«البروليتاريا المتمردة»... صراع الطبقة العاملة مع الحزب الشيوعي الحاكم باسمها

كتاب روسي يكشف عن علاقات متوترة بينهما منذ بداية ثورة أكتوبر 1917

ثورة أكتوبر... صدامات مع الطبقة العاملة منذ الأيام الأولى
ثورة أكتوبر... صدامات مع الطبقة العاملة منذ الأيام الأولى
TT

«البروليتاريا المتمردة»... صراع الطبقة العاملة مع الحزب الشيوعي الحاكم باسمها

ثورة أكتوبر... صدامات مع الطبقة العاملة منذ الأيام الأولى
ثورة أكتوبر... صدامات مع الطبقة العاملة منذ الأيام الأولى

يسلط الباحث الروسي ديمتري تشوراكوف في كتابه «البروليتاريا المتمردة على البلاشفة بعد ثورة أكتوبر 1917» الضوء على الحركة العمالية الروسية، وما قامت به من مواقف مضادة لمحاولات البلاشفة السيطرة على مقاليد الحكم في الاتحاد السوفياتي بعد ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917.
ويأتي الكتاب في إطار ما يعرف في روسيا حالياً بتيار «الماركسية الناقدة»، الذي انتشر في صفوف بعض الأكاديميين الروس مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو تيار أخذ في التبلور من خلال أعمال تشوراكوف ومؤلفاته في العشرين عاماً الأخيرة، فضلاً عن دراسات وأبحاث قدمها زملاء له، ويقدم هذا التيار نقداً للتجربة السوفياتية، وما يجري في روسيا المعاصرة أيضاً، انطلاقاً من منظور الماركسية العلمية.
على مدى تسعة فصول نُشرت دراساتٍ منفصلة في مجلات روسية عدة عامي 2011، و2012، وصدرت في كتاب عام 2015، بالعاصمة موسكو، يؤرخ تشوراكوف، الحاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ، للانتفاضات العمالية التي ناهضت السلطة البلشفية، ويلفت إلى أنها ارتبطت بشكل وثيق بمطالب اجتماعية واقتصادية وسياسية لطبقة البروليتاريا، وكان الهدف منها توسيع القاعدة الاجتماعية للحكومة الثورية، وليس الإطاحة بها، وهو نهج سعى العمال من خلاله للحفاظ على حقوقهم المكتسبة، وتعزيز قدرتهم في التأثير على سياسة الحكومة التي نظمها السوفيات. لكن يبدو أن الأمر في بعض المناطق الروسية خرج من بين أيديهم، وذلك في الفترة من 1918 وحتى عام 1921، التي أطلق عليها الباحثون مرحلة «شيوعية الحرب»، وهي التي اندفع فيها العمال إلى حمل السلاح لمواجهة عنف البلاشفة، ورغبتهم في إقصاء غيرهم من القوى الحزبية، والاستئثار بالسلطة.
ويشير تشوراكوف في كتابه الذي صدرت نسخته العربية في القاهرة حديثاً عن دار روافد، وقدم لها الدكتور هاني شادي المتخصص في الشؤون الروسية، إلى أن محاولات البلاشفة رسم صورة وردية لعلاقتهم مع الطبقة العاملة كانت نوعاً من الدعاية، فلم تكن العلاقة بينهما منذ الأيام الأولى لاستيلائهم على مقاليد السلطة، خالية من المشكلات والأزمات، وقد ظلت الكتابة عنها خاضعة للمنع والحظر لفترة طويلة خاصة بعد استيلاء ستالين على السلطة. وقد أثبتت الدراسات التاريخية الحديثة في روسيا بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفياتي بما لا يدع مجالاً للشك أن العلاقة بين البلاشفة والعمال سادها التوتر والصدامات التي وصلت إلى حدود إطلاق النار على مسيراتهم الاحتجاجية، ومقتل وإصابة الكثير منهم.
ويتناول المؤلف دراساته المراحل التي مرت بها المنظمات العمالية في تعاطيها مع الأحداث، وقد بدأها بمرحلة نشأة السلطة البلشفية، وتمتد من خريف 1917 وحتى صيف 1918، ومرحلة سياسة «شيوعية الحرب» والحرب الأهلية التي بدأت منذ عام 1918، وحتى 1921، ثم مرحلة السياسة الاقتصادية الجديدة التي بدأت عام 1921، وامتدت لسبع سنوات، ثم مرحلة تأسيس الاقتصاد التعبوي واقتصاد الأوامر من 1929 وحتى منتصف الخمسينات من القرن الماضي، ومرحلة استقرار النظام السوفياتي من منتصف الخمسينات وحتى مطلع الثمانينات، ومرحلة سقوط النظام السوفياتي، وتبدأ من النصف الثاني للثمانينات، وأخيراً مرحلة نشأة وتطور النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي المعاصر في روسيا في فترة ما بعد المرحلة السوفياتية وتمتد من مطلع التسعينات وحتى يومنا الحاضر.
