متروبوليتان نيويورك يواجه مشكلة إعادة طرح نفسه في عالم متغير

يقدم معرض «ولادة متحف» لإحياء الذكرى الـ150 لتأسيسه

أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)
أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)
TT

متروبوليتان نيويورك يواجه مشكلة إعادة طرح نفسه في عالم متغير

أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)
أثناء تعليق لوحات في قسم الفن الأوروبي بإحدى صالات متحف متروبوليتان بنيويورك في نوفمبر 1928 (نيويورك تايمز)

عاد متحف متروبوليتان للفنون بنيويورك ليستقبل زواره يوم أول من أمس (السبت)، وسط احتفال من الزوار الذين حرصوا على أن يكونوا على عتبات المتحف العريق في أول أيامه بعد فترة إغلاق طويلة. وفي أول معارضه بعد الغياب، يتعرض المتحف لتاريخه من خلال معرض احتفائي بالذكرى 150 على إنشائه يطرح تساؤلاً مهماً يقول: كيف سيقدم المتحف الكبير نفسه إلى الجمهور في الآونة الراهنة؟
وبالحديث عن الذكرى 150 التي طوتها مآسي الأزمة الجارية، كان متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك على مدار السنوات الطويلة الماضية ينظم سلسلة بالغة الروعة من البرامج الاحتفالية الكبيرة: من إصلاح شامل لقاعة المعروضات البريطانية، وفعاليات العرض الأول لمجموعات الهدايا الفوتوغرافية والرسومات الرئيسية، والعروض الجديدة ذات اللمسات الثقافية المتنوعة، والندوات الدولية الخاصة بمهارات الجمع المتحفي.
وفي خضم تلك الذكرى السنوية الجميلة، كان من المقرر أن يجري تنظيم معرض تحت عنوان «ولادة متحف»، ذلك الذي يصور مجريات النمو، والتطور، والتحولات التي طرأت على المتحف ومجموعاته الفنية العديدة. ولكن ما حدث بعد ذلك غير كل شيء، فقد اجتاحت البلاد، بل والعالم بأسره، جائحة فيروس كورونا المستجد قبل أيام قلائل من افتتاح معرض الذكرى السنوية المخطط له، وأجبر المتحف - وكل شيء آخر في مدينة نيويورك - على الإغلاق، ما أسفر عن تحول المعرض المذكور إلى ذكرى قاتمة وبالغة السوء على الجميع.
تتوقع إدارة المتحف في الآونة الراهنة أن تصل الخسائر المادية إلى أكثر من 150 مليون دولار في إيرادات العام الجاري، كما اضطرت إدارة المتحف إلى تقليص عدد الموظفين بنسبة 20 في المائة، وذلك من خلال قرارات متنوعة شملت تسريح بعض العمالة، والإجازات المطولة لبعض العاملين، وبرامج التقاعد المبكر لموظفين آخرين. كما اتخذت القرارات أيضاً بإرجاء العروض أو ربما بإلغائها تماماً، مع التشديد على إنفاقات الميزانية. ولقد تم إغلاق أبواب متحف «ميت بروير» للفنون الحديثة والمعاصرة - وهو المتفرع عن متحف متروبوليتان للفنون الرئيسي في مدينة نيويورك - بعد أربع سنوات فقط من افتتاحه، في صدمة قوية وشديدة لكثير من المعنيين بالفنون المعاصرة، إذ لم يستمر معرضه الأخير لأعمال الفنان الألماني غيرهارد ريختر إلا لمدة تسعة أيام فقط.
