شهادات «جندي مكلف طبيب» من قلب المعارك

32 سنة على انتهاء الحرب العراقية ـ الإيرانية

الحرب العراقية - الإيرانية
الحرب العراقية - الإيرانية
TT

شهادات «جندي مكلف طبيب» من قلب المعارك

الحرب العراقية - الإيرانية
الحرب العراقية - الإيرانية

أول توقيع عرفته وأحببته كان توقيع أمي الثانية، خالتي «جميلة»؛ الحرف الأول من اسمها يلتفّ مثل موجة تنمو باطّراد، وتتكسر، ثم تتشظّى، وتنتهي. كانت تعمل مديرة مدرسة، لا أدقّ من حرصها، وتنظيمها، وإمعانها في ترتيب الوثائق والشهادات وقوائم الرواتب، وغير ذلك مما كانت تحمله معها إلى البيت، تنجزه في ليالي الشتاء الطويلة في غرفتها، أو في غرفة المعيشة حيث تلتمّ العائلة، وحيث كان الطفل الصغير يرقبها، ويحبّ كل ما تقوم به، ويجرّب بسبابة يده، من أثر الانفعال، أن يرسم اسمه مثل موجة تنمو باطّراد، وتتكسر على الشاطئ. في تلك السنين كان أبي يعيش في عزلته القديمة، جندي اشترك في الحرب العالمية الثانية، وسُرّحَ من الجيش، ثم أُحيل على التقاعد، وعاد مثل المنفي إلى مدينته الأولى يعيش حياة التبطّل. في مجلسه المعتاد، عند أواخر الأصيل، وعندما تكون السماء التي تشرف من النافذة خالية من التعابير، يحلو لأبي أن ينقش اسمه على الورق، ويتبعه باسم جَدّي، يمدّ في الخطّ، ويقصر، ويرسم دوائر، وزوايا، ثم يضع ما يشبه الرايات المثلثة يؤطر بها لقب العائلة، ويعود يشابك بين الحروف، ويداخل، ويضع علامات غير مفهومة في الأخير فوق الحروف، ولمّا ينتهي من عمله، يدخّن سيجارة.
توقيعي الأول في أيام الصبا، وفي الشباب الأول، كان يشبه زورقاً بشراع تعصف به الريح، وظلّ رسمي هذا حتى قامت الحرب. الآن أنا جندي في لواء المشاة البحري (445) في ميناء أم قصر، ويتطلب عملي أن أقوم يومياً بالعشرات من الأعمال التي لا تُنجز إلا بتوقيع: وجبات طعام الجنود المرضى، والأدوية الموصوفة للعلاج، والإجازات المرضية، وشهادات الوفاة، وغير ذلك مما يجري في وحدة عسكرية فعّالة في البرّ والبحر. مع كلّ توقيع يجب ذكر الاسم، والرتبة العسكرية، والصنف؛ جندي مكلّف طبيب، وأعلاه يكون التوقيع. وبسبب كثرة العمل وزحمته اختصرت كل هذا إلى ج. م. طبيب، وجمعتُ كلّ هذا في شكلٍ جديد صار هو توقيعي، وسوف يتنقّل معي هذا في وحدات عسكرية ترتحل بين شمال الوطن إلى غربه وشرقه وجنوبه، وإلى جنوب الجنوب.
