لا تجد اللغة ما تفعله حين يصل الهول الكارثي الذي يحيق بالبشر إلى ذروته. ذلك أن حالة من الهلع التي تعقب الحدث غير المتوقع، والآتي من خارج السياق الواقعي للحياة، تصيب اللغة بالخرس التام، بقدر ما تصيب اللسان بالشلل، وتجعل الواقعين تحت وطأته عاجزين عن النطق، وأقرب إلى اللجلجة المبهمة والتأتأة العييّة منها إلى أي شيء آخر. هكذا، وفي لحظة واحدة ومباغتة، تحاكي اللغة الواقع المشظى بتحولها هي الأخرى إلى شظايا، ونشعر نحن الذين اتخذنا من الكتابة مهنة لنا، والذين أسلست لنا الكلمات قيادها، بحكم العادة والاحتراف، أننا نعود بلا قوة ولا حوْل إلى مربعنا البدائي الأول، حيث كانت الإشارات والهمهمات وحركات الجسد هي السبيل الوحيد للتعبير عن النفس، أو للتواصل مع الطبيعة كما مع الآخرين. كأن الهول الذي ينتاب الجماعات، في حالات الزلازل والكوارث الطبيعية أو خلال الحروب المدمرة والثورات العنيفة، هو نوع من القيامة المصغرة التي تدفع الإنسان إلى «الفرار» من أقرب المحيطين به، وفق ما تشير السورة القرآنية الكريمة. ولعل الصمت وحده هو الذي ينوب عن اللغة في عيائها المستجد، وهو وحده الذي يملأ الفراغ الفاصل بين الحدث الجلل وبين إمكانية التعبير عنه. على أن هذا النوع من الصمت ليس رديف الاستكانة أو الغبطة أو طمأنينة النفس، بل هو الهدوء المخيف الذي ينذر بالكارثة، أو هو الترجمة الفعلية لحالة الذهول واللاتصديق، بعيْد وقوعها بقليل.
قد تكون العبارة الشهيرة «لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة» التي أطلقها ذلك الكهل الستيني في أحد شوارع العاصمة التونسية، إبان اندلاع الثورة قبل سنوات، هي التجسيد الرمزي الأكثر دلالة لعودة اللغة إلى نصابها بعد فترة غير قصيرة من البطالة. على أن ما ترك أبلغ الأثر في نفوس الملايين من المتابعين على شاشات التلفزة لم تكن بلاغة الكلمات المعبرة عن الفرح المشوب بالحسرة لذلك الجيل المكتهل الذي تأخرت أحلامه في التحقق فحسب، بل الغموض الملتبس الذي أحاط بالعبارة الخارجة من أحشاء الصمت، حيث كان الوقت ليلاً والمكان خاوياً بالكامل، بحيث بدت الصرخة موزعة بالتساوي بين النداء العقيم في برية العالم، وبين التبشير النبوئي بالقيامة التي طال انتظارها. ومع ذلك فإن صرخة الكهل التونسي بدت أقرب إلى إطلاق نفير الابتهاج بانتصار الثورة، خلافاً لحال المرأة اللبنانية التسعينية روز غريب التي عبرت صرختها العفوية عن هول الفاجعة التي ضربت بيروت قبل أسابيع قليلة، وعن سخطها العميق على الحكام الفاسدين الذين أصموا آذانهم عن كل ما يتصل بقيام الدولة المدنية العادلة، التي تكفل لمواطنيهم الحدود الدنيا من الحرية والأمن والمساواة أمام القانون.
«هل يُعقل هذا ؟، أهذا هو لبنان العظيم؟».
هكذا هتفت روز غريب من خلف أنقاض منزلها المتصدع وشبه المدمر، بفعل الانفجار المزلزل الذي وقع في مرفأ بيروت. وقد استطاعت غريب، التي تصغر لبنان «الكبير» بسنوات قليلة، أن تختزل بجملتين اثنتين وبعلامتي استفهام، كل ما يكابده اللبنانيون من آلام، وكل ما يطعن ظهورهم من خناجر الغدر، وكل ما يرشقون به الغيب من علامات الدهشة والذهول الحائر، إزاء الكوارث المتلاحقة التي لا تترك لهم فرصة لالتقاط الأنفاس. ولم تكن روز المسنة، التي أعلنت بالعربية الفصحى أنها المرأة الأولى التي تنخرط في سلك التعليم في لبنان، بقادرة على استيعاب ما يحصل، لأنه يفوق في فظاعته كل ما لقنته لطلابها من دروس وأمثولات نظرية عن الانصهار الوطني والوئام بين الطوائف والجماعات، وعن سهر الحكام المضني على حماية الدستور وتطبيق القوانين. وهي لم تكن لتصدق أن بعض من طبّلوا وزمّروا لجمال عاصمتهم الفريد، فلقبوها تارة بلؤلؤة المتوسط، وطوراً بسيدة العواصم، هم الذين عمدوا إلى تفخيخها بآلاف الأطنان من المواد المتفجرة، وهم الذين عقدوا صفقة مع الشيطان فوق جسدها المشوه وأشلائها المتناثرة.