وبحلول شهر يونيو (حزيران) من العام الجاري، كان ماكس هولين - وهو مدير متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك - قد أدلى بتصريح يعتذر فيه عن البيان الباهت الذي صدر عن المتحف بشأن التضامن مع حركة «حياة السود مهمة» في أعقاب مقتل المواطن جورج فلويد وبريونا تايلور، الأمر الذي أثار حالة واسعة من الجدال المشتعل والمستمر عبر شبكة الإنترنت بشأن أخطاء مختلف المتاحف في الماضي والحاضر فيما يتصل بالأحداث العامة في البلاد. وفي وقت لاحق من الشهر نفسه، اضطر مدير متحف متروبوليتان للفنون إلى الاعتذار مرة أخرى، وذلك بسبب خطأ ارتكبه أحد أمناء المتحف على منصة «إنستغرام» في الوقت الذي كان فيه العديد من المتظاهرين في مختلف أرجاء البلاد يواصلون إسقاط التماثيل من أماكنها. وصرح ماكس هولين - مستعيناً بما وصف بأنه لغة خطاب شديدة المباشرة والفجاجة عن أسلافه من مديري المتحف السابقين - قائلاً: «ليس هناك من شك في أن متحف متروبوليتان للفنون وتطوره عبر السنوات الماضية يتصل اتصالاً مباشراً بالمنطق المعروف بتفوق العرق الأبيض».
وعليه، فإن متحف متروبوليتان للفنون - الذي يُعاد افتتاح أبوابه أمام الجمهور اعتباراً من السبت - بعد أطول فترة إغلاق يعرفها المتحف في تاريخه الطويل، كان قد تعرض لعدة صدمات متتالية. ويتعين الآن على معرض «ولادة متحف» الإجابة عن عدد من التساؤلات ذات الحجم الثقيل، ومنها: أي نوع من المؤسسات التي يمثلها ذلك المتحف؟ كيف يتسنى لهذا المتحف - أو أي متحف عالمي آخر - أن يطرح نفسه أمام الناس في الآونة الراهنة وما بعدها؟
حاولت أندريا باير، وهي نائبة مدير المتحف لشئون الإدارة والمجموعات الفنية، رفقة لورا دي كوري وهي كبيرة الباحثين لدى المتحف، مع فريق من مئات الموظفين هناك، صياغة السرد الخطابي الجديد لدى متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك، وكلهم يُذكرون بالاسم عند مدخل معرض «ولادة متحف» الجديد. يُعرض ما لا يقل عن 250 قطعة فنية في ذلك المعرض وفق تاريخ استحواذ متحف متروبوليتان للفنون عليها بدلاً من الفترة الزمنية التي تعود إليها المعروضات أو المكان الذي وجدت أو صنعت فيه. ويتيح هذا المبدأ التنظيمي غير الاعتيادي للمعروضات رسم خريطة لمجريات نمو وتطور متحف متروبوليتان للفنون على مر السنين من قاعة إلى أخرى، حتى إن كان يخلق عبر ذلك «تجاورات» زمنية متقاطعة بالغة الغرابة ولكنها لافتة للانتباه.
فهناك تمتزج أعمال الفنان مايكل أنجلو بالتماثيل الفرعونية المصرية القديمة، وتستقر القيثارة البورمية إلى جوار الدانتيل الفلمنكي. وتشهد مقدمة المعرض التي لا مثيل لها - حيث يظهر الفنان فان جوخ ورودين رفقة تمثال مانغاكا القوي مع أظافره المرصعة من مملكة الكونغو القديمة إلى جانب صورة رائعة للممثلة الأميركية البارعة مارلين مونرو من أعمال المصور الفوتوغرافي ريتشارد أفيدون - على القوة غير المسبوقة ونطاق الاتساع الهائل الذي يحظى به متحف متروبوليتان للفنون من خلال معروضاته الفنية البديعة.
أما بالنسبة إلى جمهور المتحف العائدين إلى زيارته بعد مرور خمسة شهور من الإغلاق المستمر، فإن تلك «التجميعة» من المعروضات ذات القطع البديعة هي بمثابة هدية راقية مقدمة إليهم بعد غياب طويل. ويقدم هذا المعرض صورة مصغرة من المتحف الكبير التي يمكن تقدير أهميتها على اعتباره كنزاً فنياً فريداً. ولكن من حيث التكوين، فإن معرض «ولادة متحف» يتعلق بطموحات المتحف ومحاولة سد الثغرات الداكنة في جسد المؤسسة - فضلاً عن المخططات ذات الطبيعة المتغيرة من المعنى، والمغزى، والقيمة، والتفسير، التي تشكل في مجموعها إطاراً محسوساً غير مرئي يعكس جماليات العالم بأسره.
