مندور... صاحب مشروع نقدي مهم افتقر إلى الصلابة النظرية

محمد برادة يرى أنه كان يتكئ على التعريفات المدرسية

مندور... صاحب مشروع نقدي مهم افتقر إلى الصلابة النظرية
TT

مندور... صاحب مشروع نقدي مهم افتقر إلى الصلابة النظرية

مندور... صاحب مشروع نقدي مهم افتقر إلى الصلابة النظرية

انتقد الناقد المغربي الدكتور محمد برادة المشروع النقدي الذي تركه الدكتور محمد مندور، قائلاً إن كتاباته خلال الحقبة الناصرية تأثرت سلبياً بالآيديولوجيا، وإن تحليلاته كان يعوزها العمق والصلابة النظرية. ويرى برادة في كتابه «محمد مندور وتنظير النقد الأدبي» الذي صدر حديثاً عن سلسلة «كتابات نقدية» بهيئة قصور الثقافة المصرية «أن مفهوم النقد الآيديولوجي الذي انتهى إليه مندور، وتوّج به مسيرته النقدية، لم يكن سوى انعكاس للميكانيزم المتحكم في الحقل الثقافي الذي ساد بعد ثورة يوليو (تموز) 1952 في مصر، وأن التأثير الآيديولوجي بمعناه السلبي تغلب على توجهاته في الكتابة النقدية»، لافتاً إلى أنه ما كان من الممكن فهم الالتباس في مصطلحاته وكشف احتياج تحليلاته إلى العمق والصلابة النظرية إلا من خلال النظر إليها باعتبارها مترابطة مع الاتجاهات الثقافية والآيديولوجية السائدة في عصره.
وذكر برادة في كتابه الذي جاء في 4 فصول، وكان موضوعاً لبحثٍ حصل من خلاله على درجة الدكتوراه من جامعة باريس، بإشراف أندريه ميكيل، عام 1973، أن ما تزود به مندور خلال إقامته بباريس كان متصلاً بمستوى الإنتاج المعرفي الذي كان سائداً خلال فترة الثلاثينات من القرن الماضي، لكنه لم يتمكن بعد عودته إلى القاهرة من متابعة ما جدّ من نظريات ومناهج وطرائق تحليل النصوص الأدبية وتأويلها فيما بعد، ومنذ فترة الخمسينات من القرن الماضي، وقد قادته الأزمة السياسية خلال الأربعينات إلى غمار الفعل السياسي والنضال الاجتماعي، فكتب سلسلة من المقالات الفكرية والآيديولوجية المتميزة، التي كان لها تأثير واسع وقتها، أما في مجال النقد الأدبي فكان يتعيش على ما تبقى في زوادته من منهج شرح النصوص والاتكاء على التعريفات المدرسية بوصفها مقاييس تسند الحكم النقدي، أو تبرر الانطباعات وما نتج عن الذائقة ليس أكثر.
وأشار الناقد إلى أن الاستخلاصات التي انتهت إليها دراسته التي انصبت على آثار مندور النقدية والفكرية لا تلغي إشعاع كتاباته ضمن سياقاتها وأوانها، ولا تنكر إسهامها في تقليب التربة النقدية وإعدادها لمرحلة تالية، مشيراً إلى أنه ركّز في دراسته على سؤالين، حاول الإجابة عنهما، الأول تمحور حول كيفية فهم كتابات مندور، أما الثاني فقد استقصى الشروح التي سعى لوضعها أمام الباحثين لتحولاته الثقافية والسياسية.
وأوضح برادة أن مسألة التفاوت المستمر بين فترة إنتاج الخطابات النقدية الأوروبية وفترة وشروط تلقيها داخل الحقل الثقافي العربي تعد عنصراً إشكالياً، كثيراً ما يطمس الفهم ويحرف التفسير، كما أن المناهج والمفاهيم والخطابات النقدية الأوروبية تظل ملتصقة بمناخ ينتج المعرفة في مختلف العلوم، بما فيها العلوم الإنسانية، التي تمدّ النقد الأدبي بمقولات ومفهومات إجرائية، وهو ما يفتقده العرب، لأنهم لا يساهمون في إنتاج المعارف العلمية، وغالباً ما يتعيشون على الاقتراض والاقتباس والترجمة في غياب استحضار دقيق لسياق إنتاج المعرفة وتجلياتها التطبيقية.
وهكذا تظل اجتهادات النقاد العرب، حسب برادة، ورغم ما تتميز به من جهد وابتداع، مفتقدة للالتحام والإجرائية المضيئة للنصوص العربية بطريقة ملائمة، وهي سمة سادت قبل فترة الثمانينات، قبل أن تتوطد وسائل المعرفة وسرعتها، وقبل أن يهتم عدد من الباحثين والنقاد العرب باستيعاب وتمثل النظريات والمناهج وقت ظهورها.
وقال برادة إنه منذ شروعه في دراسة كتابات مندور النقدية، كانت لديه تقييمات عامة حددت جوانب الدراسة، فلا يمكن، حسب رأيه، دراسة ناقد ناشط في مجتمع تعرض للمثاقفة استناداً إلى كتاباته فقط، وبمعزل عن الشروط المتحكمة في المجال الثقافي الذي ينتمي إليه.