ومع ذلك، فقد كان من الأفضل لمعلمة المدرسة المحالة على التقاعد منذ ثلاثة عقود، أن تكتفي بتحويل الجملتين الاستفهاميتين إلى نداء مجهول المنادى، لا أن تطلب من رئيس البلاد وزعمائها الأشاوس معاينة مصابها الأليم والوقوف على خاطرها، كشرط مسبق لإخلاء منزلها المتصدع. ذلك أنها تعلم تمام العلم، أنه لو كان لهؤلاء جميعاً أن يقوموا بواجباتهم في رعاية شعبهم والسهر على أمنه وقوت يومه، لما كان لهذه الكارثة أن تحدث. وهي تعلم في قرارتها، أن من أشاحوا بوجوههم وأسماعهم عن المطالب المحقة لآلاف المتظاهرين الذين يفترشون الشوارع والساحات منذ عشرة أشهر، لن تفلح استغاثة امرأة عجوز في تحريك مشاعرهم المتحجرة، أو إعادة ضمائرهم المعطلة إلى العمل. قد تكون الأزمنة والأماكن قد اختلطت على روز غريب، فعادت ألفاً ومائة سنة إلى الوراء لتتماهى مع استغاثة المرأة العربية التي صرخت «وامعتصماه»، بعد أن وقعت سبية في قبضة الروم. لكن ما فات المربية العجوز، هو أن الزمن غير الزمن، وأن من تخصّهم بالنداء ليسوا ورثة المعتصم بالله لكي يخلصوا المرأة من السبي وينتزعوا أكثر من «عمورية كرمى لخاطرها المكسور، بل هم الذين حولوا الوطن إلى محميات مغلقة لإنتاج الكراهية المتبادلة والعنف الأهلي الطائفي، وهم الذين جعلوا السياسة مرادفاً للكذب وانعدام الأخلاق، والحكم أداة للنهب ومراكمة الثروات والتوريث العائلي (الأبدي)».
على أن ما حدث لبيروت قبل أسابيع هو عين ما حدث لها قبل ثمانية وثلاثين عاماً حين واجهت وحيدة تقريباً، وعبر ثلة من المقاومين، الجيش الأكثر عتواً وتسلحاً في الشرق الأوسط. وهو، على هوله، ليس جديداً على مدن العرب وعواصمهم وأوطانهم التي ما تزال تتعرض منذ قرن كامل للسبي أو الاستباحة أو القضم الممنهج، دون أن يفلح صراخها المدوي في إيقاظ رعاة الخذلان من غفلتهم الخانعة أو تناومهم الدهري. وهو ما عبّر عنه الشاعر السوري الراحل عمر أبو ريشة بشكل مؤثر، في ميميته المدوية التي أطاحت بحكومة جميل مردم في منتصف خمسينات القرن الفائت، يوم كان الشعر ما يزال قادراً بعد على إلهاب المشاعر وإسقاط الحكومات، حيث قال مستلهماً الواقعة التاريخية الشهيرة، ومُظهراً الفروق الشاسعة بين حاضر العرب المعتم وماضيهم المضيء:
لا يُلام الذئب في عدوانهِ
إن يكُ الراعي عدوّ الغنمِ
رُبّ «وامعتصماه» انطلقتْ
ملء أفواه الصبايا اليُتّمِ
لامستْ أسماعهمْ، لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم
«هل يُعقل هذا؟ أهذا هو لبنان العظيم؟»
هذا لا يُعقل بالطبع يا روز، ولا قبَل للعقل بفهمه أو استيعابه، لأنه جزء من مسرح العبث أو اللامعقول الذي ما يزال يتعاقب على خشبته مجموعة من القتلة واللصوص وقاطعي الطريق على المستقبل.
وانفجار المرفأ لم يكن في دلالته العميقة سوى تعبير فظ عن تصدع الأسطورة النمطية المؤسسة للبنان القديم، الذي شاء راسمو حدوده ودوره، أن يكون المختبر الأمثل للتفاعل بين الأديان والثقافات، وواسطة العقد الأهم بين الشرق والغرب، وأن يكون سفير الصحراء لدى البحر، وسفير البحر لدى الصحراء.
إلا أن ذلك الدور لم يعد له من أثر، والمختبر الحضاري المفترَض انفجر بما فيه، بعد أن حوّله سماسرة الموت إلى مخزن هائل لنيترات الأمونيا.
وقبل قنبلة المرفأ، كان هؤلاء أنفسهم قد أطلقوا في أرجاء البلد الصغير قنابلهم الفراغية المتتالية التي أخلت السياسة من كل جدوى، وقوضت ركائز الأمل، وحرمت الناس من لقمة عيشهم، وأوصلت الاقتصاد إلى حضيضه.
لقد سبق لأدونيس في قصيدته الشهيرة «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف» أن هتف بمعاصري تلك الحقبة من المناضلين وطالبي التغيير «جاء العصف الجميل\ ولم يأت الخراب الجميل».
على أن العصف ما يزال يعقب العصف، والجلجلة ما تزال تتبع الجلجلة، فيما «شعب لبنان العظيم» ما انفك ينتظر بلا طائل ذلك الخراب «الجميل»، الذي تتنازعه نياشين الجنرالات وحدوس الشعراء.