اعتمد تشوراكوف في سبيل توثيق الصراع بين العمال والبلاشفة على طائفة واسعة من مواد الأرشيف الروسي الرسمي، وجهاز الأمن، ووثائق الأرشيف المركزي لمنطقة الأورال، التي كانت محظورة في العهد السوفياتي. كما استند إلى مؤلفات بعض المؤرخين، سواء التابعين للسلطة السوفياتية أو المعارضين لها، فضلاً عن عدد كبير من صحف السنوات الأولى بعد ثورة أكتوبر. وقد جعل الكم الهائل من المواد الأرشيفية، ما جاء في الكتاب من آراء يتسم بقدر كبير من الموضوعية.
وحسبما يشير تشوراكوف، برزت الخلافات والنزاعات بين القيادات العمالية والبلاشفة، في أثناء انتقال السلطة إلى مجلس السوفياتات الأعلى، وتركز النزاع السياسي الأول حول شعار «تشكيل حكومة اشتراكية موحدة تجمع القوى الاشتراكية كافة»، واستبق العمال في حالات غير قليلة خطوات السلطة في مجال الاقتصاد والإدارة العمالية الذاتية، وليس أدل على ذلك من احتجاجاتهم ذات الطابع السياسي والاقتصادي التي اندلعت في أكتوبر 1917 في منطقة الأورال ومدينتي بتروجراد وموسكو، ومهدت التربة لمرحلة أكثر عمقاً وراديكالية في تاريخ الثورة، وأجبرت البلاشفة على تأييد الشعارات المطروحة في صفوف البروليتاريا.
وذكر تشوراكوف، أن الاحتجاجات العمالية المتزايدة في 1917 هددت متانة النظام الثوري الوليد، ووجوده أحياناً، كما رفض قطاع من البروليتاريا الروسية احتكار حزب واحد للسلطة، أما البلاشفة فقد كان قلقهم الأساسي على نظامهم الجديد نابعاً من تأييد الكثير من العمال لمطلب تشكيل حكومة اشتراكية موحدة، أي أن تكون مختارة ومشكلة من أطراف الثورة كافة، ومسؤولة أمام هيئة مفوضة من قبل الأحزاب الديمقراطية كافة التي دعمتها وشاركت فيها.
واجه البلاشفة من جانبهم كل هذه المطالب والرغبات العمالية بالمضي قدماً في ترسيخ سلطتهم، والانفراد بصناعة القرار؛ ما دفع القوى العمالية إلى رفض ممارساتهم، ووصل الصراع إلى حدود إعلان اتحاد نقابات وعمال ومستخدمي السكك الحديدية أنهم لن ينفذوا إلا الأوامر والقرارات التي تصدر عنها، وذلك حتى تشكيل وتنظيم السلطة في البلاد، وقد أعلنوا ذلك في الجلسة الختامية للمؤتمر الثاني لسوفياتات نواب العمال والجنود الذي أقيم في مدينة بتروجراد في 27 أكتوبر عام 1917 على لسان مندوب العمال.
وقال تشوراكوف، إنه بعد تجاوز أزمة الحكومة الاشتراكية الموحدة، التي تضم الأحزاب الاشتراكية كافة، ظهرت أزمة جديدة نتجت من حل البلاشفة الجمعية التأسيسية مطلع يناير (كانون الثاني) 1918، وقد كان قسم من الطبقة العاملة الروسية يؤيد بدرجة أو بأخرى الإبقاء عليها. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل زادت الخلافات بين الجانبين مع إغلاق البلاشفة لوسائل الإعلام المعارضة، كما تفاقمت النزاعات بين العمال والقائمين على المصانع والمعامل، وبلغ التوتر بين البروليتاريا والبلاشفة ذروته باشتعال تمردات عمالية مسلحة في مواجهة السلطة في بعض المناطق الروسية.
ويفرد تشوراكوف في كتابه قسماً مهماً للحديث عن تطورات خضعت لها احتجاجات النقابات العمالية في مرحلة متقدمة من الصراع، ونجاح البلاشفة في تحويلها إلى منظمات مستأنسة، بعد أن قدموا لقادتها وعوداً بتقاسم الثروة والسلطة، ودفعوهم لمناشدة قواعدهم العمالية بوضع كل ما لديهم من قوة وجهد تحت أمر السلطة الجديدة، حتى تنتصر على أعداء الثورة، لكن نفاد صبر العمال وعدم صدق وعود البلاشفة جعلهم يقومون بمحاولات كثيرة لتشكيل منظمات بديلة مستقلة عن السلطة، خاصة بعد أن هيمن البلاشفة على تلك النقابات التي صارت متكلسة، وشعرت القوى العاملة بعدم جدوى الانتساب إليها.
الأفكار ووجهات النظر التي يقدمها تشوراكوف في كتابه هذا، هي الأولى من نوعها في ساحة السياسة الروسية؛ إذ تميط اللثام عن العلاقة المعقدة بين البروليتاريا والبلاشفة بعد ثورة أكتوبر، تلك العلاقة التي حاولت السلطة السوفياتية على الدوام حظر النشر فيها ومنع الدراسات العلمية عنها. وكانت تهدف من وراء ذلك إلى جعل رؤيتها لهذه العلاقة هي السائدة والمهيمنة والحاكمة لتاريخ الطبقة العاملة الروسية في مرحلة ما بعد الثورة، وقد راحت تنسب أي احتجاجات إلى أنصار الثورة المضادة، وهو ما فعلته بالضبط مع حركة هيئات مفوضي عمال المصانع والمعامل في بتروجراد والتي قام السوفيات بحلها استنادا إلى المزاعم نفسها، في يونيو (حزيران) 1918، أي بعد ثمانية أشهر من قيام الثورة.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.