غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟

شهادات وأدلّة جديدة عن فظائع وتجاوزات ارتكبها

غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟
TT

غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟

غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟

نشرت الصحف الأرجنتينية مطالع هذا الشهر إعلاناً لبيع شقّة في العاصمة بوينوس آيريس، تزيد مساحتها عن 200 متر مربّع في الطابق الثاني من مبنى أنيق صّممه آليخاندرو بوستيّو أشهر مهندس معماري في الأرجنتين، ويقع في أحد الأحياء السكنية الراقية، لكن من غير الإشارة إلى أن هذه الشقّة كانت مسقط رأس أرنستو تشي غيفارا الذي عاش فيها الأشهر الأولى من حياته.
الشقّة معروضة للبيع بمبلغ 400 ألف دولار بعد أن فشلت محاولات أصحابها لتحويلها إلى متحف أو مركز ثقافي، بسبب من اعتراض الجيران وعدد من المنظمات غير الحكومية التي تدعو منذ سنوات إلى إعادة نظر جذرية في السرديّات التاريخية التي بُنيت عليها أسطورة الثائر الأرجنتيني الذي أراد تغيير أميركا اللاتينية من فوّهة البندقيّة.
عشرات الكتب والأبحاث صدرت في السنوات الأخيرة تطرح صورة مختلفة جداً عن تلك التي راجت حول أشهر ثائر في التاريخ الحديث، وتتضمّن شهادات موثّقة على ألسنة من كانوا ضحايا ذلك الذي طوال عقود وقع تحت سحر شخصيته ثوّار وحالمون بعالم أفضل والعديد من المخرجين السينمائيين والكتّاب والصحافيين في جميع أنحاء العالم. ومع كل شهادات وأدلّة جديدة عن الفظائع والتجاوزات التي ارتكبها تشي، يبهت البريق الذي رافق مسيرته النضاليّة، وتسقط الهالة عن هامة الرجل الذي دخل الأسطورة منذ لحظة إعدامه في أدغال بوليفيا بعد أن أمضى حياته محاولاً نشر الثورة والفكر الماركسي من أميركا اللاتينية إلى آسيا وأفريقيا.
اللافت أن الناشطين البيئيين ودعاة السلم ومناهضي الأنظمة القائمة الذين يستحضرون اليوم رمزية غيفارا ويرفعونها شعاراً لحركاتهم ونضالهم، لا يستوفون الشروط والمواصفات التي حددّها تشي في أدبيّاته الثورية لذلك «الإنسان الجديد» الذي «ينبغي أن يندفع بقوّة الحقد إلى النضال»، وأن يكون مستعداً أن يتحوّل في اللحظة الحاسمة إلى «آلة باردة وانتقائية للقتل»، كما جاء في الرسالة الأخيرة التي وجهها إلى رفاقه في عام 1967.
لكن الجدل حول «نقاوة» غيفارا الثورية ليس مستجدّاً، بل هو يعود إلى بدايات انحراف الثورة الكوبية نحو التوتاليتارية بعيد اغتيال تشي عندما قرّر فيديل كاسترو الاصطفاف في المعسكر السوفياتي، ثم بلغ ذروته عندما اضطرت كوبا إلى تقديم «تنازلات» لاقتصاد السوق بعد أن جفّت فجأة ينابيع الكرملين التي كانت تضخّ النظام بالمساعدات. ومنذ سنوات تشهد الأوساط الفكرية والأكاديمية في أميركا اللاتينية نقاشاً حاداً بين الذين يعتبرون غيفارا محرِّراً وشهيداً ثورياً، ويرسمون له صورة «كيخوتية» مستعدّة لمواجهة طواحين الإمبريالية أينما كان، وأولئك الذين يرون فيه تجسيداً لفشل النموذج الذي حاول أن يفرضه ذلك الثائر الذي ارتقى إلى رتبة «كوماندانتي» في جبال سييرا مايسترا.
في العام الماضي وقّع أكثر من 20 ألف شخص عريضة تطالب بإزالة كل النصب واللوحات التذكارية المخصصة لتكريم غيفارا في مسقط رأسه بمدينة روزاريو. وفي عام 2018 عندما نظمّت بلدية العاصمة الفرنسية معرضاً حول «تشي في باريس» طلب مجموعة من المفكّرين والأكاديميين سحبها فوراً، لكن رئيسة البلدية الاشتراكية آنا إيدالغو، وهي إسبانية الأصل، رفضت الطلب، وقالت إن «المعرض هو تكريم من باريس لرمز الثورة التي تحوّل إلى أيقونة رومانسية».
في كتابه «وجه تشي المخفي»، يقول الباحث الكوبي المنشقّ خاكوبو ماكوفير، إن غيفارا كان يصرّ على حضور أعمال تنفيذ أحكام الإعدام رمياً بالرصاص التي كانت تحصل خلال السنة الأولى التي تلت الثورة، وأن الكوبيّين كانوا يطلقون عليه لقب «الجزّار». ويذكّر بالخطاب الشهير الذي ألقاه عام 1964 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كمندوب لكوبا، وما تلاه من حق الردّ على مداخلات عدد من الوفود الأميركية اللاتينية، حيث قال: «لقد أعدمنا، وما زلنا نعدم وسنواصل الإعدام طالما هو ضروري».