مشهد رقم 1
في يوم شتوي غائم قمت بفحص محتويات شاحنتين من أكياس الخَيْش فيها قليل من التراب والعظام؛ وهو ما يُعرف في علم الحرب برفاة الشهيد. من بين أكثر من ثلاثة آلاف رفات عثرتُ على قرصين معدنيين لجنديين، وأربع بطاقات شخصية، وقصاصة ورق فيها اسم بقي يحتفظ بحروفه واضحة. كان عملي بصفتي طبيباً يقتصر على تدوين أرقام وأسماء الجنود على شهادة الوفاة، أما بقية الأكياس، فقد حمل التراب وبقايا العظام فيها بدلاً من أسمائهم، هذا النعت الغريب: «شهيد مجهول»، وكان عليّ أن أحرّر لكل واحد منهم شهادة وفاة، وفي أسفل الورقة أوقّع...
مشهد رقم 2
انتحر آمر وحدتي العسكرية في أحد أيام نيسان في المعركة التي عُرفتْ بـ«الحصاد الأكبر»، اشتعلت نيرانها آنذاك في أهوار مدينة البصرة، وفي منطقة المملحة ونهر جاسم. كان الملجأ الذي يسكنه الآمر يقع لِصقَ مقر الطبابة، حيث أعمل. لم يحتمل النقيب الطبيب، وهذه رتبته، وكان صديقي، ومن نفس الدفعة التي تخرّجت منها في كلية الطب، لم يتحمّل المسكين أن يسقط ألوف الجنود قتلى في كل يوم، فأطلق النار على رأسه من مسدسه، وسقط رأسه على المنضدة. كان شعره الأشقر الداكن يكاد يكون كستنائياً، القذال منه مصطبغ بالأحمر، لكن شاربه ظلّ محتفظاً بلونه البنّي الخفيف. كان عليّ أن أحرّر وصفاً بالحادث إلى الجهات العسكرية العليا؛ مدخل الطلق الناري عند أعلى الصدغ، والمخرج في أسفل القحف، وعدد كِسر العظام المهشّمة، والوشم البارودي على الوجه الفتي الجميل. قطرة قطرة تتبّعتُ الدماء التي تفجّرت على حائط الملجأ، وعلى أرضه، وعلى السقف، وبعد أن دوّنت هذه التفاصيل، ومعها حزني الشديد، الذي لم أستطع كتابته على تقرير الطبّ العدلي الخاصّ بالحادث، بعد كل هذا العناء الذي لا يوصف، وضعت إمضائي في الأسفل: جندي مكلف طبيب.
مشهد رقم 3
عاقب ضابط جندياً بالحبس في سجن الوحدة العسكرية. وحدث أن نسي السجّان أمر هذا الجندي البائس، فظل في مكانه أياماً دون طعام ولا ماء. شمس تموز شوتْ دماغ الشاب الجنديّ، ففقد وعيه، وعندما عدته كنت أعلم أنه ميت لا محالة، لكني كتبت له الدواء، ومعي في القلب مني أمل يشبه ما تحمله الأم، ووقّعتُ على أصناف الدواء، وعلى أنواع الأمل... مرّت الأيام، وبدلاً من أن يغيض لون الشاب، مع تدهور حالته الصحية، انتبهت إلى أن سحر وجهه