يخطط معرض «ولادة متحف» إلى تطوير مجموعة من تسعة معارض أخرى ذات تراتب زمني، ينضم إليها زقاق رئيسي يعرض تصاوير لمكتب الاستعلامات القديمة في متحف متروبوليتان للفنون، وورشة صناعة اللافتات، وغرف الترميم والإصلاح القديمة في المتحف. يركز أحد تلك المعارض التسعة على عرض مجموعات الدراسات المتعمقة للمنسوجات، والأعمال الورقية، والآلات الموسيقية في متحف متروبوليتان للفنون، التي كانت قد تأسست في أوائل القرن العشرين. وهناك محاولات أخرى من التركيز على عرض الآثار المتحصل عليها من خلال الحفريات الأثرية الممولة من جانب المتحف في حقبة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، عندما كان متحف متروبوليتان للفنون يتشارك في الاكتشافات الأثرية مع البلدان المضيفة، وذلك بموجب مبدأ قانوني قديم عفا عليه الزمن تحت اسم «مبدأ بارتاج أو التقاسم». وبموجب هذا المبدأ، تمكن متحف متروبوليتان للفنون من إدخال تمثال جالس للملكة المصرية الفرعونية حتشبسوت - جرى العثور عليه في مصر بين عامي 1927 و1928 - أو على الأقل تمكن المتحف من إدخال رأس التمثال وذراعه اليسرى، ثم قام بجمع الأجزاء الباقية من جسد التمثال في وقت لاحق بعد العثور عليها في برلين.
كانت المحفزات الكبيرة لنمو المجموعات الفنية والأثرية في المتحف - في عصره الذهبي كما الحال في عصرنا الراهن - من تمويل أثرياء مدينة نيويورك الكبار من أمثال جيه بي مورغان وروبرت ليمان، وغيرهما من الممولين الآخرين وأقطاب الصناعة في المدينة الذين ورثوا عن آبائهم الأذواق الفنية الرفيعة، فضلاً عن التزام عائلات نبلاء وأمراء أوروبا بالتبرعات المالية والفنية في أفضل الحالات. لقد كانوا عاقدين العزم على تحويل كل شيء إلى قطعة جمالية راقية - على حد تعبير مجازي من أحد أمناء متحف متروبوليتان للفنون الأوائل - ومن ثم يملك معرض «ولادة متحف» أكواماً مكدسة من أرقى التبرعات، من مصباح مسجد رائع للغاية يرجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي من ممنوحات مورغان إلى المتحف في عام 1917، إلى صورة مصقولة بديعة من أعمال الفنان فان دايك في عام 1636 تصور الملكة هنريتا ماريا ملكة إنجلترا وهي حامل، تلك اللوحة التي أوصت بها جاين رايتسمان إلى متحف متروبوليتان للفنون بعد وفاتها في العام الماضي.
انضم العديد من مسؤولي المتاحف، أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى الجهود المبذولة من أجل حفظ وفهرسة وإعادة الأعمال الفنية التي نهبتها القوات النازية. وكان من بين «رجال استعادة الآثار» - بالإضافة إلى العديد من النساء المشاركات - جيمس روريمر، مدير معرض «كلويستر» المفتوح (ثم مدير متحف متروبوليتان للفنون بأكمله)، الذي يعرض المتحف دفتر ملاحظاته الخاص، إذ يضم قائمة بالمسروقات الفنية التي تم العثور عليها في قلعة «نويشفانشتاين» الألمانية في عام 1945. وكذلك إديث ستاندين، أمينة المنسوجات في المتحف والضابطة العسكرية المرموقة التي كانت تشرف على إعادة الآلاف من الأعمال الفنية المنهوبة إلى متاحف برلين الحكومية. وتظهر صورتها هنا في سترتها العسكرية الصوفية الصارمة، حيث تحولت إلى جزء من معهد الأزياء الملحق بالمتحف.
