الغني بالنفط، وأصبح باشاغا خلال خمس سنوات ملء السمع والبصر، بما حققه من تقارب لدى شرائح «الثوار» وتأكيده الدائم على ضرورة المحافظة على «مكتسباتهم» من «مكر الساسة».

القرب من أنقرة
في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018، عيّن فائز السراج رئيس المجلس الرئاسي، فتحي باشاغا وزيراً للداخلية، خلفاً للعميد عبد السلام عاشور، في خطوة وصفها البعض حينها بأنها تستهدف ترضية مصراتة، والبحث عن ثقل عسكري. ذلك أن السراج في تلك الفترة كان ينظر إلى المدينة لما تملكه من ترسانة أسلحة بأنها القوة الضرورية الدعم موقفه؛ خصوصاً في مواجهة اللواء التاسع «الكانيات» الذي كان يسيطر على مدينة ترهونة، ويهدد طرابلس من وقت لآخر.
غير أنه، قبل أن يهل الشهر السابع على تعيين باشاغا، أمر المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» بالهجوم على العاصمة، مقر حكم السراج، فتحقّق للسراج ما كان يريده!
في هذه المرحلة، انخرطت جميع كتائب مصراتة العسكرية وميليشياتها المسلحة خلف السراج، وهنا ظهر باشاغا بصور مغايرة لرجل الأعمال العازف عن الانخراط في السياسة، فأخذ يتفقد محاور الاقتتال ويتردد عليها كرجل حرب خبير، يحيط به عسكريون أشداء مدججون بالرشاشات الثقيلة، ويطَّلع على آخر المستجدات القتالية، ويرشد ويوجه، قبل أن يغادرهم.
ومنذ أن بدأت الحرب على العاصمة التي دامت 13 شهراً، وانتهت، وزيارات باشاغا إلى العاصمة التركية أنقرة لم تنقطع.
لقد تردد عليها مرات عدة، وأقام فيها طويلاً، ربما أكثر من السراج، وهو ما أرجعه البعض إلى أن تركيا تنظر إليه على أنه رهانها التالي في ليبيا، لأسباب من بينها: اضطلاعه بمهام أمنية، وقدرته الحالية على توحيد صف المقاتلين على جبهات القتال، وكذلك لمعارضته لوقف الحرب، وفقاً لرؤية السراج وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب.

«الثوار والميليشيات»
ينظر البعض إلى تحركات فتحي باشاغا الأخيرة الذي يتنقل في موكب مهيب يضم عشرات السيارات والمصفّحات وكاشفات للمتفجرات، على أنها بداية مرحلة من توسيع النفوذ، وإعادة لترتيب البيت من الداخل. وحقاً، دأب منذ انتهاء معركة طرابلس على الكلام عن الفساد، وتوجيه الانتقادات الحادة لبعض الميليشيات، وبالأخص، التابعة للمجلس الرئاسي، مثل «ثوار طرابلس»، و«النواصي» التابعة لـ«قوة حماية طرابلس»، ويرى أنها متجاوزة للقانون، في حين لم يأتِ على ذكر أي من الميليشيات التابعة لمصراتة.
انتقادات باشاغا لقوات «الرئاسي» جاءت في إطار تعهدات سابقة قطعتها وزارته على نفسها للإدارة الأميركية، ببحث وضعية الميليشيات في العاصمة. ومضى معززاً هذا التوجه بالكتابة عبر حسابه على موقع التدوينات القصيرة «تويتر»: «(الثوار) فقط هم مَن يساندون الدولة المدنية، ولا يعتدون على مؤسساتها، ويحمون الوطن والمواطن».
و«قوة حماية طرابلس» التي تمثل القوة المسلحة بالعاصمة، تضم ميليشيات «قوة الردع الخاصة» و«ثوار طرابلس» و«قوة الردع والتدخل المشترك أبو سليم»، و«باب تاجوراء»، بالإضافة إلى القوة الثامنة «النواصي».
وهكذا لاقت الخطوات التي اتخذها باشاغا باتجاه كبح جماح ميليشيات طرابلس، الحامية لظهر السراج، استحساناً أميركياً، ورفعت أسهمه داخل مصراتة التي تُوصف بأنها «دولة داخل دولة»، لما تملكه من تأثير سياسي على أي سلطة تأتي لطرابلس. وفي كل الأحوال بات الرجل يحظى بتقدير واسع من قبل الداعمين الدوليين لـ«حكومة الوفاق»، كرَّس له بلقاء وأحاديث يراها البعض بأنها جاءت خصماً من رصيد وسلطات السراج.