الفتي ظلّ يتنامى شيئاً فشيئاً، ويزداد كذلك النقاء في السحنة، مع ازدحام خطوط توقيعي على أوراق الفحص. وجهه الطفولي، وقد علاه البياض، فأصبح أشبه بالزنبقة. في إحدى زياراتي، وبينما كنت أفحص النبض في ساعده، أحسستُ بحركة غريبة، حيث عادت الحياة إلى يده وحدها دون بقية الجسد. كنت أستطيع سماع النهار يشرق في النوافذ في الصالة في المشفى حيث يرقد. فجأة، أمسك الجندي الشاب بذراعي، متشبثاً بها بقوة غير عادية، وكان ينظر إلى الأعلى، عيناه الداكنتان مفتوحتان على وسعهما، وتشيان بأمر لم أكن في تلك البرهة أتفهّمه. راحت أصابعه الدقيقة والقوية تنغرز في عظام ساعدي، وتعاون ثلاثة من الجنود الممرضين الأقوياء ليفكّوه عني. وكانت عيناه المفتوحتان، بالرغم من كونه فاقد الوعي، تتسعان مع كل لحظة تمرّ. كأن هاتين العينين العنودتين الآسيتين تبصران كلّ شيء، وتحذّراني مما سيحلّ بي...
شهرٌ وأربعة أيام وخمس ساعات ودقيقتان ظلّ الجندي ينازع في المستشفى، ثم صرعه شبح الموت في الأخير، وكان عليّ أن أكون حكم هذا النزال، وأعلن النتيجة للجميع، وفي الأخير أوَقّعْ!
انتهت الحرب، وتسرّحت من الجيش، وها أنذا أعمل طبيباً في مكاني، ما يسمونه عيادة خاصة بلافتة تحمل اسمي. أعالج المرضى، وأصفُ لهم الدواء، وتعاليمه، وغير ذلك من إرشادات طبية، وفي أسفل الورقة المزدحمة بالحروف والأرقام، أوّقع. الغريب في الأمر أن رسم إمضائي ظلّ كما هو: ج. م. طبيب، أكاد أحفره على ورقة العلاج من شدة حبي له، متمهلاً، متأنياً، تماماً مثلما كان يفعل أبي وهو ينقش إمضاءه، وملتذاً كذلك به لأنه كان التعويذة التي خرجت بها حياً من محرقة الحرب. أتأمل الرسم البديع في كل مرة، وكأني أرى توقيع أمي الثانية، خالتي «جميلة» يتشكل أمامي...
ومثلما لكل فصل نهاية، انتهى توقيعي الحربي:
كنت أجلس في مكاني المعتاد في البيت، وكانت ابنتي رند ذات الأربعة أعوام تلهو بالكتابة على سبورتها بقلم الزيت. الأفق الساحر كان يدخل النافذة متناغماً مع مشهد عصر يوم صيفيّ. ابنتي تخطّ، وتمحو، وترسم، وتشخبط. إلى أن هتفت بي:
«انظر يا أبي!».
تبدّد الصمت الخامل فجأة بصياحها، وبدهشتي بما رأيت:
رسمت حاءً أولية ممدودة، تنتهي برقم يشبه جناحي طير، وهو ثمانية، ثم خطّت طفلتي في الأخير شخطة فوق الطير.
قد صار رسم ابنتي منذ تلك اللحظة توقيعي!



فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

فتاة العبّاسية في أحلام نجيب محفوظ

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

كان في حياة نجيب محفوظ قصة حب غريبة الشأن. قصة حب صامت ومن طرف واحد. حب عابدٍ مُتَوَلِّهٍ، خاشعٍ يرفع القرابين لإله لا يعلم حتى بوجوده. كمثل امتناننا للشمس كل صباح وهي لا تدري بوجودنا ولا نحن نتوقع منها ذلك. إلا أن الغرابة لا تتوقف عند هذا الحد. فهذا الحب الذي خبره محفوظ وهو صبي على عتبات المراهقة بقي معه طوال عمره المديد، وكان له أثر بليغ في قصصه ورواياته في كل مراحله الإبداعية، وحتى النهاية، حيث تتجلى تلك المحبوبة التي أسميها بـ«فتاة العباسية» تجلياً عظيماً في آخر أعماله إطلاقاً: «أحلام فترة النقاهة».

كان محفوظ يتحدَّث حديثاً مباشراً وإن كان نادراً عن تلك الفتاة ما بين الفينة والفينة، أذكر منه على سبيل التخصيص ما قاله في أحاديث سيرته الشخصية إلى رجاء النقاش والتي نُشرت بعنوان «نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته» (1998). ها هو يحكي القصة في اختصار: «في العباسية عشت أول قصة حب حقيقية في حياتي، وهي قصة غريبة ما زلت أشعر بالدهشة لغرابتها كلما مرت بذهني، وكنت أيامها على أعتاب مرحلة المراهقة (...) كنت ألعب كرة القدم في الشارع مع أصدقائي، وكان بيتها يطل على المكان الذي نلعب فيه. وأثناء اللعب شدني وجه ساحر لفتاة تطل من الشرفة. كنت في الثالثة عشرة من عمري، أما هي فكانت في العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة في العباسية. رأيت وجهاً أشبه بلوحة (الجيوكاندا) التي تجذب الناظر إليها من اللحظة الأولى. ربما جذبني إليها بالإضافة إلى جمالها أنها كانت مختلفة عن كل البنات اللاتي عرفتهن قبلها. لم تكن فتاة تقليدية مثل بنات العباسية، بل كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحركاتها، وهو طابع لم يكن مألوفا آنذاك... ظل حبي قائماً لهذه الفتاة الجميلة من بعيد ومن طرف واحد، ولم أجرؤ على محادثتها أو لفت انتباهها إلى حبي الصامت، واكتفيت منها بمجرد النظر (...) استمر الحب الصامت لمدة عام كامل. وكم كان حزني شديداً عندما تزوجت فتاتي وانتقلت إلى بيتها الجديد. كنت أعلم أن ارتباطي بها شبه مستحيل، رغم ذلك همت بها حباً (...) وصدمت لزواجها بشدة. انقطعت عني أخبارها، ومضت الأيام (...) إلا أن حبي لها لم يهدأ أبداً، وظلت آثاره عالقة بقلبي وذاكرتي (...) ولقد صورت قصتي مع تلك الفتاة في رواية (قصر الشوق) مع تعديلات تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية». (ص105 - 106).

كانت «قصر الشوق»، ثاني أجزاء «الثلاثية»، هي العمل الأكبر الذي تجلت فيه قصة الحب تلك وتجسدت فتاة العباسية في شخصية «عايدة شداد» وتجسد حب محفوظ لها في افتتان كمال عبد الجواد ابن التاجر البسيط بعايدة ابنة الباشا، قاطنة القصور. لكن حضور فتاة العباسية ملحوظ لمن يتقصَّاه في أعمال محفوظ منذ مجموعته القصصية الأولى «همس الجنون» في باكورة حياته فصاعداً، وقد رصدت ذلك في أحد فصول كتابي «استنطاق النص» (2006). أما آخر تجليات فتاة العباسية فكانت في آخر مراحل حياته، فالفتاة التي طاردت وعيه الظاهر طوال عمره، انتقلت إلى مطاردة وعيه الباطن أيضاً في الختام، كما نرى في «أحلام فترة النقاهة» الذي نُشر سنة 2005 قبيل رحيله. وقد أحصيتُ في كتاب الأحلام هذا وحده (ناهيك عن القسم الثاني منه الذي نُشر لاحقاً بعنوان «الأحلام الأخيرة» في 2015 بعد أن اكتشفت أسرته المزيد من نصوص الأحلام) - أحصيت 16 نصاً من مجموع 239. سأقتصر هنا على ثلاثة منها مع محاولة لتفسيرها.

ها هو نص الحلم رقم 18: «تمَّ مجلسنا على الجانبين في القارب البخاري. بدا كل واحد وحده لا علاقة له بالآخرين. وجاء الملَّاح ودار الموتور. الملَّاح فتاة جميلة ارتعش لمرآها قلبي. أطلَّت من النافذة وأنا واقف تحت الشجرة، وكان الوقت بين الصبا ومطلع الشباب. وركَّزتُ عينَي في رأسها النبيل وهي تمرق بنا في النهر. وتتناغم خفقات قلبي مع دفقات النسيم. وفكَّرتُ أن أسير إليها لأرى كيف يكون استقبالها لي. لكني وجدت نفسي في شارعٍ شعبي لعله الغورية، وهو مكتظٌّ بالخلق في مولد الحسين، ولمحتها تشق طريقها بصعوبة عند أحد المنعطفات، فصممت على اللحاق بها. وحيَّا فريق من المنشدين الحسين الشهيد. وسرعان ما رجعتُ إلى مجلسي في القارب، وكان قد توغَّل في النهر شوطاً طويلاً. ونظرت إلى مكان القيادة فرأيتُ ملَّاحاً عجوزاً متجهِّم الوجه، ونظرتُ حولي لأسأل عن الجميلة الغائبة، ولكني لم أرَ إلا مقاعد خالية».

