«هل يُعقل هذا؟ أهذا هو لبنان العظيم؟»

صرخة المرأة التسعينية لم تجد من يتلقفها من ساسة الغفلة الفاسدين

انفجار بيروت
انفجار بيروت
TT

«هل يُعقل هذا؟ أهذا هو لبنان العظيم؟»

انفجار بيروت
انفجار بيروت

لا تجد اللغة ما تفعله حين يصل الهول الكارثي الذي يحيق بالبشر إلى ذروته. ذلك أن حالة من الهلع التي تعقب الحدث غير المتوقع، والآتي من خارج السياق الواقعي للحياة، تصيب اللغة بالخرس التام، بقدر ما تصيب اللسان بالشلل، وتجعل الواقعين تحت وطأته عاجزين عن النطق، وأقرب إلى اللجلجة المبهمة والتأتأة العييّة منها إلى أي شيء آخر. هكذا، وفي لحظة واحدة ومباغتة، تحاكي اللغة الواقع المشظى بتحولها هي الأخرى إلى شظايا، ونشعر نحن الذين اتخذنا من الكتابة مهنة لنا، والذين أسلست لنا الكلمات قيادها، بحكم العادة والاحتراف، أننا نعود بلا قوة ولا حوْل إلى مربعنا البدائي الأول، حيث كانت الإشارات والهمهمات وحركات الجسد هي السبيل الوحيد للتعبير عن النفس، أو للتواصل مع الطبيعة كما مع الآخرين. كأن الهول الذي ينتاب الجماعات، في حالات الزلازل والكوارث الطبيعية أو خلال الحروب المدمرة والثورات العنيفة، هو نوع من القيامة المصغرة التي تدفع الإنسان إلى «الفرار» من أقرب المحيطين به، وفق ما تشير السورة القرآنية الكريمة. ولعل الصمت وحده هو الذي ينوب عن اللغة في عيائها المستجد، وهو وحده الذي يملأ الفراغ الفاصل بين الحدث الجلل وبين إمكانية التعبير عنه. على أن هذا النوع من الصمت ليس رديف الاستكانة أو الغبطة أو طمأنينة النفس، بل هو الهدوء المخيف الذي ينذر بالكارثة، أو هو الترجمة الفعلية لحالة الذهول واللاتصديق، بعيْد وقوعها بقليل.
قد تكون العبارة الشهيرة «لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة» التي أطلقها ذلك الكهل الستيني في أحد شوارع العاصمة التونسية، إبان اندلاع الثورة قبل سنوات، هي التجسيد الرمزي الأكثر دلالة لعودة اللغة إلى نصابها بعد فترة غير قصيرة من البطالة. على أن ما ترك أبلغ الأثر في نفوس الملايين من المتابعين على شاشات التلفزة لم تكن بلاغة الكلمات المعبرة عن الفرح المشوب بالحسرة لذلك الجيل المكتهل الذي تأخرت أحلامه في التحقق فحسب، بل الغموض الملتبس الذي أحاط بالعبارة الخارجة من أحشاء الصمت، حيث كان الوقت ليلاً والمكان خاوياً بالكامل، بحيث بدت الصرخة موزعة بالتساوي بين النداء العقيم في برية العالم، وبين التبشير النبوئي بالقيامة التي طال انتظارها. ومع ذلك فإن صرخة الكهل التونسي بدت أقرب إلى إطلاق نفير الابتهاج بانتصار الثورة، خلافاً لحال المرأة اللبنانية التسعينية روز غريب التي عبرت صرختها العفوية عن هول الفاجعة التي ضربت بيروت قبل أسابيع قليلة، وعن سخطها العميق على الحكام الفاسدين الذين أصموا آذانهم عن كل ما يتصل بقيام الدولة المدنية العادلة، التي تكفل لمواطنيهم الحدود الدنيا من الحرية والأمن والمساواة أمام القانون.
«هل يُعقل هذا ؟، أهذا هو لبنان العظيم؟».
هكذا هتفت روز غريب من خلف أنقاض منزلها المتصدع وشبه المدمر، بفعل الانفجار المزلزل الذي وقع في مرفأ بيروت. وقد استطاعت غريب، التي تصغر لبنان «الكبير» بسنوات قليلة، أن تختزل بجملتين اثنتين وبعلامتي استفهام، كل ما يكابده اللبنانيون من آلام، وكل ما يطعن ظهورهم من خناجر الغدر، وكل ما يرشقون به الغيب من علامات الدهشة والذهول الحائر، إزاء الكوارث المتلاحقة التي لا تترك لهم فرصة لالتقاط الأنفاس. ولم تكن روز المسنة، التي أعلنت بالعربية الفصحى أنها المرأة الأولى التي تنخرط في سلك التعليم في لبنان، بقادرة على استيعاب ما يحصل، لأنه يفوق في فظاعته كل ما لقنته لطلابها من دروس وأمثولات نظرية عن الانصهار الوطني والوئام بين الطوائف والجماعات، وعن سهر الحكام المضني على حماية الدستور وتطبيق القوانين. وهي لم تكن لتصدق أن بعض من طبّلوا وزمّروا لجمال عاصمتهم الفريد، فلقبوها تارة بلؤلؤة المتوسط، وطوراً بسيدة العواصم، هم الذين عمدوا إلى تفخيخها بآلاف الأطنان من المواد المتفجرة، وهم الذين عقدوا صفقة مع الشيطان فوق جسدها المشوه وأشلائها المتناثرة.
ومع ذلك، فقد كان من الأفضل لمعلمة المدرسة المحالة على التقاعد منذ ثلاثة عقود، أن تكتفي بتحويل الجملتين الاستفهاميتين إلى نداء مجهول المنادى، لا أن تطلب من رئيس البلاد وزعمائها الأشاوس معاينة مصابها الأليم والوقوف على خاطرها، كشرط مسبق لإخلاء منزلها المتصدع. ذلك أنها تعلم تمام العلم، أنه لو كان لهؤلاء جميعاً أن يقوموا بواجباتهم في رعاية شعبهم والسهر على أمنه وقوت يومه، لما كان لهذه الكارثة أن تحدث. وهي تعلم في قرارتها، أن من أشاحوا بوجوههم وأسماعهم عن المطالب المحقة لآلاف المتظاهرين الذين يفترشون الشوارع والساحات منذ عشرة أشهر، لن تفلح استغاثة امرأة عجوز في تحريك مشاعرهم المتحجرة، أو إعادة ضمائرهم المعطلة إلى العمل. قد تكون الأزمنة والأماكن قد اختلطت على روز غريب، فعادت ألفاً ومائة سنة إلى الوراء لتتماهى مع استغاثة المرأة العربية التي صرخت «وامعتصماه»، بعد أن وقعت سبية في قبضة الروم. لكن ما فات المربية العجوز، هو أن الزمن غير الزمن، وأن من تخصّهم بالنداء ليسوا ورثة المعتصم بالله لكي يخلصوا المرأة من السبي وينتزعوا أكثر من «عمورية كرمى لخاطرها المكسور، بل هم الذين حولوا الوطن إلى محميات مغلقة لإنتاج الكراهية المتبادلة والعنف الأهلي الطائفي، وهم الذين جعلوا السياسة مرادفاً للكذب وانعدام الأخلاق، والحكم أداة للنهب ومراكمة الثروات والتوريث العائلي (الأبدي)».
على أن ما حدث لبيروت قبل أسابيع هو عين ما حدث لها قبل ثمانية وثلاثين عاماً حين واجهت وحيدة تقريباً، وعبر ثلة من المقاومين، الجيش الأكثر عتواً وتسلحاً في الشرق الأوسط. وهو، على هوله، ليس جديداً على مدن العرب وعواصمهم وأوطانهم التي ما تزال تتعرض منذ قرن كامل للسبي أو الاستباحة أو القضم الممنهج، دون أن يفلح صراخها المدوي في إيقاظ رعاة الخذلان من غفلتهم الخانعة أو تناومهم الدهري. وهو ما عبّر عنه الشاعر السوري الراحل عمر أبو ريشة بشكل مؤثر، في ميميته المدوية التي أطاحت بحكومة جميل مردم في منتصف خمسينات القرن الفائت، يوم كان الشعر ما يزال قادراً بعد على إلهاب المشاعر وإسقاط الحكومات، حيث قال مستلهماً الواقعة التاريخية الشهيرة، ومُظهراً الفروق الشاسعة بين حاضر العرب المعتم وماضيهم المضيء:

لا يُلام الذئب في عدوانهِ
إن يكُ الراعي عدوّ الغنمِ
رُبّ «وامعتصماه» انطلقتْ
ملء أفواه الصبايا اليُتّمِ
لامستْ أسماعهمْ، لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
«هل يُعقل هذا؟ أهذا هو لبنان العظيم؟»
هذا لا يُعقل بالطبع يا روز، ولا قبَل للعقل بفهمه أو استيعابه، لأنه جزء من مسرح العبث أو اللامعقول الذي ما يزال يتعاقب على خشبته مجموعة من القتلة واللصوص وقاطعي الطريق على المستقبل.
وانفجار المرفأ لم يكن في دلالته العميقة سوى تعبير فظ عن تصدع الأسطورة النمطية المؤسسة للبنان القديم، الذي شاء راسمو حدوده ودوره، أن يكون المختبر الأمثل للتفاعل بين الأديان والثقافات، وواسطة العقد الأهم بين الشرق والغرب، وأن يكون سفير الصحراء لدى البحر، وسفير البحر لدى الصحراء.
إلا أن ذلك الدور لم يعد له من أثر، والمختبر الحضاري المفترَض انفجر بما فيه، بعد أن حوّله سماسرة الموت إلى مخزن هائل لنيترات الأمونيا.
وقبل قنبلة المرفأ، كان هؤلاء أنفسهم قد أطلقوا في أرجاء البلد الصغير قنابلهم الفراغية المتتالية التي أخلت السياسة من كل جدوى، وقوضت ركائز الأمل، وحرمت الناس من لقمة عيشهم، وأوصلت الاقتصاد إلى حضيضه.
لقد سبق لأدونيس في قصيدته الشهيرة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف» أن هتف بمعاصري تلك الحقبة من المناضلين وطالبي التغيير «جاء العصف الجميل\ ولم يأت الخراب الجميل».
على أن العصف ما يزال يعقب العصف، والجلجلة ما تزال تتبع الجلجلة، فيما «شعب لبنان العظيم» ما انفك ينتظر بلا طائل ذلك الخراب «الجميل»، الذي تتنازعه نياشين الجنرالات وحدوس الشعراء.



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.