لماذا الصِدام؟
عشية 20 أغسطس الماضي، وجد «مُدرب الطيران» الذي لم يشاهده الليبيون يقود طائرة ولو لمرة واحدة نفسه خارج السلطة.
حصل ذلك بعدما أوقفه السراج عن العمل، وأمر بإخضاعه للتحقيق الإداري أمام المجلس الرئاسي، خلال أجل أقصاه 72 ساعة من تاريخ صدور هذا القرار، لاتهامه بتوفير الحماية للمتظاهرين. لكن باشاغا لم يبد انزعاجاً، وأعلن موافقته على التحقيق، شريطة أن يبث مباشرة على التلفزيون، كما لم يكترث بمتظاهري مدينة الزاوية الذين وصفوه في هتافاتهم بـ«العجلاتي».
من ناحية أخرى، أظهرت أزمة السراج وباشاغا تقاربا بين الأخير وتنظيم «الإخوان» في مصراتة، إذ أبدى التنظيم وذراعه السياسية حزب «العدالة والبناء» تأييداً ومساندة واسعة لوزير الداخلية الموقوف، تمثلت في مظاهرات وهتافات مناوئة للسراج؛ بل ومهينة أيضا، وهذا ما رصده يعرب البركي، الناشط السياسي في غرب ليبيا، ضمن حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إذ قال: «في هذه الليلة كانوا يخططون لانقلاب على السراج، يتولى بمقتضاه باشاغا رئاسة الوزراء، وينصّب زعيماً وطنياً لضمان وجودهم في أي تسوية سياسية مقبلة».
وتابع البركي «هذه الخطوة كانت مدعومة من أجهزة استخباراتية لدول داعمة لوجود باشاغا في المشهد السياسي، واستهدفت إيهام الرأي العام الدولي بأن للأخير حاضنة شعبية، وبالتالي فهو جدير بالتحاور معه». لكن هذه المحاولات لم تنطلِ على سكان غرب ليبيا الذين أوقفوا حراكهم السلمي، ليثبتوا أنهم يرفضون باشاغا ومن خلفه تنظيم (الإخوان).
من جهتها، اتهمت «قوة حماية طرابلس» التابعة للمجلس الرئاسي باشاغا و«الإخوان» بـ«السعي نحو الحكم بأي طريقة»، وقالت: «التزمنا الصمت طيلة الأيام الماضية التي شهدت فيها العاصمة طرابلس موجة احتجاجات شعبية مطالبة بالإصلاح ومحاربة للفساد»؛ لكن «البيانات المتضاربة لباشاغا لا تختلف كثيراً عن تصريحاته المثيرة للجدل أثناء (حرب البركان) ضد قواتنا المدافعة عن الحق».
صباح أول من أمس، خضع وزير الداخلية للتحقيق، وكان لدى عودته من زيارة إلى تركيا قد قال للصحافيين في مطار معيتيقة: «أنا لست ضد أي مجموعة ولا ضد أي فرد. أنا أتكلم عن حالة مرضية اسمها الفساد... ولا أريد هذا المنصب إذا كان لا بد من أن أظلم الشعب الليبي (...) لن أنحاز للفاسدين». والمدهش أنه كان في استقبال الوزير رغم تعليق عمله، في حينه (وقبل إعادته إلى عمله), فرقة موسيقية عسكرية وضباط وحشد من المناصرين!



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.