يستدعي هذا الحلم فتاة العباسية. تلك الفتاة التي كانت تطل من النافذة حيناً بينما يتأملها الفتى محفوظ المشدوه بجمالها من الطريق، أو التي تمر في عربة تجرها الخيل فيراها في نافذتها. أظن الرحلة في القارب هنا هي رحلة الحياة وكون الفتاة هي الملّاح في تلك الرحلة إشارة إلى كونها كانت منارة هادية للكاتب في حياته الإبداعية. تَحوُّل المشهد من القارب البخاري إلى شارع مكتظ، ليس مما يُستغرب في الأحلام لكن الفتاة تبقى مبتغاه. يقتفي أثرها حتى تختفي منه في الزحام، كما اختفت فتاة العباسية من حياته في صدر شبابه. كما أن الإشارة لمولد الحسين والمنشدين الذين يتغنون بمأساته وشهادته لعلها لا تخلو من إلماع إلى «استشهاد» الراوي في هذا الحب العصيّ. وعلى عادة الأحلام في تنقل مسارح الأحداث يعود المشهد من حي الحسين إلى القارب. وأظنه هذه المرة هو قارب الموت الذي يحمل الموتى إلى العالم السفلي كما في الأساطير القديمة. فالمقاعد التي كانت مشغولة في البداية صارت كلها خالية إلا من الراوي الذي يبدو أن دوره قد حان. كما أن الملاح لم يعد الفتاة الفاتنة وإنما عجوز متجهم الوجه يُذكّر بـ«شارون» ملّاح الأساطير الإغريقية الذي كان ينقل أرواح الموتى في قاربه إلى مملكة «هاديز» رب العالم السفلي. انقضت رحلة الحياة إذن، وها هو الراوي يشق طريقه إلى عالم الأموات حاملاً معه شوقه الدائم إلى الفتاة الجميلة التي لم تكن له في أي وقت من الأوقات، ولا حتى في الأحلام.

ننتقل الآن إلى الحلم رقم 83: «رأيت الكارِتَّة مقبلة حاملة فاتنة درب قرمز، ويجرها جواد مجنَّح. اتخذت مجلسي فيما وراءها، وفرَد الجواد جناحَيه فبدأت ترتفع حتى علونا الأسطح والمآذن، وفي ثوانٍ وصلنا قمة الهرم الأكبر، وأخذنا في عبوره على ارتفاع ذراع، فجازفتُ وقفزتُ إلى قمته وعيناي لا تتحوَّلان عن الفاتنة وهي تعلو وتصعد، والليل يهبط والظلام يسود، حتى استقرَّت كوكباً مضيئاً».

هذا النص الغنائي الرهيف هو نموذج آخر للحنين لفاتنة الصبي المراهق محفوظ. فتاة العباسية التي كان يلمحها أحيانا تمرّ في «كارتّة» تجرها الخيل فلم تفارق خياله الغض مدى العمر. في هذا الحلم ينقلها محفوظ من العباسية حيث عرفها بعد أن انتقلت أسرته إلى العباسية في سن الثانية عشرة - ينقلها إلى درب قرمز في الجمالية حيث وُلد وعاش صباه الأول. وهي نقلة بارعة لا يقدر عليها سوى الأحلام، وكأنه يعود بها إلى السنوات الاثنتي عشرة من حياته التي خلت منها لكي تضفي عليها الشرعية وتضمها إلى بقية عمره التي قضاها في التعبُّد إليها. في هذا «الحلم» ينضم لها في عربتها، وهو ما لم يتسنَّ له في «العِلْم». كما أن حصان العربة في الواقع يترقَّى إلى جواد مجنَّح في الحلم، ولا غرابة في ذلك فالجميلة كانت دائماً مثالاً شاهقاً بعيد المنال بالنسبة له. وحتى في الحلم تبقى كذلك، فهي وإن سمحتْ له بالركوب معها، فإنه يكون «وراءها» وليس إلى جانبها. وحتى في الحلم هو يدرك تماماً أنه غير مؤهل للمضي معها في رحلتها، ولذلك يتحين الفرصة قافزاً من العربة إلى قمة الهرم الأكبر قبل أن تواصل العربة شق طريقها إلى مَراقٍ ليس هو أهلاً لها. حتى في الحلم تحتل فتاة العباسية مكانها نجماً مضيئاً بين النجوم ويبقى هو على الأرض يتطلع إليها في السماء. تماماً كما بقي يفعل طوال حياته.

