هجمات 2015 أمام القضاء الفرنسي

14 متهماً و150 شاهداً و200 جهة مدعية ومحاكمة لشهرين ونصف الشهر

محامون وشرطيون قبيل بدء جلسات محاكمة المتهمين بهجمات إرهابية في باريس أمس (رويترز)
محامون وشرطيون قبيل بدء جلسات محاكمة المتهمين بهجمات إرهابية في باريس أمس (رويترز)
TT

هجمات 2015 أمام القضاء الفرنسي

محامون وشرطيون قبيل بدء جلسات محاكمة المتهمين بهجمات إرهابية في باريس أمس (رويترز)
محامون وشرطيون قبيل بدء جلسات محاكمة المتهمين بهجمات إرهابية في باريس أمس (رويترز)

قبل خمس سنوات وتسعة أشهر انطلقت شرارة العمليات الإرهابية في فرنسا على وقع تمدد تنظيم «داعش» الإرهابي واستقواء دعايته الآيديولوجية وتمكنه من اجتذاب مئات الأشخاص إن للقتال إلى جانبه في سوريا والعراق أو للقيام بعمليات إرهابية في بلدان إقامتهم. وفي فرنسا وحدها، أوقع الإرهاب منذ مطلع العام المشار إليه وحتى اليوم 258 قتيلاً وآلاف الجرحى وما زال ظله مخيماً على البلاد. وقبل يومين أعلن وزير الداخلية جيرالد دارمانان، بمناسبة زيارته للإدارة العامة للأمن الداخلي «المخابرات الداخلية» أن «التهديد الإرهابي ما زال على أشده»، وبالتالي فإن «محاربة الإرهاب الإسلاموي ما زال على رأس أولويات الحكومة» وأن السلطات «لن تتخلى أبداً عن ملاحقة أعداء الجمهورية». وبالأرقام، فقد أفاد الوزير الفرنسي بأن الأجهزة الأمنية الفرنسية لديها 8132 فرداً على لوائح المسجلين بشبهة التطرف الإسلاموي الذين يمكن أن يشكلوا تهديداً إرهابياً. ورغم الهزيمة التي لحقت بـ«داعش» وخسارتها غالبية الأراضي التي كان تسيطر عليها في العراق وسوريا، فإن التهديد الإرهابي الخارجي، وفق دارمانان، ما زال قائماً. إلا أن التهديد الإرهابي «الداخلي» هو «الأقوى بحيث إنه يتغذى من بروباغندا (دعاية) المجموعات الإرهابية ويروج لها الإسلام الراديكالي في العديد من أحياء المدن الفرنسية».
وسط هذه المخاوف والأجواء الملبدة، ووسط إجراءات وتدابير أمينة بالغة التشدد، انطلقت صباح أمس في باريس محاكمة 14 متهماً بالضلوع في العمليات الإرهابية التي ضربت مطلع العام 2015 هيئة تحرير صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة ومتجراً للأطعمة اليهودية إضافة إلى امرأة شرطية. وأوقعت هذه العمليات 17 قتيلاً. وقُتل المنفذون الثلاثة وهم الأخوان سعيد وشريف كواشي اللذان هاجما هيئة تحرير المجلة الفرنسية الساخرة التي نشرت قبل المقتلة صوراً مسيئة للرسول الكريم، وأحمدي كوليبالي الذي قتل الشرطية وهاجم المتجر اليهودي. وأثارت هذه العمليات تعاطفاً دولياً مع فرنسا التي شهدت في 11 يناير (كانون الثاني) مظاهرات مليونية بحيث عرفت باريس أضخم مظاهرة رسمية وشعبية منذ تحريرها مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وبمشاركة عشرات رؤساء الدول والحكومات. وستجري في الربيع القادم محاكمة أخرى لا تقل أهمية، إذ إنها ستتناول الضالعين في العمليات الإرهابية التي ضربت مسرح «الباتاكلان» في باريس وعدة مقاه ومطاعم في الدائرتين 11 و12 وملعب فرنسا الكبير الواقع على مدخل باريس الشمالي الغربي.