من هنا، يؤكد برادة أن العلاقات المعقدة القائمة بين النص والمنتج والمجتمع تظل في حاجة إلى التجلية والتحليل، كما أن المرحلة التاريخية التي يعيشها المجتمع العربي المرتبط بالأجنبي، والمتطلع إلى استكمال التحرر الوطني تؤطر نشاط ومواقف المثقفين، وتلقي على عاتقهم مسؤوليات تتعدى نطاق اختصاصاتهم، وتتجاوز الأدوار المحددة لهم في المجتمعات العادية، فليس بإمكانهم أن يكونوا مجرد نقاد يساعدون القراء فقط على فكّ ألغاز الأعمال الأدبية، بل سعوا للانحياز لقضايا شعوبهم، حدث ذلك بالفعل في حالة مندور، وقد ظهرت كتاباته النقدية والفكرية متأثرة بالآيديولوجيا، ومنحازة للجماهير في سعيها لتحقيق العدل والحرية والديمقراطية.
في الفصل الأول من الكتاب «مندور والمثاقفة أو المرحلة التأثيرية» حاول برادة تحديد العوامل الأساسية في تكوين مندور الثقافي، واستقصاء تأثر مندور بالثقافة الغربية، خلال إقامته الدراسية في باريس بين عامي «1930 - 1939»، وهو ما تجلى في منحاه النقدي الأولى، الذي اتضح في استيحائه أعمال الناقد جوستاف لانسون.
وسعى برادة في الفصل الثاني «الحقل الأدبي في مصر من 1936 حتى 1952» إلى ملء فراغٍ لاحظه في عملية التحقيب التي أعطاها مندور لمساره النقدي، ما يتعلق بالفترة المراوحة «بين 1944 و1952» حينما انخرط في العمل السياسي مبتعداً مؤقتاً عن النقد الأدبي، وكان هدف برادة من وراء ذلك تبين الدوافع الحقيقية للتغيرات المتتالية التي عاشها مندور وعرفها الحقل الأدبي في مصر.
وخلال الفصل الثالث «مرحلة النقد التحليلي» عرض برادة لجوهر الكتابات التي نشرها مندور في الفترة «من 1954 إلى 1960»، وكانت في معظمها محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العليا بالجامعة العربية، وكان يهدف من ورائها إلى تحليل الشعر المصري بعد شوقي، وقال إن مندور في هذه المحاضرات لم يعتمد على الذوق التأثري فقط، بل أخد يجنح إلى اصطناع المنهج الاجتماعي واعتبار الأدب قيمة حياتية عاكسة للصراع المجتمعي، وهو ما جعله يدخل في خصومات جدلية مع أتباع الاتجاه التقليدي، بخاصة حواريي الأمير الذي كان متوجاً على عرش الشعر، أحمد شوقي.
وفي الفصل الرابع «النقد الآيديولوجي والتنظير» حاول المؤلف استخلاص عناصر التغيير الحاسمة في الحقل الأدبي المصري، عن طريق عرض المناخ الآيديولوجي السائد، وذكر أنه ما كان بوسع مندور المثقف العضوي أن يفلت، وسط الجو المحموم الناجم عن التسابق إلى الأدلجة، من ميكانيزم التكيف. وأشار برادة إلى أن أشياء كثيرة تغيرت خلال الفترة الممتدة مما قبل الناصرية وما بعدها، ومنها وضعية مندور المثقف نفسه، وقد كان يناضل في حركة الجماهير ضد الاستغلال البورجوازي والإمبريالي، ولكنه بعد ثورة يوليو فقد كثيراً من مظاهر دوره كمثقف عضوي، وقد تحول إلى شكل من أشكال الاستعمال دون الاشتراك في المسؤولية الفعلية للسلطة، ما جعل مفهوم النقد الآيديولوجي الذي انتهى إليه مندور في نهاية المطاف انعكاساً للميكانيزم المتحكم في الحقل الثقافي الجديد بعد الثورة.
وأضاف برادة أن مندور ساهم في تجسيد التفكير الآيديولوجي السائد، واستطاع من خلال تعاريج النظرية الأدبية أن يبلور حواشي آيديولوجيا كانت تتشكل، وتنمو ضمن شروط اجتماعية واقتصادية، وكان بكتاباته يعبر من خلالها عن رؤيته للعالم، عن طريق إعطاء صياغة مفهومية للآثار الأدبية التي ينطلق منها إلى تحليلاته النقدية، وقد قادته المصطلحات والمناهج الأجنبية التي تأثر بها إلى اختزال الأعمال التي وضعها على طاولته النقدية، وحوّلها إلى مجرد سجلات آيديولوجية، وهو ما اتضح أكثر في مقالاته الصحافية التي خصصها لنقد المسرح.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.