نختم بالحلم رقم 84: «رأيتني في شارع الحب كما اعتدت أن أسميه في الشباب الأول. ورأيتني أهيم بين القصور والحدائق وعبير الزهور، ولكن أين قصر معبودتي؟ لم يبقَ منه أثر، وحل محله جامع جليل الأبعاد، رائع المعمار، ذو مئذنة هي غاية الطول والرشاقة. ودُهشت، وبينما أنا غارق في دهشتي انطلق الأذان داعياً إلى صلاة المغرب، دون تردُّد دخلت الجامع، وصلَّيت مع المصلِّين، ولمَّا ختمت الصلاة تباطأت كأنما لا أرغب في مغادرة المكان؛ لذلك كنت آخر الراحلين إلى الباب، وهناك اكتشفت أن حذائي قد فُقد، وأن علي أن أجد لنفسي مخرجاً».

هذا الحلم وثيق الصلة بسابقه رقم 83. المعبودة هنا هي المعبودة هناك. إلا أنه هنا يخلط بين واقع حياته الأولى وبين تجليات المعبودة في إنتاجه الأدبي. فالمعبودة الواقعية كانت عابرة في «كارتّة» أما المعبودة المطوَّرة فنياً فهي عايدة شداد، معبودة كمال عبد الجواد في «قصر الشوق»، والتي كانت من عائلة أرستقراطية من ساكني القصور. نعرف غرام محفوظ بتحولات الزمن، ومن هنا تحول القصر إلى جامع في الحلم. ولنلاحظ أن القصر لا يتحول إلى أي جامع، بل هو جامع من طبقة القصور، فهو «جليل الأبعاد»، «رائع المعمار» وله «مئذنة شاهقة». فهو مكان عبادة يليق بالمعبودة في تحوله الجديد كما في سابق عهده. وإسراع الراوي إلى دخول الجامع لدى سماعه الأذان هو فعل عبادة نحو المعبود القديم ساكن القصر بمقدار ما قد يكون فعل عبادة لرب الجامع. وإطالة المكث في الجامع حتى أن الراوي كان آخر المغادرين هو من رغبة التمسح بالموضع الذي كان سابقاً مقام المعبودة. إلا أنَّ الحلم ينتهي بمفاجأة هزلية حين يجد الراوي أن حذاءه قد سُرق عندما يقرر مغادرة الجامع. هذه نهاية واقعية عابثة لحلم مُغرِق في الرومانسية. ولعلها سخرية محفوظية ذاتية. فكما أن فتاة العباسية التي طاردت صورتها خياله طوال حياته كانت أشبه بالوهم، وكما أن كمال لم يعنِ يوماً شيئاً لمعبودته عايدة شداد، بل كان موضع سخريتها ووسيلة امتطتها لإثارة مشاعر الغيرة في مَن كانت تريده حقاً، كذلك قصر المعبودة وجامعها الشاهق وتعبُّده القديم المجدد عبر القصور والمساجد لا يتمخض إلا عن حذاء مسروق وعابد عاري القدمين لا يعرف كيف يدبر رحلة العودة من المحراب.