تعكس المقتنيات التي جرى الاستحواذ عليها بحلول الذكرى المئوية للمتحف عملية الانفتاح على المجموعات الآسيوية والمقتنيات ذات الصبغة الإسلامية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن إنشاء جناح روكفلر لفنون أفريقيا، وأوقيانوسيا، والمواطنين الأصليين في الأميركتين، وذلك مع الاعتناء الواضح والمتزايد بالإبداع المعاصر والحديث. ولا بد من التوقف أمام لوحة «الضياء المتلألئ ليلاً» المفعمة بالحياة والحيوية من أعمال الرسام هان غان من سلالة تانغ الملكية الصينية القديمة، التي تصور في دقة بديعة حصاناً ناصع البياض مع لبدة شعر رأسه المتوهجة وفتحات أنفه المتسعة التي تنم عن قوة هائلة.
تقترح النتيجة النهائية المفتوحة لمعرض «ولادة متحف» استحداث بعض الأولويات الجديدة إلى أقسام المتحف الكبير. حيث تمكن فريق المنحوتات الأوروبية في المتحف من الحصول على بعض الآثار اليهودية من مدينة البندقية، كما تمكنت إدارة الآثار الإسلامية في المتحف من تأمين شراء أغطية الرأس الموشاة بالذهب لحاج من إندونيسيا، في حين يمتلك القسم الحديث في المتحف أعمالاً حديثة للنحات الغاني «إل أناتسوي»، والفنانة الهندية «مريناليني موخيرجي».
ومن زاوية التحدي الرئيسي أمام متحف متروبوليتان للفنون في عام 2020، لا يتعلق الأمر بما يتعين الاستحواذ عليه أو شراؤه من أعمال أو مقتنيات. ولكن بالطريقة التي ينبغي بها عرض تلك الأعمال والمقتنيات، وما إذا كان يمكن للمتحف الذي يبلغ عمره اليوم 150 عاماً أن يحافظ على قدر معتبر من الذكاء والمرونة والمهارة في صياغة ممارسات جديدة تتعلق بالبحث، والتفسير، والعرض.
من السهولة بمكان الوقوف على الثغرات الواضحة في مجموعة الأعمال العالمية المفترضة، ومن اليسير للغاية أيضاً نشر الأحكام التي عفا عليها الزمن لما تغافل عنه الأسلاف القدامى. لكن الأكثر صعوبة وبمزيد من الأهمية هو الانخراط التام في بنية التجميع العميقة: من أجل أن نفهم ما نقدره للغاية، وكيف نقدره، ولماذا نقدره، أثناء محاولة المتحف رسم المسار من المركزية الأوروبية القديمة وحتى الوجهة العالمية الحقيقية الراهنة. وتأكيداً للمعنى المثار، لقد تحولت مقتنيات متحف متروبوليتان للفنون إلى صبغة العولمة. وهي مقتنيات غير متورطة بصفة مباشرة في مجريات العنف الاستعماري على غرار المتاحف الإثنوغرافية المفعمة بالمنهوبات الأثرية والفنية من مختلف بلدان العالم في أوروبا الغربية.
ومع ذلك، إذا كان تطوير متحف متروبوليتان للفنون - كما يقول ماكس هولين مدير المتحف، «مرتبطاً بالمنطق المعروف بتفوق العرق الأبيض» - فما الذي ينبغي الاحتفال به على وجه التحديد في الذكرى السنوية 150 لتأسيس المتحف الكبير؟ وتكمن الإجابة - التي تؤكد عليها باير وفريق عملها في معرض «ولادة متحف» - ضمن الأشياء الجميلة ذاتها، وفي طبقات التاريخ المتراكمة خلال القرن ونصف القرن الماضي. وهذه الأعمال، التي تلمست سبيلها إلى مدينة نيويورك من كل أرجاء الدنيا، تحمل في طياتها ذكريات التقابلات، والصدامات، وندوب الماضي العنيف، والأسماء الجديدة، والأسعار الجديدة بطبيعة الحال. ولقد خضعت للتحول أثناء الحركة، ومن ثم فلقد اتخذت وضعاً مثالياً لرسم خريطة التقاطعات الزمنية والاعتماد التبادلي على مر التاريخ البشري.
- خدمة «نيويورك تايمز»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)