لكن رغم ذلك ما زالت صورة غيفارا وأسطورته الثورية مصدر إلهام لكثيرين، كما أن مسيرته القصيرة التي قطعها مقتله المبكّر عندما كان يسعى إلى إشعال وقود تمرّد آخر في بوليفيا بعد أن اكتفى بمرور سريع في الطبقة العليا من هرم السلطة، ما زالت تحيطه بهالة لن يكون من السهل إطفاء وهجها.
ومع اشتداد الحملة الهادفة إلى إبراز الأوجه غير المشرقة في شخصية غيفارا ومسيرته الثورية، نشطت الجهات التي ما زالت تعتبره أيقونة الثورة العالمية بامتياز في استحضار المزيد من الأدلّة والوثائق التي تعزّز أسطورة الثائر الذي ما زال مصدر إلهام للكثيرين في شتى أنحاء العالم.
وفي مطلع هذا الشهر، صدر الجزء الأخير من سلسلة «مشروع تشي غيفارا للنشر» التي تضمّ 20 مجلّداً، وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل التي يُنشر معظمها لأول مرة، بعضها موجّه إلى أولاده وأفراد أسرته، والبعض الآخر إلى رفاقه في النضال الثوري وفي طليعتهم فيديل كاسترو.
يقول تشي في رسالة إلى ابنه الأصغر «تاتيكو» كتبها من أدغال بوليفا ومؤرخة عام 1977: «عليك الآن أن تنضج وتكبر حتى يشتدّ عودك، وسنرى بعد ذلك. إن كانت الإمبريالية ما زالت تهيمن على العالم، سنخرج معاً لنقاتلها، وإن كانت قد لفظت أنفاسها سنذهب مع كاميلو - ابنه البكر - في عطلة إلى القمر».
وإلى زوجته آلييدا مارش، كتب في رسالته الأخيرة لها يقول: «ثمّة أيام يتساقط فيها الحنين على جوارحي كالأزاميل، ويتملكّني.. خصوصاً فترة أعياد الميلاد ورأس السنة، وأتوق إلى طقوس دمعك يلمع تحت السماء المرصّعة بنجوم جديدة تذكّرني بالنذر القليل الذي حظيت به من هذه الحياة على الصعيد الشخصي».
وتتضمن المجموعة رسائل تكشف التطور الفكري والسياسي لغيفارا ومعلومات مهمة عن السنوات الأولى للثورة الكوبية، عندما كان يتولّى فيها مناصب قيادية كان لها تأثير مباشر على مستقبلها، إضافة إلى أخرى تتناول جوانب غير معروفة عن علاقاته الأسرية وصداقاته. وهي مبوّبة على ثلاثة أقسام:
الأول، رسائل مرحلة الشباب (1947 - 1956) التي بدأت مع انخراطه في النضال الثوري حتى النصر الكبير والحاسم في معركة «سانتا كلارا» التي انتهت بسقوط نظام باتيستا.
الثاني، رسائل الفترة التي تولّى فيها مناصب رسمية (1959 - 1965) كوزير للصناعة وحاكم للمصرف المركزي، وتتضمّن معلومات قيّمة عن مشاركاته في الندوات الاقتصادية والسياسية التي غالباً ما كان يوجّه فيها انتقادات لرفاقه وفي طليعتهم فيديل كاسترو.
والثالث، رسائل مرحلة التضامن الدولي (1965 - 1967) التي بدأت بالفشل الذريع الذي أصاب محاولته مساعدة ثوّار الكونغو، وانتهت في بوليفيا، حيث فشل الثوار أيضاً في قلب النظام الذي كان مدعوماً من الولايات المتحدة، وحيث كتب «يوميّات المعركة» الشهيرة قبل اعتقاله وإعدامه رمياً بالرصاص.
ولعلّ الرسالة الأهمّ في هذا المجلّد هي تلك التي وجهها إلى فيديل عشيّة سفره إلى أفريقيا، لينضمّ إلى ثوّار الكونغو ويستهلّها بقوله: «ثمّة بلاد أخرى في العالم تحتاج إلى جهودي المتواضعة...»، التي كان كاسترو يقتبس منها في خطبه من غير أن يشير إلى المصدر.
وفي الرسالة الأخيرة الموجهة إلى فيديل قبل أن ينتقل غيفارا من الكونغو إلى بوليفيا يقول: «ارتكبنا الكثير من الأخطاء، في الاقتصاد، كما في السياسة، بسبب من الارتجال في تطبيق أفكارنا ونظرياتنا، وأيضاً بسبب من إصرارنا على وضع أهداف يستحيل تحقيقها».
وعندما كان تشي ينتظر في تانزانيا تدبير انتقاله إلى بوليفيا كتب إلى صديقه آرماندو هارت المسؤول عن التنظيم في الحزب الشيوعي يقول: «خلال هذه (العطلة) الطويلة قررت أن أخوض غمار الفلسفة بعد سنوات من التوق والتردد، لكني اصطدمت بصعوبة غير متوقعة، وهي أني لم أعثر على منشورات فلسفية سوى المجلدات السوفياتية التي تمنعك من التفكير... لقد أنجزنا الكثير، وأعتقد أنه سيأتي يوم لا بد أن نبدأ فيه بالتفكير».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.