المحاكمة لن تطال الأخوين كواشي وأحمدي كوليبالي الذين قتلتهم القوات الأمنية، بل 14 شخصاً مما يظن القضاء أنهم إما كانوا على علم بالخطط الإرهابية أو أنهم قدموا الدعم اللوجيستي متعدد الأشكال للثلاثة. بيد أن ثلاثة من هؤلاء يحاكمون غياباً وأبرزهم حياة بومدين، زوجة كوليبالي التي «اختفت» قبل العمليات ويظن أنها التحقت بالتنظيم الإرهاب في سوريا، بالإضافة للأخوين محمد ومهدي بلحسين اللذين يظن أنهما قتلا في معارك سوريا والعراق.
وبالنظر إلى هذه المحاكمة الاستثنائية التي ستمتد إلى شهرين ونصف، فقد قررت السلطات العدلية تصويرها بالكامل حتى تحفظ للتاريخ. وقال ريشار مالكا، وهو محامي إحدى عائلات الضحايا، إن الغرض أن تكون «شاهداً» للأجيال القادمة. كذلك، فإن التحقيقات والشهادات تتكون من 170 مجلداً وستستمع المحكمة الجنائية الخاصة المتخصصة بقضايا الإرهاب إلى 150 شاهداً وخبيراً ولما لا يقل عن 200 جهة مدنية مدعية.
وعمدت السلطات القضائية إلى تخصيص أوسع القاعات التي يتضمنها قصر العدل الجديد لاستيعاب القضاة والمحامين وعائلات الضحايا والشهود، وكل ذلك وسط تدابير أمنية استثنائية.
وداخل قاعة المحكمة، وضع 10 من المتهين في قفصين منفصلين فيما المتهم الحادي عشر ترك خارج القفص ودخل حراً إلى قوس المحكمة. وسيحاول القضاء، حتى العاشر من نوفمبر (تشرين الثاني)، تحديد درجة مسؤولية كل منهم ومدى مشاركته في الإعداد للهجمات والدعم والمساعدة التي وفرها للثلاثة. وقد وجه قضاة التحقيق المختصون بمكافحة الإرهاب تهم «التواطؤ» في جرائم إرهابية ويعاقب عليها بالسجن المؤبد، ضد محمد، الأخ الأكبر للأخوين بلحسين، وعلي رضا بولات الماثل في قفص الاتهام.
ويُشتبه في أن بولات المقرب من كوليبالي أدى دوراً رئيسياً في التحضير للهجمات، ولا سيما في توفير الأسلحة للإرهابيين الثلاثة، لكنه ينفي ذلك.
أما المتهمون الآخرون فإنهم يحاكمون بشكل أساسي بتهمة «تشكيل جماعة إرهابية إجرامية» ويواجهون عقوبة السجن لمدة عشرين عاماً. ويمثل شخص واحد طليقاً تحت الرقابة القضائية بتهمة «الاتفاق مع مجرمين»، وهي جريمة يعاقب عليها بالسجن عشر سنوات.
وقالت إحدى محاميات المتهمين إنه يتعين الأخذ بعين الاعتبار أن المتهمين الـ14 ليسوا هم من ارتكب العمليات الإرهابية وأن الثلاثة قتلوا منذ خمس سنوات، وبالتالي يتعين أن يحافظ القضاء على حياديته. بيد أن التوجه العام يشي بعكس ذلك، خصوصاً أن الرأي العام الفرنسي معبأ ويريد أن تكون المحاكمة والعقوبات بمثابة «درس» للآخرين.
وقد اعترف النائب العام الوطني لمكافحة الإرهاب بأن غياب الأخوين كواشي وكوليبالي يشكل «مصدر إحباط»، لكنه أردف أنه «يرفض فكرة» أن المتّهمين الأربعة عشر «ليسوا أساسيين ولا أهمية لهم».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